هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
(ومع هذا لا بارك الله فيه)
كلما استعر أوار المظاهرات والاحتجاجات على قراره بنقل سفارة بلاده الى القدس، انتشى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب طربا، فالرجل ذو شخصية هوائية، أي انه من النوع الذي إذا رأى خلقا كثيرين يسيرون خلف نعش، تمنى لو كان هو الميت، ومن ثم فإنه ينتشي كلما رأى صورته تحرق هنا وهناك لأن ذلك -بالنسبة له- دليل على أنه مالئ الدنيا وشاغل الناس.
وظلت وسائل الإعلام حائرة في إيجاد كلمة حاسمة وناجزة تصف ترامب، وتوافقت على كلمتين: أحمق وأخرق، ولكنني وجدت، وعلى مدى أشهر، أن كلتي الكلمتين قاصرتان عن إيفاء الرجل حقه، وراجعت القواميس، ولم أجد فيها بديلا "يُنصف" الرجل، وفجأة وأنا على أعتاب النوم، أضاء مصباح في الفص الخلفي من دماغي، ورأيت في ضوئه كلمة "خُرُنق"، فنهضت من رقادي صائحا: وجدتها.
(فقرة اعتراضية: وجدتها هي الكلمة التي دخل بها الإغريقي أرخميدس التاريخ، معلنا اكتشاف قانون الطفو، وتغاضى التاريخ عن اتسام الرجل بقلة الحياء، لأنه خرج من بركة السباحة عاريا ليعلن أنه "وجدها"، رغم أنه كان بإمكانه الإعلان عن اكتشافه بعد ارتداء ملابسه.
وكانت الكثير من الأشياء تطفو في الماء لمئات الآلاف من السنين، ومع هذا صارت المناهج المدرسية تنسب الطفو لأرخميدس.
ولا يختلف هذا عن اعتبار كولمبوس مكتشفا لأمريكا، ولم تكن هذه القارة مفقودة أو ضائعة حتى يقال إن كولمبس ذاك وجدها، فكل ما هناك، هو أنه ما أن وصل أوروبي خلال القرون الفائتة إلى مكان ما لم يكن معروفا لدى الأوربيين، إلا وجعلوه مكتشفا لها.
فالعالم الرحالة العربي عبد الله محمد الإدريسي، رسم خارطة دقيقة لما صار يعرف ببحيرة فيكتوريا في عام 1160م وبعده بسبعمائة سنة وصل إلى تلك البحيرة الإنجليزي جون سبيك، فصار على ذمة مقررات الجغرافيا في كل أنحاء العالم "مكتشفها".
والدليل هو أنها وإلى يومنا هذا، تحمل اسم ملكة إنجلترا في ذلك الأوان فيكتوريا، ولم يحفل العالم بحقيقة أن البحيرة ظلت تحمل ثلاثة أسماء على مدى قرون قبل وصول سبيك إليها، فلها اسم في طرفها الكيني، وآخر في الطرف اليوغندي، وثالث في الطرف التنزاني [انتهت الفقرة الاعتراضية بعد أن انفلقت إلى قسمين.
ما علينا. وجدت في كلمة خرنق ضالتي في وصف ترامب، وهي مفردة دخلت القاموس بعد ما نطق بها الممثل المصري عادل إمام، في مسرحية شاهد ما شافش حاجة، واستحق أن يوصف بتلك الكلمة، لأنه كان يقوم بدور شخص ساذج وعبيط، لا يفهم كيف تسير الأمور من حوله (للشاعر الراحل أحمد مطر مقولة بديعة: ظللنا نحلم بإمام عادل، ثم اكتفينا بعادل إمام).
ترامب من جماعة "خالف، تُعْرَف"، ولهذا فكل كلامه وقرارته نشاز، ولا كبير تثريب عليه في ذلك، فهو ابن ثقافة دولة أسسها مهاجرون، على أنقاض ثقافة وتاريخ سكانها الأصليين، ثم رأوا أن يخالفوا ما هو سائد في البلدان التي أتوا منها، فصاروا يلعبون الفوتبول/ كرة القدم بالأيدي.
أما الفوتبول كما هو معروف في سائر أقطار الأرض، فقد أسموه سوكر، وكهرباء المنازل عندهم ذات 110 فولت، بينما عند غيرهم من أهل الأرض ذات 220 فولت، وأزرار مفاتيح إنارة مصابيح الكهرباء عندهم -وبعكس ما هو سائد في البلدان الأخرى- تشعل المصابيح بالضغط إلى الأعلى (من تحت إلى فوق).
وكون الخرنق ترامب يطرب لمظاهرات الاحتجاج، لا يعني أنها عديمة الجدوى والمردود، وصحيح أنها لن تحمل الرجل عن الرجوع عن قراره، ولكن ترامب، ومن حيث لم يكن يرمي، تسبب في صحوة الشارع العربي، فلأن الناس على دين ملوكهم، فقد نسيت الشعوب العربية، لحين طويل من الدهر، بإيحاء من قادتها، أن القدس محتلة منذ عام 1967، وأن القدس "فرع" للقضية الأصلية (فلسطين).
ثم جاءت الصفعة الخرنقية، ودخلت الحكومات العربية في أظافرها خجلا ووجلا، وانتفضت الشعوب العربية بعد طول سبات (وطويل الجرح يغري بالتناسي)، وآزرتها الشعوب المسلمة، وحتى جماعة رام الله انتفضوا، بعد أن وقعوا في حرج عظيم لأن الجماهير استذكرت أنه حتى الضفة الغربية "محتلة ومختلة"، وأن أبو مازن رئيس لدولة افتراضية، فحسب منطوق اتفاقات أوسلو- مدريد، فإن المسمى الوظيفي لأبو مازن هو "رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية".
ولكن وبما أن أبو عمار تسمى بالرئيس الفلسطيني، ف"ما فيش حد أحسن من حد"، ولا يهم أن كل ذلك يندرج تحت بند "ألقاب مملكة في غير موضعها/ كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد".
والشاهد عندي هو أنه ليس من الضروري للمظاهرات والحشود الاحتجاجية أن توصف بالنجاح، فقط عندما يتحقق للمتظاهرين والمحتجين ما يريدون "تطبيقا أو إلغاء"، فدورها الرئيس هو الشحن المعنوي، والتعبئة وتحريك الأوضاع الراكدة، وإيقاظ العقول وتوصيل "الرسالة" إلى أطراف لم تكن تنفعل بـ"الأمر" موضوع الاحتجاج والتظاهر.
ظل الراي العام العربي في حال تيه وضياع منذ ميلاد السلطة الفلسطينية، ثم أصيب بالقرف بعد ان تسيد أمثال بسام أبو شريف وجبريل الرجوب ومحمد دحلان الميدان، فأعطوا القادة العرب المبرر لترديد نريد ما يريده الفلسطينيون لأنفسهم"، وهكذا تم اختزال الشعب الفلسطيني في بضعة شخوص لا يحسنون حتى تمثيل أنفسهم.
وهكذا يكون ترامب قد أوقد انتفاضة شعبية عربية عارمة، بدأت تؤتي بعض أُكْلِها، ليس لأن جماعتنا النائمين في كهوف الحكم السياسية سيستيقظون، ولكن لأن أوروبا صارت الترياق المضاد لترامب، فيما يتعلق بحق الفلسطينيين في العيش في ظل دولتهم (وليس سلطتهم) الخاصة، وبهذا نستطيع أن نقول إن الشعوب العربية شرعت خلال الأسابيع الماضية، في استئناف مسيرة الألف ميل الوعرة والشاقة.