(1)
السيسي لا يكذب طول الوقت، ولا يفشل دائما؛ لأنه لا يخلص لأي شيء، ويخطئ في ممارسة كل شيء، فهو يكذب على الكذب، ويفشل حتى في الفشل نفسه، لهذا يبدو أحياناً "كـ رجل"، ويبدو أحيانا "كـ صادق"، فهو الذي قال مثلاً إن
مصر صارت "شبه دولة"، أي أنها لم تعد دولة، بل تبدو "كـ دولة"، وبالتالي فلا عجب أن تبدو مؤسساتها مسبوقة دائما بحرف "الكاف": برلمانها "كـ برلمان"، وقضاؤها "كـ قضاء"، وإعلامها "كـ إعلام"، وانتخاباتها "كـ
انتخابات".
(2)
تساءلت منذ سنوات: هل هذه الأيام التي نعيشها حياة، أم مهلة لانتظار الموت؟ وهل الشوارع التي نمشي فيها شوارع، أم أنها "حاجة كدا"؟ والماء والطعام، المعارضة والحكومة، المدارس والأحزاب، الصحف والسينما، المستشفيات والمصانع، الإنترنت وفاتورة النظافة. وكل شيء في مجتمعنا السعيد هل هو حقيقي؟ أم أنه "حاجة كدا"؟.. "حاجة شبه أبو جد بس مش بجد"؟
كلمة "كدا" تعني "كـ(هذا)"، أي أنها ليست "هذا نفسه"، بل حاجة تشبهه "كـ"!
(3)
في نهاية الثمانينيات، كنت وصديقي الراحل الناقد الأدبي والمناضل السياسي عزازي علي (رحمة الله عليه) في سهرة خاصة، بمنزل عمنا النقيب كامل زهيرى على نيل الزمالك.. لم تكن سهرة بالمعنى الذي يخطر ببالكم، لكنها كانت "كـ سهرة"، لذلك اقترح ليلتها عمنا زهيري أن نضع حرف "كاف" قبل أي شيء نتحدث عنه. فالحياة في مصر لم تعد من وجهة نظره حقيقية، لهذا قال: حتى نبدو لأنفسنا "كـ صادقين" لا بد أن نتفق أن هذه الأيام التي نعيشها ليست حياة، بل تبدو لنا "كـ حياة"، وهكذا صارت إضافة "الكاف" لكل شيء وسيلة لضبط التعريفات في زمن الاشتباهات والتشابهات.
(4)
بعد سنوات من تلك السهرة (الكـ سهرة)، كتبت مقالا لتدشين الكاف "كـ نظرية" واخترت له عبارة طويلة "كـ عنوان"، نصها: "كأنني مواطن، كأنه وطن، كأنها حكومة، كأنها حياة، ..وكأننا نعيش"، وأصر الصديق إبراهيم عيسى (وهو مستغرق في الضحك)، أن يضع العنوان الغريب "كـ مانشيت" رئيس لجريدة "الدستور"، واللطيف أنني اكتشفت أن الناس لم تكن تنتظر المقال لتطبيق "نظرية الكاف"، فقد كانوا أسبق منا في النظرية، واستخدموها منذ زمن طويل "كـ حل" ذاتي لمشكلاتهم في مواجهة التجاهل الرسمي، فالحكومة مثلاً تبنى في الصباح سوراً يعزل مساكن المواطنين العشوائية عن الشارع الرئيسي "فيخرمه" الناس في المساء "كـ ممر" ليعبروا إلى بيوتهم من أقصر طريق، وتسمعهم يأمرون سائق الميكروباص في ثقة: "عند الفتحة يا أسطى"، حتى تحولت "الفتحة" إلى علامة بارزة، وأصبحت "كـ محطة" تؤكد انتصار "التخطيط الشعبي" على "التخبيط الرسمي".
(5)
كعادة الحكومات في بلادنا، لم يهتم أي شخص "كـ مسؤول" بتفسير هذا السلوك الفطري المنظم في التشريع والتنفيذ، والذي يشمل كسر أسوار حديدية وحجرية تحت سمع وبصر عسكر لا ينامون، كما يشمل تأسيس سياسات اقتصادية تُيسّر معيشة الناس "كـ مواطنين" بعد أن تقاعست مؤسسات "شبه الدولة" عن أداء دورها، فالحكومة تدفع لموظفيها شبه مرتبات "كـ أجور" لا تسمن ولا تغني من جوع، والناس تعول الموظفين برواتب منتظمة وإكراميات تعيد تصحيح الوضع! (تأمل "كـ مثال" العلاقة بين سائقي الميكروباص وعساكر المرور)، كذلك تُمهد الحكومة الطرق أمام رجال الأعمال "كـ رأسمالية" احتكارية متوحشة، فيرد الناس بنوع من التكافل "كـ اشتراكية شعبية" (انظر مثلا توصيلات الدش والإنترنت، ووسائل كسر الشفرة للفرجة على مباريات كأس العالم).. الحكومة تغلق المصانع فيقيمها الناس "كـ مشروعات" في "بير السلم".. الحكومة تبيع القطاع العام وترفع الأسعار وتنحنى أمام الدولار، فيخترع الناس اقتصاد الأوتوبيس، و"الفَرْشَة على الرصيف"، و"كله بجنيه يا افندية".
(6)
الجهود الشعبية المبذولة لا تعني أن الناس عثرت على الحلول الصحيحة لمشكلاتها، إنها فقط تتحايل على المشكلات "كـ تصبيرة"؛ لأنها طريقة تنفق الوقت ولا تستثمره، تكرّس التخلف ولا تصنع نهضة. والمحزن أنني "كـ مواطن" لم أجد نفعاً في شعارات محاربة الإرهاب، ونداءات دعم الدولة. ولم أدرك أي أهمية لمؤشرات البورصة، ولم ألمس أي فائدة من مؤتمرات تشجيع الاستثمار، لذلك تعاملت مع كلام السلطة "كـ شعارات" للاستهلاك؛ لا تكفي "كـ خطة" لإعادة تجميع الأشلاء وبناء دولة منهارة، ولا تفيد في ترميم اقتصاد غارق في الديون، خاصة وأننا لا نعرف هوية "اقتصاد الرز": هل هو "كـ اقتصاد السوق المفتوح" أو "كـ الاشتراكية" أو "كـ التعاونيات" أو "كـ اقتصاد بير السلم وأبّعة بأبّعة جنيه"؟! لذلك، و"كـ إجابة" على هذه الأسئلة أقول: كأننا لم نسمع عن الانتخابات، وكأننا لا نرى المرشحين، وكأننا صدقنا أكاذيب الكاذب.. فلن نتحرك حتى لا نضيع البلد، ولن نسكت حتى لا نضيع البلد. إذا طلب منا التفويض سنخرج "كـ مظاهرة"، وإذا طلب منا الانتخاب سنقاطع "كـ عصيان سياسي"، باختصار: سنتصرف "كـ الأشرار".. أي أشرار، ولنستخدم ضعفنا وخوفنا واختلافاتنا "كـ أسلحة" في مواجهة هذه الأشلاء التي تبدو "كـ نظام"، وذلك المسخ الذي يفرض نفسه علينا "كـ رئيس"، من خلال مهزلة يقدمها للعالم "كـ انتخابات".
[email protected]