هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
جامعة القاهرة ساحة حرب
كانت كتيبة جامعة القاهرة تتقدم الكتائب إلى معركة النضال. وفي أحد الأيام، التقى الأستاذ حسن دوح مع مدير الجامعة، المرحوم الدكتور عبد الوهاب مورو باشا، وكان اللقاء بمكتبة بعيدة عن الجامعة، وكان الرجل هادئا تلمح في عينه صدق الوطنية.. وخلال اللقاء، أسدى إليه نصائحه كأب وقائد للجامعة؛ بضرورة الحرص على تأدية الواجب الوطني المنوط بطالب الجامعة، مع الحرص على سلامة الأفراد حتى يؤدوا واجبهم الوطني. وتبرع الرجل بمبلغ كبير من ماله الخاص، ووعد بأن مجلس الجامعة سيخصص مبلغا يكفي لشراء السلاح والتموين والملابس. والتقيت به، وقمنا بالتنسيق بين جامعة القاهرة وجامعة عين شمس (إبراهيم باشا سابقا).
استمر العمل بجدية، وكان للإخوان معسكرات أخرى في السنيطة بالشرقية، والتل الكبير، والقنطرة، وبورسعيد، فكانت الجامعة ترسل العناصر التي تستطيع أن تفعل شيئا إلى هذه المعسكرات. وقد خرجت أعداد كبيرة من الإخوان في الجامعة، ثم ذهبوا للمعسكرات المتخصصة في المناطق الأخرى شرقا. وكانت هذه المعسكرات مكانا للتدريب على العمليات الفدائية من نسف المخازن والقطارات، وحرب العصابات، وأعمال بطولية أخرى، وكان هناك إخوان آخرون مهمتهم أن يمدونا بالسلاح والمتفجرات من بقايا الحرب العالمية الثانية.
قمنا بعمليات كثيرة زلزلت المحتلين، وكانت تأتي علينا أوقات لا ننام فيها من زحمة العمل، وأذكر من العمليات الكبيرة التي قمنا بها مثلا نسف قطار القنطرة وبورسعيد، ونسف مخازن أبو سلطان، وكذلك المعركة الشديدة التي استشهد فيها عمر شاهين وأحمد المنيسي في التل الكبير، وقد أحدث استشهادهم دويا كبيرا.
حرب العصابات
كان الإخوان بمنطقة الإسماعيلية يقومون بعملياتهم الفدائية ضد جنود الاحتلال، من خطف لقادتهم، ونسف لطرق قوافلهم، ومهاجمة معسكراتهم. وكان يقود هذا التنظيم الشهيدان الشيخ محمد فرغلي ويوسف طلعت، حتى إن الإنجليز رصدوا مكافأة سخية لمن يرشد عن الشيخ فرغلي. وقد شارك في هذه العمليات الأخوان كامل الشريف، والمرحوم محمد سليم، حيث كانا يساعدان المرحوم الشيخ فرغلي في قيادته.
وفي منطقة القنطرة، كانت هناك مجموعة أخرى من الفدائيين من متطوعي الإخوان، أذكر منهم الدكتور عصام الشربيني، وفتحي البوز، وإسماعيل محمد إسماعيل، ويحيى عبد الحليم، وعبد الرحمن البنان، وعبد المحسن الهواري، وفوزي فارس، وعلي نعمان، وسعيد سلامة، وعميرة محسن، ومحمود جاويش، وأغلبهم من المجاهدين في حرب فلسطين.
لم يكن شباب الجامعات وحدهم في الميدان يزلزلون عرش المحتل، بل شارك في الجهاد كثير من المصريين على رأسهم الإخوان الذين شاركوا في حرب فلسطين، حيث قاموا ببطولات رائعة، مثل الأخ عبد الرحمن البنان، وأبو الفتوح عفيفي، وعلي نعمان، ومحمد سليم، وكامل الشريف، حيث قام عبد الرحمن البنان بنسف القطار القادم من بورسعيد. وكانت آية من الآيات؛ حيث لغم الطريق، وجلس بجوار اللغم حتى يطمئن أنه انفجر، وكانت المسافة بينه وبين اللغم لا تزيد على 50 مترا، وانفجر اللغم، وانشطر القطار، وانهمرت على عبد الرحمن الرصاصات من كل جانب، ونجاه الله بأعجوبة من موت محقق، حتى إن الإذاعات الغربية أذاعت أن الفدائي الذي قام بالعملية لقي حتفه برصاص الجنود الإنجليز.
في مجلس الشيوخ
حرّك الأثر المحسوس لكفاحنا مجلس الشيوخ، فقرر أن يشكل لجنة (شكلية) لمساعدتنا، وكانت تتكون من صالح حرب باشا، وفتوح باشا، وشريف باشا، وكانوا لواءات سابقين في الجيش، فبدأت أجتمع معهم، وكنت أسير ومعي حارسان، وهما الأخ كامل طايع، من قنا، وكان طالبا في كلية الحقوق، والمرحوم محمد عجوة، وكان طالبا في كلية الهندسة، وكانا يسيران معي في كل مكان مثل "البودي جارد"؛ لأنني كنت – في نظر المحتل - من المطلوب القبض عليهم أو قتلهم. فعندما كنت أحضر الاجتماعات مع هؤلاء الباشوات، كان حُراسي يقفون على الباب. فمرة يكون الاجتماع في "جروبي"، ومرة يكون في غيرها من الأماكن الفخمة، وأنا غير معتاد على دخول هذه الأماكن. وقد تكررت اجتماعاتي معهم، وكنا نذهب ونأكل الحلوى، ونعود كما ذهبنا دون أن نفعل شيئا، ولما ضقتُ ذرعا بهذا قلت لهم: أنا آسف، لن أستطيع الاستمرار في حضور مثل هذه الاجتماعات، فإذا كنتم تريدون إعانتنا، فنحن نحتاج لمال وسلاح، ولا نحتاج إلى رجال، ولا إلى أحد يقوم بتدريبنا، فلدينا الكثير من الرجال، ولدينا مدربون على أعلى مستوى يمكن أن يصل إليه مدرب، فإذا كنتم تستطيعون أن تمدونا بمال أو سلاح، فلا مانع من أن أحضر. فقالوا لي: لا يا بني نحن ليس لدينا مال ولا سلاح، وأقصى ما يمكن أن نمدكم به مدربون، فشكرتهم وتركتهم. وفوجئتُ بالدكتور محمد كامل حسين مدير الجامعة يرسل إليَّ قائلا: يا عاكف ماذا فعلت في اللجنة التي شكَّلها مجلس الشيوخ، فأخبرته بما حدث من كوني أذهب فيضيع وقتي، وكل ما نقوم به أكل الحلوى والرجوع دون أن ننجز شيئا، وأنا وقتي ثمين، فقال لي في حكمةٍ لا أنساها أبدا: "خليك ورا الخنزير يمكن تاخد منه شعرة". فأصبح هذا مثلا لم أنسه طوال حياتي، وهو لم يرد تشبيههم بذلك، ولكن أراد أن يقول لي: لا تمل؛ فربما تجد من ورائهم فائدة، وعدت لأجتمع بهم، ولكن لم أصل معهم لشيء في النهاية.
على خط النار
اشتعل الموقف تماما حينما هاجم الجيش البريطاني محافظة الإسماعيلية، وتصدت لهم قوات الشرطة بسلاحها المحدود في شجاعة نادرة. وتدخل شعب الإسماعيلية، وأوقف هذا الغزو البريطاني، واستشهد عدد كبير من العساكر المصريين. وقامت المظاهرات في جامعة القاهرة، وحضرت مؤتمرا ضخما بها لمساندة قوات البوليس في الإسماعيلية. وفي نفس اليوم، كنت مدعوّا لافتتاح معسكر جامعة الإسكندرية - فاروق الأول في ذلك الوقت - حيث انتفضت الإسكندرية، واهتز الثغر المكلوم، وتقدم طلبة الجامعة بأول خطوة وافتتحوا معسكرهم يوم 25 كانون الثاني/ يناير. وقد دعاني مدير الجامعة لافتتاح المعسكر، فشاهدت روعة النظام، ودقة الحركة في حرم الجامعة. فقد بدأت الجامعة عملها بتشكيل لجنة للإشراف على التدريب؛ كان من أعضائها الدكتور علي فتحي، عميد كلية الهندسة، والدكتور رشوان محفوظ، أستاذ العيون، والدكتور محيي الخرادلي، أستاذ بكلية الطب، واشتركت معهم مجموعة من الطلبة. وكان عدد الطلبة الذين يتدربون على السلاح داخل الجامعة لا يقل عن 2000، عدا المترددين من المعاهد العليا. علاوة على ذلك، نجحت كلية العلوم بالجامعة في اختراع أنواع من المتفجرات والقنابل التي استعملت في تدريب الطلبة. وقد بعثت الجامعة بأول كتيبة لها إلى أبو حماد قوامها 12 طالبا، وشاركتْ بجهد مشكور في العمليات الحربية.
كانت الثورة الشعبية المسلحة تتقدم بخطوات سريعة، وتتصاعد بقوة، لدرجة أن الحكومة كانت أضعف من تقدير أبعادها ومستقبلها، ونحن كذلك أيضا. وكنا إذا سئلنا عن مدى قدرتنا على مواجهة الإنجليز بأسلحتنا، ورجالنا، وقوانا المحدودة، نقول: إننا لسنا جيشا، ولكننا إرادة حرة، والإرادة القوية الحرة لا يمكن أن تُهزم مهما كان أعداؤها.
كان سلاحي لا يفارقني طيلة الوقت، وكان الأمر في الجامعة مألوفا أن ترى هذا الوضع للحالة التي تمر بها البلاد، وبقيت كذلك حتى بعث إلي الضابط كمال الدين حسين، وقال: الحقني يا عاكف، قبض عليّ بشنط السلاح.
اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (8)
اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (7)