منذ نشأة النظام الجمهوري العسكري في
مصر بحركة الجيش في تموز/ يوليو 1952، تأبدت مسألة تداول السلطة بين العسكريين في مصر على أساس أن الحاكم العسكري هو الذي يختار خليفته، أي ولي العهد، دون أن يكون هناك قانون لتوارث الحكم كما هو الحال في النظم الملكية. فقد سلم جمال عبد الناصر السلطة إلى أنور السادات أي عيّنه نائبا له، وعيّن أنور السادات مبارك نائبا له.
وبالطبع، فإن جميع أجهزة الدولة والدستور تلتزم بإرادة الحاكم، ويعبر عنها باختيار الحاكم للنائب وبإجراء استفتاء صوري بعد اختيار أكيد للنائب في مجلس الشعب الذي صممه الحاكم، ولذلك لم تكن هناك مفاجأة في من هو الرئيس القادم، على أساس أن رئيس الجمهورية هو في نفس الوقت قائد الجيش،، ليس بصفته رئيس الدولة، ولكن لأن الجيش سند السلطة في الحكم العسكري.
ظل هذا الوضع سائدا حتى تولى حسني مبارك بنفس الطريقة التي رافقتها في كل مرة شائعات تتعلق بتآمر النائب على الرئيس، كما كان أولياء العهد في النظم الملكية الشرقية يفعلون.
في عام 2005 تم تعديل دستور 1971 لكي يتحول اختيار رئيس الجمهورية من الاستفتاء إلى الانتخاب، وكان ذلك فيما يبدو تجملا أو استجابة لضغوط دولية، ولكن هذا التعديل لم يغير شيئا من الواقع، لأنه تم في إطار الحكم العسكري. هذه المرة لجأ النظام بكل مكوناته إلى تكريس هذا التوارث الذي لا يعتبر تداولا للسلطة بالمعنى الصحيح، ولكنه تداول للسلطة في سلالة معينة وهي السلالة العسكرية، بل إن الوضع في مصر أكبر من مجرد توارث للسلطة، وإنما هو تأميم لحياة مصر وأبنائها.
في النظم الأسرية في الخليج هناك تداول للسلطة وفق نظام للتوارث داخل الأسرة، ويكون الحاكم مثل الحاكم في مصر مطلقا ومهيمنا على جميع مناحى الحياة. فلا فرق بين مصر ودول الخليج، رغم أنه لا مقارنة مطلقا بين تاريخ السلطة في مصر وبين تاريخ السلطة في الخليج. فمصر أقدم تنظيم سياسي وقانوني ومجتمعي عرفته البشرية، فلا تقارن بأي من الدول الأخرى، وإنما الذي أدخلها في هذا التصنيف هو الحكم العسكري، ولذلك فإن تداول السلطة بين العسكريين هو في الواقع انتقال وليس تداولا بالمعنى الصحيح.
أما في النظم الديمقراطية، فإن السلطة ملك للمجتمع يضع لها ضوابط الوصول إليها وقواعد تداولها. والسلطة في الدول الديمقراطية هي السلطة المنتخبة؛ لأن الملك في النظم الملكية الديمقراطية لا يحكم، وإنما يلتزم الدستور الذي يحدد له علاقته بالسلطة قلّت أم كثرت. ولكن لأنه ليس منتخبا، فإن علاقته بالسلطة شكلية لا تؤثر على قرار السلطة المنتخبة.
عندما قامت ثورة 25 يناير كان ذلك إيذانا بأن الشعب يريد أن يقيم نظاما سياسيا باختياره، وليس بالتزوير الذي تم طوال الحكم الجمهوري حتى اقترن الحكم الجمهوري بالاستبداد والدكتاتورية والفساد، وليس هذا هو طابع الحكم الجمهوري في بلاد العالم الأخرى؛ لأن الأصل هو الديمقراطية، وأن الدكتاتورية لا تقيم نظاما سياسيا، وانما تقيم نظاما للحكم تهيمن من خلال رجالها على مؤسسات الدولة وتديرها لمصلحتها.
والغريب أنه في ظل هذا النظام العسكري، يتداول الناس مصطلحات ليست مألوفة إلا في الدول الديمقراطية، مثل الممارسة الديمقراطية والسيادة للشعب والشعب مصدر السلطات والديمقراطية وتداول السلطة والبرلمان والقضاء ودولة القانون والدولة الدستورية، وكذلك الحديث عن تعميق الديمقراطية وإنشاء دولة مدنية حديثة.
هذه المصطلحات يكثر ترديدها كلما كان النظام دكتاتوريا أي أن درجة الدكتاتورية ارتبطت في الخبرة المصرية بمعدل استخدام هذه الشعارات. والحق أن جمال عبد الناصر لم يدع أبدا أنه ينشئ نظاما مدنيا ديمقراطيا، وإنما بدأ سيل الادعاءات منذ أنور السادات.
وإذا كانت ثورة يناير(كانون الثاني) والذين خرجوا في الثلاثين من حزيران/ يونيو من شباب الثورة؛ أرادوا تداولا حقيقيا للسلطة بعيدا عن الحكم الديني أو الحكم العسكري، فليس مستبعدا أن يكون التحالف قد تم بين الحكمين لأسباب مختلفة. ولذلك فإن محاولة فرض تداول السلطة في ضوء قواعد طبيعية في ظرف غير طبيعي هو الذي أفشل هذه المحاولة، وهو الذي تسبب في تكريس أزمة تداول السلطة أو انتقالها.
وقد أعلن الرئيس
السيسي في كل مناسبة أنه يحترم الدستور وتداول السلطة، وأنه يريد إنشاء نظام ديمقراطي ودولة مدنية، وهي تصريحات تذكرنا بتصريحات السادات وحسنى مبارك؛ لأنها تصدر عن حكم عسكري، والانطباع العام أنه لا يريد التفريط في السلطة أو أنه يقبل بتداول السلطة بين العسكريين وحدهم كما كان التقليد منذ عام 1952.
فهل الرئيس السيسي يريد حقيقة تداول السلطة بين كل أبناء الشعب المصرى أم تداول السلطة بين العسكريين وحدهم؟!
إذا كان يريد الثانية، فيجب أن يفصح عن ذلك؛ لأن التناقض بين الأقوال والأفعال لم تترك متسعا للمناورة خصوصا وأن كل المؤشرات تؤكد ذلك. فالشعب المصري يريد المصارحة ولا يتحمل مزيدا من انهيار المصداقية. وما دام الرئيس السيسي قد التزم في بيان الثالث من تموز/ يوليو بخريطة الطريق؛ كان يتعين عليه أن ينفذها وأن يمتنع عن الترشح للرئاسة مصداقا لتصريحات وتأكيدات سابقة له.
نحن نريد تطبيق الدستور وتداول السلطة بين كل أبناء الشعب المصري، ولا نريد انتقالا صوريا أو عن طريق التزوير أو المسرحيات الانتخابية، لأن ظروف مصر لا تحتمل مزيدا من الدعابات.
النقطة المفصلية هي الإجابة عن هذا السؤال: إما
انتخابات حرة نزيهة بضمانات، وإما غصب للسلطة واستمرار في ذلك، وعلى الشعب المصري بعد ذلك أن يحدد موقفه من الخيارين.
أما جدية وضمانات الانتخابات الصحيحة، فأولها تأمين المرشحين أمنيا ومعنويا، فلا يجوز إرهابهم بالأمن والتلفيق واغتيالهم معنويا بالإعلام.
الضمانه الثانية هي أن تقدم الدولة مبلغا من المال لكل مرشح يستوفي شروط الترشيح، ويُحظر المال السياسي أو تلقي أموال من الخارج.
الضمانة الثالثة أن تعلن
القوات المسلحة التزامها بالحياد في الانتخابات، وأن يعرف العالم كله ذلك.
الضمانة الرابعة أن تتم مراقبة الانتخابات بالهيئات الداخلية والمراقبين الدوليين.
الضمانة الخامسة هي أن تجرى الانتخابات بإشراف حكومة من المثققين والشخصيات العامة؛ مهمتها الوحيدة إجراء الانتخابات.
الضمانة السادسة أن يقبل الجميع بالنتائج بعد كل هذه الضمانات.
الضمانة السابعة تكافؤ فرص الإعلام.
وأفضل في هذه الحالة أن لا يترشح الرئيس السيسي لاعتبارات تتعلق بسلامة المسيرة المصرية في الحاضر والمستقبل، ذلك أن الحاكم يخطئ ويصيب، ولا بد أن يُحاسب وفقا لقواعد الحساب إن كان تابعا لحزب فإن نجاحه أو فشله يعزى إلى الحزب، أما إن كان من القوات المسلحة فإنه يصعب محاسبته، ومن الظلم أن نحمّل القوات المسلحة أي قصور في أدائه؛ لأن الذي يتولى السلطة يتعرض لكل أصناف النقد ولا يعقل أن يخطئ ويقهر الناس على السكوت كما حدث في تجربة مصر لأكثر من ستة عقود.
نريد أن نبدأ بداية جديدة، وكانت ثورة 25 يناير المؤشر الأهم في حتمية هذه البداية، ولكن ما يحدث الآن هو تلكؤ ومماطلة في الاعتراف بأهمية هذه البداية.
لقد فات جمال عبد الناصر أهم شرف في تاريخه، وهو استخدام شعبيته واستخلاص درس الهزيمة، لكي يشرف على هذه البداية، وهي إنشاء دولة مدنية ديمقراطية حديثة تسودها العدالة والحرية واحترام القانون واستقلال القضاء وعدم تدخل الجيش في الحياة العامة والتزام السلطة بالقانون. خطأ جمال عبد الناصر هو الذي أدى إلى أن تدفع مصر منذ النكسة حتى الآن ثمنا باهظا ليس له مبرر.
واليوم أمام الرئيس السيسى فرصة من حيث الزمن، وليس من حيث الشعبية، ويجب أن يتحلى بالشجاعة لأن الزمن تغير، والشعوب تدرك كل شيء ولا ترضى لمصر مزيدا من الاضطراب.
أحلم أن يعلن الرئيس السيسى عزمه على عدم الترشح، بل ويمنع العسكريين جميعا من الترشح، ولا يلتفت إلى المنافقين المنتفعين وسرهم أن يتورط في الأخطاء ولا يهمهم سوي مصالحهم الشخصية، وذلك ليعطي فرصة لهذه البداية الموعودة، وألا يكرر تجربة سلفه، فالأمة لن تنتظر طويلا، وأرجو أن يأخذ بهذه النصيحة المخلصة.
أدرك أنني أقرب إلى عالم الأحلام، ولكننى سجلت نصيحتي وكسبت ثوابها رضاءً عن النفس وإبراءً للذمة. فإن تحققت فسوف تكون مصدر سعادتي، وإن لم تتحقق بقي لي شرف الجهر بالنصيحة.