قضايا وآراء

تونس.. الدّمَقرَطةُ غير المُكَتمِلة

1300x600
ظلت التجربة التونسية، وما زالت، موسومةً بالتميز بالنسبة لعمليات الانتقال التي شهدتها المنطقة العربية غداة انطلاق "الحراك الاجتماعي" مع مستهل العام 2011. ولئن قدم التونسيون مثالاً واضحاً عن سيرورة التوافق من أجل إعادة تأسيس الشرعية وبناء المؤسسات السياسية، فقد واجهوا ويواجهون حتى اليوم تحديات الانتقال إلى الديمقراطية وصعوبات إنجاح متطلبات "الدّيمقراطية" في بيئة انتقالية دقيقة وضاغطة. فهكذا، تعاقبت على السلطة ستُّ حكومات منذ سقوط نظام "بن علي" في 14 كانون الثاني/ يناير 2011، وتولى رئيسان منتخبان ممارسة السلطة التنفيذية، ومارس المواطنون حقّ التصويت الحر والإرادي لاختيار من يقوم بالتمثيلية والوساطة نيابة عنهم، على الأقل خلال لحظتين سياسيتين فارِقتين.. وفوق هذا وذاك أغنى المجتمع التونسي رصيدَ العربِ الشِّحِّيح في مضمار كتابة الدستور وصياغته بالمشاركة الديمقراطية.

بيد أن تونس تعيش، بالمقابل، وضعاً دقيقاً قد يُربِكُ مسارها الانتقالي، أو يُعرض تجربتها للتراجع والانكفاء، إذا لم تتمكن نخبتُها السياسية من وعي المتطلبات اللازِمة لإكمال سيرورة الانتقال بسلاسة واقتدار. ويبدو من خلال الجدل الدائر حول قرار اختيار "يوسف الشاهد" رئيساً للوزراء مكلفا بتشكيل حكومة جديدة، أطلق عليها "حكومة الوحدة الوطنية"، أن تونس في حاجة ماسة إلى جهاز تنفيذي فعال وقادر على الاجتهاد الخلاق من أجل قيادة المرحلة. فما تُسجل فئات من الطيف السياسي على مؤسسة الرئاسة الحالية شيخوخة قائدها، وظلال ماضيه السياسي، وعجزه عن فكِّ الارتباط بين القرابة العائلية والمستلزمات الموضوعية لممارسة السلطة وتدبير الشأن العام. والواقع، أن تونس التي قاد حراكها الاجتماعي شباب متطلع لكتابة فصل جديد من تاريخه السياسي، وتواق لرؤية بلده يرفل في مناخ حقيقي من الحرية والعدالة الاجتماعية، يصبو أيضا لأن تخلق قيادة من جيله معنى جديداً للحياة السياسية والنماء الاجتماعي، لا أن يبقى رهين نخبة منقطعة الصلة عن زمانه، أي بعيدة عن دائرة تفكيره ومجالات تطلعاته.

يُمكن وسمُ الوضع الحالي لتونس بـ"الدمقرطة غير المكتملة"، أي الانتقال إلى الديمقراطية الذي لم تتوافر وتنضج بعد متطلباته. لذلك، توجد تونس في وضع واضح من الضعف و"الهشاشة" (Fragilité)، ومن شأن هذه الوضعية أن تكون نابِذة للتحول السياسي المنشود، ومُعيقة لترسيخ القطيعة مع ماضي ما قبل 14 كانون الثاني/ يناير 2011.

لنتأمل في واقع تونس اليوم، ونتساءل: هل يشعر المواطنون بالأمن والأمان في حياتهم؟ وهل هم مطمئنون لنوعية الخدمات المقدمة إليهم من قبل مؤسسات بلدهم؟ وهل هم راضون عن "الشرعية السياسية" (Légitimité politique) التي كرّسها الدستور وأكدتها المؤسسات؟ لا شك في أن الإجابة عن هذه التساؤلات لن تكون إيجابية تماماً، كما لن تكون سلبية بالمطلق، فتونس تعيش في منطقة رمادية، وهي في حاجة ماسة لأن تخرج من هذه الدائرة إلى وضع أكثر وضوحاً وأماناً.

تؤكد "نظريات الانتقال الديمقراطي" (Transitologie) أن حالة الانتقال مُعَرّضة بطبيعتها للصعود والنزول، وأنها معقدة وحمالة أوجه، وأن متغير الزمن (Paramètre temps) مفصلي وحاسم في سيرورتها. لذلك، لا توجد علاقة تلازمية بين الدّمقرطةّ (Démocratisation) والأمن (sécurité)، فقد يُفضي التقدم في بناء الديمقراطية إلى المسّ بالأمن، وقد تؤدي التسويات الضرورية الخاصة بتحقيق "الأمن" إلى إعاقة "الدمقرطة". وفي الإجمال تكون مخاطر عدم الاستقرار وانحسار الأمن متوقعة الحدوث في ما يسمى "الديمقراطيات الانتقالية"، كما هو الوضع في تونس.

ثمة مصفوفة من المؤشرات دالة على احتمال تحقق كل التوقعات في الحالة التونسية، بما فيها احتمال الانحدار نحو الأسفل.

لنبدأ بالمؤشر الأول، ونعتبره، في هذا الصدد، مفتاحا لاستشراف المستقبل المنظور للتجربة التونسية، ونقصد مقولة "التوافق" (Compromis). فالتونسيون، بشهادة كل من تابع مسارهم الجديد، أبدعوا في رحلة البحث عن التوافق لبناء الشرعية الجديدة في بلدهم، سواء كانوا "إسلاميين"، أم "علمانيين"، أم "قوميين"، وحتى الذين يصعب وسمهم بلون سياسي وإيديولوجي معين.. وما بعد؟ هل هم راضون عن نتائج توافقهم؟ أم قدمت وقائع بلدهم الدليل على أن توافقهم لم يكن توافقاً تاريخيا (Compromis historique)، كما حصل لدى نظرائهم من الشعوب التي عاشت تجارب انتقالية، لا سيما في الربع الأخير من القرن العشرين؟ كثير من التونسيين شرعوا في طرح علامات استفهام عن توافق نخبتهم السياسية، وما إذا كان في الواقع مجرد خطاب مُضلِّل لإعادة التموقع في المنظومة التي حكمت مسار تونس منذ الاستقلال، بفاعلين سياسيين جدد، أو بتسميات جديدة لفاعلين قدامى.

يحيلُ المؤشر الثاني، وهو صنو للأول من حيث الأثر والتداعيات، على متغير "الأمن"، بمعناه الواسع. فقد أصبح الأمن العملة المطلوبة ما بعد إسقاط النظام، والعمليات الإرهابية التي عرفتها تونس تشهد على تعاظم الشعور بعدم الاستقرار والأمان. فقد تعاقبت على السلطة ست حكومات وظل الأمن مترنحاً ومتدحرجا بين الشك واليقين.. ولعل أخطر حالة نفسية لأي مجتمع أن يعيش أبناؤه حالة الفزع في أوطانهم.

يتعلق المؤشر الثالث بطبيعة "النخبة القائدة"، ودورها في نقل البلاد نحو التغيير. فعلى امتداد خمس سنوات ظل التونسيون يأملون في أن تمتلك نخبتهم السياسية كفاءة الاجتهاد من أجل إنجاح مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية.. لكن اليوم نفد صبرهم، وشرعوا في التشكيك في امتلاك النخبة لهذه القدرة والكفاءة، أو بتعبير أوضح بدؤوا في إعادة طرح سؤال الشرعية من جديد.

الوضع دقيق ومُقلق في تونس.. والحاجة ماسة لأن ينجح التونسيون في تجربتهم، وأن يثمنوا مكاسبها ويعظموا نتائجها، كي تضع لبنة قوية في معمار البناء الديمقراطي، الذي عزّ إنجازه في البلاد العربية منذ أكثر من قرن.