الخلاف في إدارة الأزمة المالية الخانقة بين الرئاسي، ممثلا في رئيسه، والمصرف المركزي، ممثلا في محافظه، تركز حول السياسات والإجراءات ذات الطبيعة الاقتصادية المالية والنقدية، لكن المعالجة لهذه الأزمة لن تكون حول السياسات والإجراءات محل الخلاف.
لقد كشف الانخفاض الحاد في قيمة الدينار الليبي أمام العملات الأجنبية خلال الأسبوع المنصرم عن تجذر الأزمة المالية وتشابك مسبباتها، وأنها لا تقتصر في احتوائها على ارتفاع الإيرادات العامة من خلال تدفق النفط من الحقول إلى الموانئ ثم الدول المستوردة.
فمنذ شهرين، شهد إنتاج النفط تحسنا، حيث ارتفع سقف الإنتاج والتصدير بنسبة تزيد عن 60%، دون أن تنعكس أخبار ازدياد النفط المصدر في شكل تحسن في قيمة الدينار الليبي، والغريب أن قيمة الدينار الليبي خلال نفس الفترة تراجعت بنسبة تزيد 12%، ليتخطى قيمة
الدولار في السوق الموازية حاجز السبع دينارات ليبية.
وبالنظر إلى بداية الأزمة المالية منذ توقف تصدير النفط من حقول راس لانوف والسدرة وزويتينه، منتصف 2013، فإن سعر صرف الدينار الليبي تأثر بشكل ملحوظ بمعدلات تصدير النفط ارتفاعا وانخفاضا، كما شهد تأثرا بالحراك السياسي والاقتصادي المتعلق بمسارات حلحلة الازمة، غير أنه أصبح أكثر جمودا الفترة الأخيرة حتى أنه لم يتأثر إيجابا بنتائج اجتماعات لندن في شهر أكتوبر وروما في الشهر الجاري والتي تركزت حول البحث في سبل احتواء الأزمة المالية وشهدت حضورا غربيا فاعلا ومؤثرا.
أحد أهم أسباب ضعف استجابة سعر صرف الدينار الليبي للحراك الإيجابي هو تعقد الوضع العام بشكل أفقد العوامل المؤثرة في قيمة الدينار فاعليتها.
لقد أصبح التوقع التشاؤمي هو المسيطر على الأطراف المعنية بالاقتصاد وبقيمة الدينار، أو التي لها تأثير مباشر عليهما، وبالتالي أدى ذلك إلى تباطؤ ردود الفعل الإيجابية وتراجع الاستجابة المرجوة للحراك الإيجابي المتعلق بجهود التخفيف من الأزمة المالية.
الأزمة المالية أوجدت حواجز إضافية بحيث أصبح من المتعذر أن يكون للسياسات والإجراءات الممكن اتباعها لمعالجة أزمة الدينار الليبي تأثير إيجابي مباشر، فالمصارف أصبحت بعيدة عن توجيه المصرف المركزي، وحلقات الفساد صارت مستحكمة، وسيكون أي تدفق من العملات الأجنبية عديما أو محدود الأثر، فالمصرف المركزي غير قادر على ضخ كميات كبيرة من النقد الأجنبي وغير قادر على الاستمرار في توفيرها لفترة طويلة، بالمقابل فإن توفر كمية كبيرة جدا من العملة المحلية خارج المصارف وانعدام ثقة الحائزين عليها في الجهاز المصرفي وقلقهم الشديد بسبب الأوضاع الأمنية المختلة سيدفع إلى امتصاص أي كميات من العملات الصعبة يدفع بها المصرف المركزي للتداول بأي صورة ممكنة.
من أبرز أسباب انعدام الأثر الإيجابي للسياسات والإجراءات الممكنة لمعالجة الأزمة المالية هو اهتراء المنظومة المؤسساتية السيادية، فالمجلس الرئاسي هو السلطة التنفيذية غير المتنفذة حتى أنه احتاج إلى وسيط أجنبي ليقرب بينه وبين المصرف المركزي الذي من المفترض أنه تابع له ومنفذ لقراراته، كما أن فوضى الوزارت وضعف سلطتها يفسح المجال لحالة التسيب في الإدارة العامة بشكل عام، والإدارة المالية العامة بشكل أكثر تخصيصا، وشهد العامان الماضيان ممارسات في الجهاز المصرفي تضمنت تجاوزات كبيرة يتعذر معها أي فاعلية للسياسات والإجراءات الممكن الأخذ بها للتخفيف من حدة الوضع المالي المتردي.
وملخص القول أنه سيكون من المتعذر احتواء الأزمة المالية أو ربما حتى التخفيف من آثارها بمجدر الاتفاق على حزمة السياسات والإجراءات المالية والنقدية، وأن تلك الحزمة ستكون محدودة الأثر ما لم يسبقها أو يعاضدها اتفاق حقيقي على المستوى السياسي والأمني تعكسه جملة من الخطوات العملية الملموسة، فضخ كميات من النقد الأجنبي لن تكون إلا بمثابة المسكن الذي يتلاشى أثره سريعا لأن الجسد منهك وأسباب إنهاكه قائمة وتتضاعف.