لم تكن "رابعة" هذا العام سوى حائط مبكى، كما كان يُخطط لها، وكأن من خطط لذلك هو جهاز مخابرات عبد الفتاح السيسي!
كل المناسبات الخاصة بالانقلاب تحولت إلى مجرد ذكرى، فلم تعد ذكرى الانقلاب أو الفض، أو المذابح، تعني أكثر من مناسبة ننشط فيها ذاكراتنا بما جرى فيها، فليس هناك دعوة إلى موجة ثورية جديدة، وليس هناك هلع في رأس السلطة يستدعي التواجد الأمني في الميادين والشوارع، ولم تكن الذكرى هذا العام تخيف إلى درجة اتخاذ تدابير خاصة، لتمر بسلام!
لم يجد المهندس يوسف ندا في ذكرى الانقلاب هذا العام، نفسه مضطرا ليقطع الطريق على أي حراك ثوري، فيعلن أنه تلقى اتصالاً هاتفياً من ضباط في الجيش، يبشرونه بأنهم انتهوا من وضع الرتوش النهائية لانقلابهم على عبد الفتاح السيسي، ولم يكن "إعلام الموالاة"، مضطراً لفبركة الأخبار الإيجابية لتفويت ذكرى يوم الفض، بدون أزمة، ولم يعد "أصحاب الشرعية" بحاجة إلى وقف محطتهم التلفزيونية، كما كان يحدث من قبل عندما تقترب ذكرى الانقلاب والفض، وحتى لا تجد نفسها مضطرة، لأن تدعو للحراك الثوري، أو تنقل هذا الحراك، وآخر جولة كانت في ميدان المطرية منذ عامين، وقبل أن تصدر الأوامر له بالتوقف!
كان يوسف ندا يختفي، وعندما تقترب الذكرى يظهر بخبر الاتصال الهاتفي، ولم نعلم من أين عرف ضباط الجيش رقم هاتفه ليتصلوا به، ويخبروه أن انقلابهم على نظام عبد الفتاح السيسي أصبح قاب قوسين أو أدنى، ولماذا هو بالذات؟!.. ومن المعلوم لنا أن قواعد اللعبة في أيام مبارك، كانت تفرض أن يبتعد الإخوان عن الجيش، فلما قامت الثورة، لم يكن لهم أنصار بداخله، على العكس من الجماعات الإسلامية الأخرى التي اخترقت الجيش في وقت مبكر، وكان حادث المنصة، من نتاج هذا الاختراق، فضلاً عن حوادث أخرى، مثل الفنية العسكرية وغيرها.
ولست هنا في معرض تقييم هذه السياسة، التي هي جزء من قواعد اللعبة المتفق عليها بين النظام والإخوان، فلم أكن مرتاحاً لأي حضور لضباط الجيش إلى ميدان التحرير في أيام الثورة وتجلياتها، فأنا مع أن يبتعد الجيش عن السياسة تماماً، فلا يكون جزءاً من الثورة، أو من الثورة المضادة، ولا يكون في الحكم، أو في المعارضة. غاية ما في الأمر، أنني أردت أن ألفت الانتباه، إلى عدم معقولية ما كان يروج له يوسف ندا!
لقد تحولت إعلانات الرجل السنوية، عن اتصالات تفيد بأن انقلاباً سيقع، إلى نكتة، فالجنين في بطن أمه، كان يعلم أن المستهدف بها، هو قتل روح الحماس الثوري في النفوس، وعندما فقدت إعلاناته معناها، قام الإعلام الموالي باستكمال المهمة!
في ذكرى الانقلاب والمذابح من العام الماضي، اختفى يوسف ندا، وظهر خبر لا نعرف من روج له في البداية، وإن كنت قرأته، أول ما قرأته في موقع "اليوم السابع"، يفيد أن المملكة المتحدة، ستمنح حق اللجوء السياسي لكل من يطلبه من الإخوان، فيكفي أن تكون إخوانيا، ليكون من حقك أن تعيش على أرض بريطانيا العظمى، حيث الماء والخضرة والوجه الحسن. والخبر دغدغ العواطف الجياشة لكثيرين، فمن ذا الذي يمكن أن يتورط في فعل ثوري، قد يضر فيحول دون حمله للجواز البريطاني، بعد فترة "اللجوء المريح"؟!
وكتب زميلنا "قطب العربي" أنه رغم ذلك، لن يقبل اللجوء، وهو صادق عندي، فأنا وهو من جيل، وربما من بيئة لا تتوافق نفسياً مع فكرة اللجوء، ولا يمكن أن يقدم على ذلك – لا قدر الله ولا سمح – إلا بدافع الضرورة القصوى، وليس في هذا تقليل من قدر من اضطرتهم ظروفهم للجوء، أو حتى من افتعلوا ظروفا لذلك، ولكن هي تركيبة نفسية، عصية على الفهم والتوضيح.
ما أقصده أن خبر منح اللجوء، صدقه الجميع، وقد ثبت أنه "فبركة صحفية"، لكن أدى الغرض منه، بمرور الذكرى بسلام، حتى صدقه صديقنا "قطب" وإلى الآن لم أتعرف على من أطلق هذه الأكذوبة التي نسبت للصحافة البريطانية؟!
وكان اللافت، هو ما نشرته "وكالة أنباء الأناضول" قبل ذكرى الفض في العام الماضي، من أن الأمم المتحدة قررت التحقيق في مجازر "رابعة وأخواتها"، وكان خبراً كاذباً جملة وتفصيلا، لكنه داعب "الخيال العاطفي" لكثيرين، فعليهم التخلي عن رباطة الجأش، ما دام المجتمع الدولي قد قرر أخيراً أن ينتصر للدماء، واستغرق الجميع تحليل الخبر، وما وراء القرار الدولي! والذي ليس له إلا معنى واحدا، وهو أن الدوائر الغربية قررت التخلص من الانقلاب العسكري، وساعتها لن يكون أمامها إلا أن تستدعي القوم للحكم، باعتبارهم البديل الحقيقي للجيش!
"الأناضول" وكالة أنباء تركية، لكن لا أعرف انتماء من يدير القسم العربي فيها، وقد كتبت أسأل عن مصدر خبر قيام الأمم المتحدة بالتحقيق في وقائع الفض، لكن كنت "أنده ويرد الصدى"!
وكما سبق وأشرنا فقد حدث في المناسبات السابقة، أن توقف إرسال قناة "مصر الآن"، في أحد الأعوام وقيل إن ذلك لأسباب تقنية، وفي العام التالي وقبل موعد ذكرى الفض والانقلاب، أغلقت القناة وقيل إن هذا تم بناء على توجيه تركي، وما تردد أن الأتراك غضبوا، للإساءة التي لحقت بهم في أمر لا دخل لهم به، ولا أستطيع إلى الآن أن أجزم ما إذا كان قراراً داخلياً، أم تركياً!
فلما كانت ذكرى الانقلاب والفض في هذا العام، لم يكن الإخوان بحاجة إلى إغلاق قناتهم، كما لم يعد الأمر يستدعي فبركة الأخبار وترويجها، وليسوا بحاجة إلى تحضير روح يوسف ندا، الذي هو "فص ملح وذاب" ومن المؤكد أنه يشعر بالأمان السريري الآن، بعد أن فقدت الثورة زخمها، ولم يعد هناك ما يخيف من تفجر الموقف في مصر في مثل هذه المناسبات، فالجميع يمارسون ثوريتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي مناسبة الانقلاب يقومون بهجاء الانقلابيين، وفي يوم الفض يعيدون نشر الجريمة، ثم ينتظرون الذكرى في العام المقبل!
لقد وصلنا إلى مرحلة "إعياء الجماهير" بعد سنوات من الإرهاق والكر والفر، بدا واضحاً أن الوصول إلى هذه المرحلة مستهدفا، ولا تثريب على من قادوا الحراك الثوري، لأنهم لم يكونوا ثوريين أصلاً، إنما ما يؤخذ عليهم أنهم لم يصارحوا الناس، بأنهم لا يمتلكون رؤية لإسقاط الانقلاب، بل لم يصارحوا حتى إخوانهم في التحالف الوطني لدعم الشرعية، من الأحزاب الأخرى بذلك، فقد كانوا دائماً يخبرونهم بأن الرؤية مكتملة في أذهانهم لكنهم لا يستطيعون إطلاعهم عليها، خوفاً من تسربها، وكان الآخرون يثقون في إخوانهم ثقة عمياء، وفي مرحلة متأخرة استشعر المناضل مجدي أحمد حسين رئيس حزب الاستقلال أنه يتم الدفع بهم إلى لا شيء، فخرج بحزبه من التحالف، وأعلن أنه لا يقبل على نفسه أن يدخل السجن على مبادئ الإخوان!
وانطلقت ماكينة التشهير به، غير عابئة بتاريخه الوطني، كواحد من معارضي الحد الأقصى في زمن مبارك، ودفع الثمن بسجنه وإغلاقه حزبه "العمل" وجريدته "الشعب"، ولم يوقف ماكينة التشهير إلا قرار السيسي باعتقاله!
في هذه المرحلة لم يكن مسموحاً لأي اجتهاد خارج "تحالف دعم الشرعية"، وكان أي اعتقاد بأن أي حركة أو ندوة، يمكن أن تمثل بديلاً له، أو اجتهادا بعيداً عنه يجري تشويه كل من يشارك فيها، وكأن ما وصلنا إليه كان مستهدفاً منذ البداية!
ما وصلنا إليه هو "موات ثوري"، لدرجة أن تأتي ذكرى الانقلاب والفض، فلا نكون بحاجة إلى "الأخبار المفبركة" من نوعية الأمم المتحدة قررت التحقيق في المذابح، وأن بريطانيا قررت منح اللجوء السياسي للإخوان، كما لم نعد بحاجة إلى وقف قنوات، أو استدعاء يوسف ندا من مثواه الأخير!
والردود حاضرة: فالناس قد تعبت من عملية الاستنزاف الثوري، والمعتقلين في ظروف بائسة، دون أن يستدعي هذا محاسبة لمن قاموا باستنزاف المشهد الثوري حد إرهاق الجماهير، التي كانت تخرج للشوارع في كل يوم جمعة وكل مناسبة دون أن تحقق هدفاً، ويبدو أن الهدف كان في بطن الشاعر وقد تحقق، فلا تتحمل جماعة هي إصلاحية في الأصل، تبعات عملية ثورية حقيقية تقودها، بما قد يقع بالضرر على امتدادات التنظيم إقليميا وغربياً!
لو كان عبد الفتاح السيسي هو من يقود المشهد الثوري بعد الانقلاب العسكري، لما وصل إلى نتيجة أفضل عنده، مما وصلنا إليه!