"لن نحاسب على المشاريب هذه المرة"، كما يحدث عند أي تصرف طائفي، فتلقى باللائمة على المجتمع المصري، الطائفي بالفطرة، ويظهر الحاكم العسكري في صورة من يحمي المسيحيين من أكلة لحوم البشر، ويستغل ما جرى لتعميق زواج المتعة بين الانقلاب والكنيسة!
لقد استيقظ الرأي العام على صورة لقداس بإحدى القرى المصرية في الشارع، وكان الوقوف على الحقيقة مبكرا مانعا من التوظيف السياسي لها، لخدمة التحالف سيئ الصيت بين رأس الكنيسة الأرثوذكسية وقائد الانقلاب العسكري، فقد دأب أهالي قرية "محمد موسى" بمحافظة المنيا على الصلاة في أحد المنازل، لكن حدث في هذه المرة أن رفض المسؤول الأمني السماح لهم بذلك، على أساس مخالفته للقانون، الذي يجرم الصلاة، أو "القداس"، في مكان غير مرخص به، ونصحهم بأن البديل هو الصلاة في الشارع!
في تقديري أن المسؤول الأمني، لم يكن جادا في طرح هذا البديل، وهو الذي بدا كما لو كان ينحاز للقانون، لأن المخالفة القانونية قائمة في الحالتين، سواء كان "القداس" في الشارع، أو في منزل غير مرخص بالصلاة فيه، لكنه بطرح البديل كان يعلم يقينا، أن المشهد قد يستفز بعض المسلمين فينبعث أشقاها، ويحرض على الاعتداء على "القداس"، بعدها يجري التنديد بالحادث الطائفي في الداخل والخارج، ويتحرك على إثر هذا عبد الفتاح السيسي فيأمر ببناء كنيسة لأهالي القرية من ماله الخاص، ويذهب إلى الكاتدرائية لتقديم التهنئة بأقرب عيد، وسط حفاوة رجال الإكليروس بقيادة البابا، الذي قال من قبل إن الله يرعى الرئيس، ووسط تصفيق حاد من الحاضرين، للرجل الذي يحمي المسيحيين، لتكون مناسبة سعيدة لصرف الأنظار بعيدا عن سوء الإدارة، وإدارة السوء!
إزاء تعنت السلطة ومنذ عهد مبارك، في مسألة بناء الكنائس، يضطر المسيحيون في كثير من القرى للصلاة في منازل أو دور مناسبات اجتماعية، مما يجعلهم يقعون تحت طائلة القانون، وفي مصر، نعرف الحكم بالأريحية، فيتم السكوت على مخالفة القانون لوقت الحاجة لمحاسبة المخالفين، وفي مرات عدة، كان يتم الاعتداء على من يشاركون في "القداس"، عندما تستدعي الحالة الأمنية والسياسية ذلك، فيجري تصوير (السيد الرئيس) في الدوائر الغربية، ومنذ عهد مبارك، بأنه من يحمي المسيحيين في مصر، ولولاه لأصبحوا لقمة سائغة في أفواه المسلمين أكلة لحوم البشر!
وليس الرئيس وحده هو من يستفيد من هذا التصور، فالمسيحيون الذين يبغونها عوجا للانضمام لإخوانهم في الدول الغربية (بلاد المهجر) يفيدهم ذلك، فادعاء أن وطنهم الأصلي يحدث فيه الاضطهاد الديني يسهل إجراءات حصولهم على اللجوء، تمهيدا لحصولهم على الجنسية في البلد الذي اختاروه للعيش!
والبابا يستفيد – كذلك - من الحوادث الطائفية، في تدعيم مكانته ونفوذه، فيمرر هذه الحادثة أو تلك، مقابل تعزيز دوره كرئيس لدولة الأقباط في مصر. كما تستفيد السلطة بضمان استمرار انحياز "كتلة تصويتية" لها كلما دعا الداعي للانتخابات، محلية، أو برلمانية، أو رئاسية، أو نقابية، كما تستفيد بتوظيف الإعلام لهذه الحوادث في شغل الرأي العام عن الإخفاق في ملفات سياسية، والفشل في إدارة البلاد!
عندما رفض "المسؤول الأمني" السماح لمسيحيي قرية "محمد موسى"، واسمها الدارج "الفرن"، لم يكن القانون هو ما يشغله، لأن في إقامة "القداس" في الشارع مخالفة أيضا للقانون، ونوع من التجمهر يستلزم موافقة أمنية، وإلا صار عملا يقع من يشارك فيه تحت طائلة القانون، ولعله كان ينتظر عندما وافق القوم على الأخذ بنصيحته، أن يتحرك مسلم موتور للاعتداء على المشاركين في "القداس"، فخاب ظنه!
لقد فوت المسلمون في القرية سالفة الذكر، الفرصة على الأجهزة الأمنية، وفي كل مرة يقع اعتداء على من يقيمون "القداس" في البيوت، كنا نعلم أن هذا تم بتحريض أمني، لتحقيق ما سلف ذكره، ولا يمكن أن نتجاهل أن الحكم العسكري كالحكم الديني، يحمل جينات طائفية بداخله، يعبر عنها بين الحين والآخر، وكانت واضحة في أحداث ماسبيرو الشهيرة، عندما اندفعت مذيعة التلفزيون المصري بتوجيه من العسكر تدعو المسلمين لمواجهة المتظاهرين المسيحيين الذين يعتدون على الجيش، وإذا كانت خضعت للتحقيق أمام النائب العام، فقد تدخل الحكم العسكري ليحميها. وإذا كانت الضرورة اقتضت وقفها عن العمل، فقد أمر العسكر باستقبالها استقبال الفاتحين في قناة تلفزيونية خاصة هي "صدى البلد"، وسط صمت كنسي لا تخطئ العين دلالته!
ما علينا، فقد جاء مشهد "قداس الشارع"، ليطرح سؤالين على درجة كبيرة من الأهمية:
السؤال الأول: هل يجوز "قداس الشارع" من الناحية الكنسية، بمعنى أن المسيحيين كما المسلمين جعلت لهم الأرض مكانا للصلاة وطهورا؟ أم إن "القداس" تم من باب الاستعراض، أو للفت الانتباه إلى وجود مشكلة؟!
السؤال الثاني: هل يعني استمرار إقامة "القداس" في البيوت بعد عام من تطبيق قانون ترميم وبناء الكنائس، أن القانون لم يحل أزمة بناء الكنائس، أم إن القوم في عزبة "محمد موسى"، لم يقدموا على خطوة التقنين القانوني لوضعهم؛ استعلاء، أو ابتغاء الفتنة؟!
لقد تذكرت وأنا أشاهد "قداس الشارع" للوهلة الأولى، كيف تحول "قداس الثورة" في ميدان التحرير، إلى عمل ترقيعي، وكان يراد الإعلان به عن الوحدة الوطنية في أيام الثورة بالدعوة لـ "قداس"، لم يحضره قس من الكنيسة الأرثوذكسية، فسد العجز أحد القساوسة بالكنيسة الإنجيلية، وهم قوم حليقو اللحى ولا يرتدون ملابس الكهنوت، ففقدت الصورة معناها، كما حدث لسد العجز في العدد، أن شارك فيه مسلمون، وكل من كان في "القداس" من الكنائس الأخرى، وكأننا أمام "مجمع أديان"، وليس قداسا خاصا بالإخوة المسيحيين!
عندما سألت إن كان موقف البابا شنودة المعادي للثورة والمنحاز لمبارك، يقف وراء عدم حضور ولو قس واحد إلى الميدان، وعزوف المسيحيين الأرثوذكس عن المشاركة في الثورة؟ قال لي بعض الزملاء من المسيحيين إن الأمر مرده إلى أن الكنيسة الأرثوذكسية لا تعترف بالقداس بعيدا عن الكنيسة!
يفرض علينا السؤال الثاني، سؤالا مهما وهو: إذا كان قانون ترميم وبناء الكنائس، لم يحل أزمة بناء الكنائس و"القداس المنزلي"، فلماذا أقر أصلا، وما هو السر في التعجيل به، وهو منحة النظام الانقلابي، للبابا، لتجاوز أحداث تفجير "الكنيسة البطرسية"، وقد استقبله البابا بزفة وهو يعلن أنه صحح خطأ دام أكثر من (160) سنة، وعليه قدم في موعظته الشكر لكل المسؤولين لإصدار هذا القانون. وسط تصفيق حاد من كل من استمعوا لموعظته؟!
عموما، فهذه المرة لن يحاسب الشعب على أخطاء السلطة التي تنحاز لها الكنيسة، بما يضيع حقوق المسيحيين الطبيعية، بل وحقوق الوطن في أن يحكم حكما ديمقراطيا مدنيا، وهي أخطاء للمحافظة على أوضاع تنال من فكرة الدولة، وتجعلنا أمام زواج متعة، يدفع فاتورته الوطن من لحم الحي!
عزيزي المسيحي في قرية "الفرن".. مشكلتك مع البابا.