يرى علماء الاجتماع السياسي أن تراكم الضغوط على أي فئة أو شعب؛ يدفعه لاستثمار أي فرصة لإشعال ثورة ضد النظام الحاكم بهدف إحداث تغيرات جذرية، خاصة إن تعلقت هذه الضغوطات بمتطلبات الحياة اليومية للمواطن. فحينما لا يجد المواطن العادي ما يأكله أو يشربه أو يلبسه، بينما يرى ثروات البلاد تتكدس في أيدي المسؤولين وصناع القرار، حتماً سيثور، وحينما يرى المواطن العادي أن القانون يُطبق عليه فقط بينما أصحاب القامات والفخامات يدوسونه بأقدامهم، حتماً سيثور.
ففي يوم 25 كانون الثاني/ يناير عام2011، كان التاريخ على موعد جديد من مرحلة مهمة في التاريخ المعاصر لأهم وأكبر دولة عربية، حين تحركت الجماهير
المصرية عبر مسيرات بسيطة ذات طابع اجتماعي واقتصادي، لإعلاء صوتهم مطالبين بتحسين شروط بقائهم على قيد الحياة (عيش - حرية - عدالة اجتماعية)، وهي تحمل في صدورها وابلاً من الحقد على نظام قمعي؛ مستلهمة في تحركها تجربة شعب تونس الخضراء ومع هروب بن علي، وأركان نظامه. تطورت المسيرات البسيطة لمليونيات اسبوعية، وسرت في جسد الجماهير المصرية جرأة زائدة من القوة، وطالبت بإسقاط النظام، ورددت ما رددت حناجر أهل تونس "اذا الشعب يوما اراد الحياة... فلا بد أن يستجيب القدر".
سقوط هُبل
واستمر تصميم الجماهير المصرية على رحيل مبارك حتى رحل، فكان لهم نصيب مما أرادوا، وجاء المجلس العسكري الذي حكم مصر وتولى فيها زمام البلاد لفترة مؤقتة، ثم انتخب الشعب الدكتور محمد مرسي رئيساً لمصر.
مصر في عهد مرسي
يُجمع الكثيرون على أن عهد مرسي كان عهداً رائعاً تنفس فيه الناس الصعداء، حيث اتسعت مساحة الحرية بكافة انواعها، خاصة على الصعيد الإعلامي فنشأت الكثير من القنوات الفضائية بعضها خاص وبعضها مسيس، وصحف ومجلات جديدة. فالكتاب كتبوا وقالوا، فصدقوا وكذبوا، واخذ نشطاء مواقع التواصل حرية لم يعهدوها من قبل.
وقد كان للكثير من هذه الفضائيات والصحف والنشطاء دور كبير في شيطنة جماعة الإخوان، وألبوا الشارع ضدها وضد مرسي؛ لأنه لم يرق لهم تولي جماعة الإخوان دفة الحكم في مصر. وتستمر الشيطنة وتأليب الشارع حتى وصلنا لمرحلة 30 حزيران/ يونيو.
هل 30 يونيو ثورة أو انقلاب؟
استمر رجالات الحزب الحاكم البائد وأنصاره في الادعاء بأن مرسي سبب دمار البلد، فاجتهدوا وسخّروا إمكانيات هائلة؛ مدعومين بجهات خارجية عربية وغيرها، جعلهم يحشدون ضده الكثير من قطاعات الشعب الذين تأثروا بالإعلام الهابط، فنزلوا للميادين في 30 حزيران/ يونيو، واستخدموا تقنيات تصوير حديثة لتظهر أن مصر كلها خرجت ضد مرسي.. وجاءت لحظة الانقلاب.
انتفض شرفاء مصر ضد الانقلاب، وكان موعدهم في ميدان رابعة العدوية، واستمروا حتى فعل نظام القمع البوليسي في 14 آب/ أغسطس في شهر رمضان، في ما بات يعرف بـ"مجزرة رابعة" التي قتل فيها أكثر من 2000 مصري.
مصر في عهد السيسي
- وصلت كرامة مصر لأدنى مستوياتها، فمصر التي كانت بيتاً كبيراً يأوي إليه العرب كلما نزلت بهم نازلة، أصبحت ألعوبة في يد غيرها، وتتحكم فيها دويلات صغيرة حجمها يقل عن حجم أصغر مدينة في مصر.
- أصبحت مصر تتسول رغيف الخبز، رغم أن بها خيرات كثيرة تفيض عن حاجة أهلها لو تم استثمارها بشكل جيد.
- باع السيسي جزيرتي تيران وصنافير، ورهن مصر لسياسة المال الخليجي ("فلوس زي الرز".. على حد تعبيره).
- ماتت أحلام المصريين بأي فرصة للتغيير أو النهضة، سرق فلوس الفقراء وطارد المصريين في الخارج والاقتصاد في الهاوية.
- قتل السيسي ودمر الكثير في سيناء من بشر وحجر وشجر بحجة "مكافحة الإرهاب".
وبالعودة إلى "هل لا زالت الثورة مستمرة؟"، تخبرنا التجارب القادمة من بطن التاريخ بأن الحرية الحقيقية لا تأتي مجاناً، وأن الثورة الحقيقة لا تنضج ولا تؤتي ثمارها بسرعة، فمرحلة مخاض الحرية عبر رحم الثورات تستغرق وقتاً وتضحيات جسام، لكنها حين تنمو وتنضج تصبح مثل النخيل يحمل على غضونه رطباً جنياً، وبالتالي فإن ثورة يناير في عرف الثورات التاريخية لا زالت في مهدها وتحتاج لرعاية أكبر من أم حنون وأب شجاع.
ورغم مرور سبعة أعوام على ثورة يناير، يمكننا القول إن توق الجمهور إلى الحرية والانعتاق من حكم العسكر الظالم لا زال قائماً في قرارة نفوسهم، بدليل استمرار المظاهرات والاحتجاجات، وإن كانت بشكل خفيف. ولعل انفضاض الكثير من مريدي الانقلاب عنه بعدما انكشفت سوءاته؛ هو اعتراف منهم بأنهم كانوا مضللين، وأنهم وقعوا في شرك الإعلام الهابط.
لماذا نكتب عن أم الدنيا؟
نكتب عن مصر لأننا تعلمنا في مدارسنا أن أي ألم يُصيب أم الدنيا حتماً سيصيب الدنيا.. نكتب عن مصر لأنها صانعة مجد الامة عبر التاريخ. ربما نحن الفلسطينيون وخصوصا أهل غزة يجمعنا بمصر ما قد لا يجمعنا بغيرها.. علاقتنا أكثر من رائعة مع مصر، منا من تزوج منهن، ومنهم من تزوجوا منا.
أنا من الجيل الذي تلقى في مراحله الدراسية المناهج التعليمية المصرية، فعرفنا عن تاريخ مصر وجغرافيتها أكثر مما عرفنا عن فلسطين تاريخاً وجغرافيا. ولا أكشف سراً شخصياً بأنني كنت أتمنى أن أكمل دراستي الجامعية في مصر، وأتزوج فتاة مصرية، لكن رياح الأحداث ساقت اشرعة سفينتي إلى حيث بلاد الماء والخضرة والوجه الحسن (المملكة المغربية).
حكاية أهل فلسطين مع يناير
ربما تشابهت الظروف بين مصر وفلسطين، ففي فلسطين يوم 25 كانون الثاني/ يناير 2005، قال الشعب كلمته وقراره بأنه يريد تغيير النظام، وغيّره عبر صناديق الاقتراع، فوضع أجنته فيها وأنجب مولوداً رأى الجميع طريقة ولادته، لكنهم سارعوا إلى قتل الجنين في مهده قبل أن ينمو وينال إعجاب الآخرين، ليس لأنه مشوه، بل لأنه سينافس أصحاب الجلالة والفخامة والسمو.. اختار الشعب الفلسطيني حركة حماس لتكون قائدة المشروع الوطني، وها هو يدفع ثمن الاختيار حتى الآن، لكنه يصبر في سبيل حرية القرار.