عراب أوسلو الذي أسّس مدرسة "الحرب على الإسلام"
يقول بعض
الإسرائيليون إن شمعون بيرس لم يعش لحظة واحدة خلف الكواليس منذ أن بدأ حياته السياسية، مبكرا في العشرينات من عمره، مع معلمه وأستاذه، دافيد بن غوريون.
في العقد العاشر من عمره أنهى بيرس حياته، لن تنته المقارنة منذ الآن بين الأستاذ والتلميذ، بن غوريون ببيرس، من هو القائد الأهم، الأبرز، الأكثر تأثيرا، الذي ترك خلفه بصمات أكثر على المشروع الصهيوني؟
كان بيرس يحب الكواليس، واختار أن يعيش خلفها لكنه دائما كان من دونها، لم يكن مثله في القيادة الإسرائيلية وضوحا، ولم يكن مثله غموضا وسرية، كان دائما يقول "نعم" مثلما كان يقول بالضبط "لا"، هكذا تحول إلى مادة للتندر والاستهزاء في انتخابات 1984 من قبل الليكود حين تم عرضه بسخرية على أنه يجيب في الوقت ذاته بـ"نعم "و"لا" على السؤال ذاته.
هكذا تحول بيرس على امتداد سنوات حياته السياسية إلى أكثر الشخصيات تعرضا للهجوم والتشكيك وصل إلى حد التخوين، حين اتهم أن أمه عربية من قبل أنصار وقيادة الليكود، فيما اتهمه شريكه الأهم، وصديقه اللدود، إسحاق رابين بأسوأ تهمة ممكن أن يتهم بها شريك وحليف سياسي، "المتآمر الذي لا يكل" (أي عن التآمر).
ولعل هذا بالضبط هو سر نجاح بيرس، هل تكون هذه الصفة بالذات هي التي منحت بيرس التواجد في ثلاثة محطات هامة ومركزية في المشروع الصهيوني، السلاح النووي وإقامة مفاعل دين وما الذي كان الشخص الأبرز في العمل لأجله حين كان مساعدا لبن غوريون، والمشروع الاستيطاني الذي يعتبر واضع أسسه في العام 1976 حين كان وزير للأمن في حكومة رابين الأولى، فيما تسجل المرحلة الثالثة، من وجهة نظرنا، كأهم وأبرز مرحلة في تاريخه، توقيع اتفاقية أوسلو في آب/ أغسطس 1993 سرا مع محمود عباس أبو مازن، سرا قبل أن توقع علانية شهرا بعد ذلك.
لا يختلف الإسرائيليون على بن غوريون كقائد الجيل المؤسس، على الرغم مما أثار من خلافات وانقسامات داخل حزبه، تحديدا في سنوات الستين حين انشق عن حزب مر أي الذي كان مؤسسه، ترك بن غوريون الحياة السياسية مبكرا، كان شديد الانفعال في رداء فعله، شبه دكتاتور، لم يقبل قرارات حزبه وقرر الاستقالة والهروب، هل كان بيرس أحد "أولاد بن غوريون" قد تعلم من معلمه أن يتصرف على عكسه تمام، وعليه سجل أرقاما قياسية في السياسة الإسرائيلية، ونجح في أن يكون في محطات مركزية وهامة، ما لم ينجح في فعله من قبل أي سياسي إسرائيلي بل وعالمي؟
السياسي الذي لا يتقن العسكرية
كان بيرس سياسيا حتى النخاع، السياسة بالعموم تمتاز بفن استثمار الواقع، ما نجح في فعله عالميا من حيث التأثير والتقدير لم ينجح في فعله إسرائيليا، كان سياسي تم معايرته أنه لم يكن عسكري، في المكان الذي يسجد للجنرالات والعسكر ويقدس القوة، بدا بيرس غريبا.
كانت حرب 1967 قد منحت للجيش الجنرالات الجيش الإسرائيلي مكانة فاقت أية مكانة، وعلى رأس الهرم تربع موشيه ديان واحد من المقربين من بن غوريون ومن الأصدقاء المقربين جدا لببيرس.
ويبدو أن "النقص العسكري " الذي عانى منه بيرس جعله ينشغل في الأمن، أو يحاول أن يعوض النقص.
لا أحد يعلم حتى الآن حجم مساهمة بيرس في إقامة المفاعل النووي، لكن ذلك لم يمنع بيرس من خلق صورة وانطباع جعلت منه بلا منازع "مؤسس المفاعل النووي".
في السياسة الإسرائيلية القادمون من العسكرية إلى السياسة لديهم قدرة أكثر على "الاعتدال" السياسي، والعكس صحيح، القادمون إلى السياسة بدون خلفية عسكرية يتميزون بلهجة أكثر تشددا وتطرفا عسكريا، الإسرائيليون متسامحون تجاه العسكر، بيرس وعلى الرغم من الصورة "الحمائمية" التي رسمت له ورسخها الإعلام كان متشددا عسكريا، ولعله أراد أن يثبت دائما أنه جنرالا أكثر من العسكر، عقدة لم تنفك عنه.
حمل بيرس صفات مناقضة لتلك التي حملها معلمه، قبل بالحسم الديموقراطي حتى حين أهين، ووصف بالخاسر الأبدي، في مرتين نجح في الوصول إلى رئاسة الحكومة وفي كلاهما لم ينتخب، مرة تقاسمها مع يتسحاق شمير من الليكود عام 1984 في حكومة تكتل وطني، وأخرى ورث بها رابين بعد مقتله عام 1995، قوة بيرس كانت في تحمله وصبره وإيمانه بأحلامه، قدرته على تحمل هزائمه
الشخصية، كان بيرس سياسيا حزبيا صغيرا، يمارس السياسة الحزبية كما هي، يتامر يبني تحالفات ينقض وعود، وكان من الناحية الأخرى زعيما عالميا تجاوز الحزبية، مؤثر، يحلم قادة الدول باستضافته، بالحديث معه، بسماع نصائحه، كان من ابرز الشخصيات العالمية المؤثرة، 70 عاما في السياسة، ما يقارب 50 عاما في الكنيست الإسرائيلي، حوله إلى حالة "سياسية أسطورية"، لكنه رغم كل ذلك لم ينل الاحترام والتقدير الذي يستحقه إسرائيليا وفقط عندما تم انتخابه رئيسا لإسرائيل، حاز على اثنتين حلم أن ينالهما كل حياته السياسية، لأول مرة ينتخب، لأول مرة يحظى بحب وتقدير
الناس.
سيذكر بيرس على أنه الموجه من الجيل المؤسس، بن غوريون كان المؤسس وهو كان الموجه، المؤسسون يؤسسون في العادة ويتركون التوجيه لغيرهم، البصمات التي تركها بيرس تفوق تلك التي تركها بن غوريون.
من جهة أخرى يقول البعض أن هذا هو بيرس، يتصرف كما يجب وكما يقتضي الموقف، لم يترك لحظته تفوته، سياسي صغير في العمل الحزبي، قائد إسرائيلي ترك خلفه بصمات كبيرة، "يميني متشدد" كما في دعمه لانطلاق المشروع الاستيطاني عام 1976,عسكري متشدد كما في عملية عناقيد ومجزرة قانا عام 1996 حين أشغل منصب رئيس الحكومة خلفا لرابين ووزيرا للأمن، وبصفته وزيرا للأمن أيضا صمم أن تكون عملية عسكرية في عنتيبي في أوغندا بعد أن تم خطف طائرة ايرفرانس وعلى متنها إسرائيليين من قبل فدائيين، فيما طالب غالبية الوزراء بخيار ت فاوضي.
بيرس أيضا قائد عالمي لم يكشف دوره العالمي بعد، ولكن في مسألة واحدة كان له دور عالمي، ولعله الشخص الذي انطلق بهذا المشروع، الحرب على ما تم تسميته ب"الارهاب"، الذي تحول فيما بعد بالحرب على الإسلام.
بيرس كان مؤسسا ومخلصا ومنفسا
واحد من أبرز مؤسسي إسرائيل وأهمهم، مخلص للحالة الإسرائيلية عالميا حين كانت تقع في مأزق بالذات في الفترة الأخيرة، مخلص لأنه كان يحمل أحلاما كبيرة، تتجاوز السياسة الإسرائيلية، واحد من أهم من رفعوا مجد إسرائيل عالميا، مجد المشروع والهيمنة العالمية، وما خفي أعظم.
بيرس منفس أيضا، نفس العرب وأحلامهم، والفلسطينيون بشكل خاص، عراب أوسلو.
يميل العرب في العادة ذكر محاسن موتاهم، سأنتظر حسنة واحدة يذكرها العرب عن بيرس "رجل السلام"، الذي سيرثيه عرب كثر.
نجح بيرس في إحلال نكبة ثانية على الشعب
الفلسطيني، اسمها أوسلو، يرى البعض من العرب -وهم كثر- أن هذا بالذات منح بيرس صفة الرجل الذي "يحب السلام"، أو "أمير السلام" بحسب البعض، والحقيقة أنه لم يكن إنسان واحد، زعيم وقائد، في تاريخ إسرائيل، نجح في إقناع العرب والفلسطينيين أن قتلهم ومجازرهم لصالحهم مثلما فعل بيرس، بعد مجزرة قانا عام 1996، وحين كانت الدماء لم تجف بعد، هروب العرب بالأفهم للتصويت ببيرس الذي نافس في حينه نتنياهو، ونادوا عبر مكبرات المساجد الناس للخروج للتصويت لبيرس، هل تصدقون؟