صدر مؤخرا كتاب "قصة
الحرية بين النص القرآني والتطبيق
التاريخي للإسلام"، للباحث السوري عماد العبار، ويسلط الضوء على مسألة الحرية وقوة حضورها القرآني، في الوقت الذي أخفقت فيه المجتمعات العربية في ترسيخها.
ينطلق الكتاب من الثورات العربية التي دفعت إلى طرح هذا السؤال على نطاق واسع، ويرى الكاتب أن مفردة "الحرية" لم تكن تعني لإنسان المنطقة أكثر من التحرر من الوصاية الخارجية، في حين أن فكرة الحرية على المستوى السياسي والاجتماعي كبّلت من خلال تراث ومفاهيم خاطئة ساهمت في تغييبها.
ويشير العبار إلى أن ديكتاتوريات ما بعد الاستقلال في الدول العربية استفادت من هذا الظرف الثقافي والاجتماعي، فعملت على تأسيس امبراطوريات الصمت والرعب مدعومة بأفكار وتقاليد وأفهام دينية قائمة على تجارب سياسية تاريخية، تم خلالها تسخير النص الديني في لعبة الصراع على السلطة.
يتخذ الباحث السوري من الفصائل الجهادية السورية نماذج مصغرة لدراسة واقع الإسلام السياسي وموقع مسألة الحرية من البنية الثقافية العربية، "فبعد أن كانت الإجابة البدهية عن غياب الحرية والديمقراطية والتعددية بسيطة ومباشرة؛ تتمثل في أن الأنظمة هي المسؤول الأول والأخير"، كانت الصدمة، برأي الباحث، إذ أجاب الواقع عن هذا السؤال بطريقة معاكسة لتصوراتنا.
ويدلل العبار في هذا السياق بظهور ممارسات معادية للحرية من قبل بعض الذين يحاربون الأنظمة، مثل تقييد الحريات والتدخل في شؤون الحياة الخاصة، "هذه الممارسات عكست ضعفا في تأصل أفكار الحرية على مستوى الأرضية الفكرية عند غالبية الإسلاميين، وأثبتت أن الاكتفاء بتعليق مجمل أخطائنا على الأنظمة لا يقدم التفسير الشافي لتعقيدات الحالة".
أصالة الحرية
في رحلة البحث عن مفهوم الحرية في الإسلام، يتتبع الكاتب الجذر القرآني للحرية، ويبدأ رحلة بحثه مع لحظات الخلق الأولى التي تبرز الاختلافات الجوهرية بين الإنسان وغيره من المخلوقات؛ متمثلة في فكرة الاستخلاف التي أذهلت الملائكة.
يقتضي الاستخلاف، كما يبين الكاتب، الحرية ابتداء فلا استخلاف بغير حرية. الاستخلاف يعني قدرة لا حدود لها وصلاحيات مطلقة، وتعني قدرة الإنسان على التعلم، وتعني قدرته على الاستفادة من أخطاء الغير والنفس. وبهذا المفهوم المركزي في القرآن، فإن الإنسان منح حرية القيام بالفعل ثم القدرة على التحرر من الفعل نفسه، بخلاف الملائكة التي لا تفعل إلا الصواب.
يعالج الكتاب شبهة تتمثل في ملازمة الحرية للخطأ. فبالرغم من وقوع الخطأ المبكر من آدم بعد استخلافه حين ذاق الشجرة، إلا أن ذلك لم يؤثر على القرار الإلهي باستخلاف الإنسان في الأرض، وهو ما يعني أن الحرية، وإن اشتملت على وقوع أخطاء بحكم الضعف الإنساني، إلا أنها أصل ديني ثابت.
تعد آية "لا إكراه في الدين" ركيزة أخرى لقيمة الحرية القرآنية، فهذه الآية كما يذكر العبار تخلص قضية الإيمان من وسائل الإجبار أو الضغط أو أي وسيلة يشوبها شبهة استبداد، وهي آية ليست معزولة عن السياق القرآني، بل تنسجم مع عموم الخطاب القرآني الذي يحصر مهمة الأنبياء وأتباعهم بالتذكير والبلاغ؛ "لأنه لا خير في فكرة تدخل الرؤوس عنوة، ولا خير في عقيدة تقوم على الإكراه".
ويرد الكاتب على من يقول بنسخ هذه الآية بأن النص القرآني يقطع معرفيا مع كل فهم ينتج ممارسة تتصادم معه، وتلغي مقاصده، وإن هذه المفاهيم السليمة غيبت لصالح مفاهيم سائدة مشوهة موروثة عن التجارب التاريخية للمسلمين، رغم أن هذه التجارب تخالف مقاصد النص جملة وتفصيلا.
تجربة إبراهيم
يسلط الكتاب الضوء على مثال إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم، لما يتجسد في قصته من قيمة الحرية الفكرية.
ويقول: "يظهر التحرر الإبراهيمي الفكري في طريقة إقناعه العقلية للآخرين، كما في محاججته للملك، وهي ذات الطريقة التي نقرؤها في الحوار الداخلي الذي أوصل إبراهيم إلى حقيقة الكون".
يفسر الكاتب الطريقة العقلية التي يتبعها إبراهيم بأنها نتيجة لحريته، ولا يقدر قيمة الحرية إلا من عاش حرا واختار أفكاره في جو من الحرية لا شبهة فيه لإكراه. ويقول الكاتب في هذا السياق: "حين نكون أحرارا لحظة اختيار المعتقد والاطمئنان إليه، فإننا لن نرضى لغيرنا أن يرغم على فكرة لما يصل فيها إلى قناعة تامة وذاتية".
يلفت الكاتب إلى تناقض الواقع الراهن مع مبادئ القرآن، إذ يمارس كثيرون الإقصاء والتشكيك والتفكير تجاه من يطرح أسئلة حياتية أبسط بكثير من الأسئلة الوجودية الخطيرة، في حين أن إبراهيم سأل الله عن كيفية إحياء الموتى وقبل الله السؤال منه.
يصف الكتاب مدرسة إبراهيم بأنها مدرسة التحرر الإسلامي في أرقى درجاته، حيث تبرز قصة إبراهيم جوانب أخرى لمعنى الحرية، فهي تشتمل على التحرر من هيمنة الارتباط بالمكان: "ففكرة الهجرة تصبح مع الوقت ملازمة للحرية، والهجرة ضريبة نجبر على دفعها عندما يجبرنا الارتباط بالوطن على التنازل عن قسط مهم من إنسانيتنا".
كذلك يظهر في قصة إبراهيم وفق الكتاب التحرر المطلق من جراح النفس باستغفاره لأبيه. ورغم أن الاستغفار لن يغير مصير الآخر إن كان مصرا على عداوته، إلا أن للاستغفار أثرا علاجيا مباشرا على نفس الشخص المستغفر، فهو يحرره من الحقد ويسكب حالة من السلام الداخلي، وإن المقيد بالمشاعر السلبية تجاه خصومه لا يمكن أن يكون حرا، والحقد شكل من أشكال العبودية البدائية، لذلك يعادل الصفح المطلق حرية داخلية مطلقة".
التجربة التاريخية للمسلمين
في مقابل الصورة المشرقة التي تظهرها المعاني القرآنية إزاء قيمة الحرية، أخفقت التجربة التاريخية للمسلمين في الانسجام مع مقاصد القرآن، ويستدل الكتاب في ذلك بمسألة الرق، "فقد كان الأجدر أن تخلع حضارتنا عصر الرق فتجعله منسيا من ذاكرة التاريخ، كما فعل القرآن مع كثير من العادات والتقاليد التي كانت سائدة قبل مجيئه، لكن هذا لم يحدث".
ويضيف الكاتب: "لم تتح خلال مراحل التاريخ الإسلامي لظهور جيل يضع نهاية لمرحلة العبودية الصارخة عبر القيام بثورة ثقافية اجتماعية سواء في موضوع الرق أو على نطاق الحريات بشكل عام، وقد جاء إعلان انتهاء عصر الرق من حضارة أخرى، ولم يكن متوقعا أن يصدر عن حضارتنا ضمن الظروف التي كانت تمر بها، فلم تكن الظروف مواتية لظهور الجيل القادر على فعل ذلك منذ انتهاء العصر الراشدي وانحسار قيمه".
ولم يقتصر العيب وفق رؤية الكاتب في تأخر المسلمين عن إسدال الستار على عصر الرق، بل إن بعض مجتمعاتنا ما تزال تعاند للمحافظة على أشكالها البدائية، وإن أفكار العبودية الصارخة شقت طريقها لتتمظهر مرة أخرى في بيئة لم تتخلص من رواسب الأفكار السلبية".
ويدلل الكتاب على مظاهر العبودية في بعض المجتمعات الإسلامية المعاصرة بمظاهر الاتجار بالبشر أو استغلالهم في أعمال قاسية، أو الزواج القسري للقاصرات أو خادمات البيوت، أو ظاهرة الرقيق المباشر في بعض الدول، أو نظام الكفالة المعمول به في بعض دول الخليج العربي"، هذه المظاهر تمثل عبودية العصر، وتعبر عن أزمة إنسانية ذات أبعاد ثقافية عميقة.
لا تكاد تخلو مقاربة إسلامية تقليدية لموضوع الحرية من هاجس الفتنة والغواية والحريات الجنسية، الذي تشكل حرية المرأة مركزا فيها علما. وحول هذه المسألة يجيب الكتاب: "إن مقاربة المسألة انطلاقا من الرؤية القرآنية التي تساوي بين الرجل والمرأة في الحرية والخطيئة والعقاب، كما يظهر في قصة تذوق آدم وزوجته من الشجرة يجعل تجاوز هذه الهواجس مهمة يسيرة، وإن معركة المرأة لاستعادة ثقتها بذاتها على الصعيد الداخلي، ستكون أول خطوة للبناء على طريق الاستخلاف الحقيقي، فالاستخلاف يقتضي العمل وإنتاج حياة اجتماعية متعادلة في مكوناتها لا تبعية فيها لمكون تجاه الآخر، ويكون كل من الرجل والمرأة مكملا أحدهما للآخر".
يركز الكتاب على نقد التجربة التاريخية الإسلامية انطلاقا من نقد الذات، إلا أنه لا يعفي الغرب تماما من واقع العبودية الراهن؛ "فالغرب الذي قدم إسهامات إنسانية عديدة لديه ثقافة النفعية، لذلك توقفت دعوات التحرر في الغرب داخل حدود بلدانه، فالمصلحة تتوقف عند هذا الحد، أما بالنسبة للعالم الآخر خارج حدود هذا الغرب، فتقتضي مصلحة الغرب اعتماد استراتيجية مغايرة تقوم على استرقاق شعوب أخرى ودعم دكتاتورياتها، فكانت النتيجة تحررا داخليا غربيا وعبودية عالمية أكبر".
يدعو الباحث عماد العبار في ختام كتابه إلى سلوك طريق نقدية وعرة تستوعب الإيجابيات التي جلبتها الحالة المعاصرة، من حيث إنها أتت بمنزلة صعقة حضارية قد تسهم في إيقاظ الأمة لتصحو على واقعها المرير، ثم تبدأ بحثا عميقا في أسباب غياب هذه المفاهيم عن أدبياتنا وتراثنا، وفي مجمل ممارساتنا الاجتماعية والسياسية.