قام الكثير من الخبراء والباحثين، ناهيك عن الصحف الرصينة، خلال الفترة الماضية بالزعم بأنّ
تركيا تقف بقوّة خلف الهجوم الأخير لفصائل المعارضة السورية المسلّحة في
حلب، لا سيما معركة كلّية المدفعية، وأنّ هذا الدعم التركي النوعي هو الذي أحدث الفارق في هذه المعركة محققا خرقا استثنائيا قلّ نظيره، لا سيما في الأشهر الماضية، وسمح للمعارضة السورية بكسر الحصار.
ما يثير الاهتمام في هذه الرواية، أنّه بغض النظر عن الدوافع الحقيقيّة التي تقف خلف هذه المزاعم، فإن أحدا من هؤلاء لم يورد دليلا واحدا على هذه الرواية. بمعنى آخر، اعتمد هذا الزعم على "التخمين" أو "التحليل" في أحسن الأحوال، ولم تكن هناك أي معلومة رصينة قابلة للاختبار. لم ترد معلومات دقيقة نقلا عن مصادر رسمية أو غير رسمية يمكن فحصها والتحقق منها عبر القنوات نفسها، لا بل إنّ كثيرا منهم قام بإيراد شهادات مضحكة جدا وسخيفة نقلا عن "نشطاء" مجهولين أو "مصادر موثوقة"؛ لم يقدّموا أي معلومة مفيدة، كأن يحددوا الجهات السورية التي تلّقت هذا الدعم الاستثنائي من تركيا، أو نوعه، أو المعبر الذي دخلت منه، أو الطريقة التي تمّ إيصال الدعم أو التوقيت، أو أي شيء من هذا القبيل.
صحيفة فايننشال تايمز، على سبيل المثال، وهي صحيفة رصينة، نشرت بتاريخ 8 آب/ أغسطس تقريرا لها تحت عنوان "المساعدة الخارجية وراء تقدّم التمرّد في حلب"، قالت فيه إنّ الهجوم الذي تمّ ضد قوات الأسد ربما يكون قد حصل على مساعدة خارجيّة أكبر ممّا يبدو عليه الأمر. ولتأكيد صحّة هذا الزعم، نقلت الصحيفة عن ما سمّته "ناشط سوري" قوله: "على الحدود بالأمس [التركية-السورية] أحصينا عشرات الشاحنات [عشرات تعني 30 شاحنة على الأقل] تحمل الأسلحة إلى الداخل (..) هذا الأمر يجري يوميا لأسابيع... أسلحة، مقذوفات، لا نتكلم عن بضع رصاصات أو بنادق".
الصديق حسن حسن، وهو زميل مقيم في "معهد تحرير لسياسة الشرق الأوسط" في واشنطن وكاتب في صحيفة "ذا ناشونال" الإماراتيّة، كان قد غرّد عبر "تويتر" بتاريخ 2 آب/ أغسطس عن مقاله المنشور في الصحيفة نفسها في 24 تموز/ يوليو ، مع تعليق: "مصادر موثوقة تؤكّد أنّ تركيا تقف بقوّة خلف هجوم التمرّد في حلب".
لاقت التغريدة رواجا كبيرا، وتمّت إعادة تغريدها حوالي 198 مرّة، لكنّها تعرّضت أيضا لانتقادات لاذعة. البعض علّق قائلا: "هراء موثوق"، في إشارة إلى "مصادره الموثوقة" التي أشار إليها، والبعض الآخر طالب بتفاصيل عن نوعيّة الموقف التركي الذي يجعله استثنائيا هذه المرّة، لكن لم يتم الحصول على إجابات، وهو الأمر الذي جعل الإشارة إلى "مصادر موثوقة" مجرّد ادّعاء لا يستند ألى أي معلومة قابلة للنقاش أو التحقق.
ما لم يجب عنه حسن حسن، أجاب عليه بشكل غير مباشر إبراهيم حميدي. ففي 10 آب/ أغسطس، نشرت صحيفة الحياة اللندنية تقريرا مفيدا له تحت عنوان: "عشرة أسباب وراء انتصارات "حرب الأيام الستّة" في حلب"، ذكر فيه تحت السبب المفترض السابع لانتصار المعارضة: "وجود "دعم عسكري كمّا ونوعا"، مشيرا إلى "ورود "معلومات" عن أنّ أسلحة وذخائر كانت وصلت إلى المعارضة قبل حوالي أسبوع أو عشرة أيام من بداية المعركة. وكان واضحا أن هناك ذخائر جديدة ومعدات عسكرية جديدة مثل طائرات الاستطلاع. وكان واضحا وجود قدرة تتظيمية وقيادية عند الفصائل. وكان واضحا وجود دور تركي في العملية. وهناك من ربط موعد الهجوم بأنه سبق لقاء رئيس تركيا رجب طيب أردوغان بالرئيس فلاديمير بوتين في 9 آب).
لكن مرّة أخرى، لا يوجد سوى اجتهادات وتخمينات، إذ إنّ عبارة "كان واضحا" التي تمّ تكرارها ثلاث مرّات في سطرين، ليست مصدرا لمعلومة في حدث ضخم كمعركة حلب الأخيرة؛ حتى يستند إليها في مثل هذا الزعم، وإنما هي مجرد تخمين قد يخطئ وقد يصيب.
الجانب التركي موجود في المعادلة سابقا والآن، وسيبقى كذلك لاحقا، لكن ما نقوله تحديدا في هذه المعركة، إنّه لم يكن هناك أي شيء استثنائي من تركيا نستطيع من خلاله أن نقول إنّه كان وراء تحقيق الفصائل لهذا الإنجاز النوعي والخرق الذي حصل في حلب.
الدعم التركي موجود، ولا شك أنّ عددا كبيرا من هذه الفصائل على تواصل دائم مع تركيا أيضا، وكذلك الأمر مع دول صديقة أخرى لا نريد أن نذكرها، لكن هذا الدعم الذي نتحدّث عنه لم يكن في المجمل في يوم من الأيام بالقدر المطلوب كمّا او نوعا، أو حتى توقيتا. هو دائما في حده الأدنى بالمقارنة بالتحدّيات، وغير نوعي، بمعنى أنّه لا يكسر المعادلة العسكرية القائمة، وهذا لم يتغيّر في هذه اللحظة بالذات لا قبل المعركة بعشرة أيام ولا عند إطلاق المعركة ولا خلالها.
لم يتم تقديم أي دعم استثنائي من تركيا كمّا ونوعا الآن أو قبل أسابيع بالتحديد، بحيث يمكّننا ذلك من القول إنّه كان المحفّز لإطلاق معركة حلب، أو أنّه كان وراء تقدّم أو انتصار المعارضة. ما كان موجودا خلال المرحلة الماضية بقي كما هو، حصلت بعض الاستثناءات قبل أشهر، لكنّها لم تكن آنذاك كافية لقلب الموازين، ولم تكن مرتبطة بأي شكل من الأشكال بالمعركة الحالية.
وكما أصبح معلوما، فقد أطلقت المعارضة المسلّحة هجومها الكبير لفك الحصار في حلب في 31 تموز/ يوليو من الشهر الماضي، وخلال 5 أيام فقط، انهارت قوات النظام وحلفائه في كليّة المدفعيّة، وتمّ السيطرة عليها بشكل كامل، تلاها بعد ذلك بيومين إعلان فك الحصار.
خلال فترة الأسبوع هذه منذ انطلاق المعركة وحتى إعلان فك الحصار، جرى اجتماع كبير ضمّ ممثّلي الغالبية الساحقة من الفصائل المسلّحة المعتدلة (حتى لا أقول جميعها)، التي كانت مشاركة بقوّة كبيرة في معركة حلب الأخيرة، والتي من المفترض أنّها الجهة المعنيّة بتلقّي أي إمدادات عسكرية كمّية او نوعيّة، في حال وجود هذا الأمر.. ركّزت هذه الفصائل المدعومة تقليديا من تركيا وبعض الدول الصديقة، خلال الاجتماع، على قلّة الدعم الذي يتلقّونه بالسلاح والمال، وكيف أنّ عددا كبيرا من المقاتلين لم يأخذوا رواتبهم منذ أشهر، وأنّه بخلاف الزعم الذي يتحدّث عن تلقّي هذه الفصائل أسلحة نوعية، فقد أشار ممثلو الفصائل إلى أنّهم لا يتلقون إلا سلاحا خفيفا في الآونة الأخيرة، وبكّميات محدودة جدا.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّ الفصائل لم تستسلم شيئا استثنائيا خلال الأسابيع أو الأيام السابقة، ويعني أنّ الحديث عن وجود شاحنات (أكثر من 30 شاحنة يوميا) محمّلة بأسلحة نوعيّة تنقل إليهم السلاح بشكل يومي هو محض هراء، فضلا عن حقيقة أنّه لم يُعرف عن تركيا أو غيرها أنها كانت تدخل السلاح إلى المعارضة بعشرات الشاحنات يوميا بهذا الشكل وهذه الطريقة، وعبر الحدود المكشوفة، ولو كان ذلك صحيحا لما احتاج أحد إلى ناشط مجهول الهوية أو مصادر مبهمة ليؤكّده، فمثل هذا الأمر لا يمكن إخفاؤه، ولا يحتاج إلى مصادر لتأكيده.
وحتى إذا افترضنا جدلا (من أجل النقاش) أنّ الدعم الاستثنائي جاء للمقاتلين خلال المعركة وليس قبلها، فهذا يؤكد أنّ قرار إطلاق المعركة لم يكن مرتبطا بدعم عسكري استثنائي مسبق في السلاح أو المال أو العتاد، وهذا يقوّض أيضا الزعم بأنّ تركيا تعمّدت إطلاق هذه المعركة في حلب لاستخدام الانتصار كورقة في يد أردوغان في اجتماعه مع بوتين، علما أنّ الذي اقترح الموعد هو الجانب الروسي، أمّا الجانب التركي فلم يكن لديه معرفة مسبقة أو تأكيد مسبق لموعد اللقاء. ولا نريد أن نتحدث بطبيعة الحال عن انشغال الداخل التركي خلال تلك الفترة بالتحديد بأولويّة الوضع الداخلي، نتيجة الانقلاب، وبالمشاكل المتعلقة بجهاز الاستخبارات على وجه التحديد، وكذلك التغييرات التي طرأت على المؤسسة العسكرية.