قضايا وآراء

السرديات المتنافسة على حكم تونس منذ 14 جانفي 2011

1300x600
لو أردنا استلهام المطلح الفيبري لقلنا إنّ تونس قد عرفت بعد ثورتها ثلاثة أنماط مثالية من الخطاب السياسي، أو ثلاث سرديات"كبرى" تنافست -ومازالت- على إدارة "المسار الثوري" أو المسار الثوري "المضاد" -أي المتنافسة على إدارة المجال العام بصرف النظر عن توصيفنا للإرادات الفردية والجماعية المتصارعة -. وهي ثلاث سرديات تحتاج إلى تحليلات عميقة-من حيث علاقتها بالسرديات الكبرى والسرديات الصغرى وغير ذلك من الإشكاليات-، ممّا يعني أنّ هذا المقال هو من باب المقدّمات العامة التي لا تطمح إلى أكثر من إثارة السجال العام وتحريك مياهه الراكدة:


-السردية الدستورية –التجمعية  (البورقيبية الجديدة): 

هي سردية الحواضر، والسواحل و"المخازنية" –أي المرتبطين تاريخيا بالسلطة منذ عهد البايات-. وقد كان من المفروض أن تُصبح هذه السردية جزءا من تاريخ الأفكار بعد الثورة التي قامت على النسق الاستبدادي بلحظتيه البورقيبية-الدستورية والتجمعية-النوفمبرية، ولكنّ إدارة الصراع  السياسي بعد 14 جانفي 2011 على أساس"ثقافوي" بائس جعل السردية الدستورية-التجمعية تستعيد سطوتها لتظهرَ بمثابة "الحاضنة" أو الحليف الموضوعي للخطابات الحداثية ضمن "تجمّع" ميتا-إيديولوجي أساسه التقابل مع الإسلاميين وليس مع الميراث الاستبدادي وآليات توزيع السلطة والثروات المادية والرمزية فيه. ولا يوجد لدى ممثلي هذه السردية "دَين معنى" تجاه الثورة التي قامت أساسا ضد رجال أعمالها ومنتجي رموزها من الجامعيين والمثقفين والإعلاميين. منذ 2011، عبّر السيد الباجي قائد السبسي عن المنطق الأصلي لهذه السردية عندما صرّح بأنه يتحمل مسؤولية رئاسة الحكومة الانتقالية استجابة لنداء الوطن وتكريسا للقيم البورقيبية، وهو نسق حجاجي سلطوي سيصبح مثل اللازمة في استراتيجيات التغييب النسقي والمقصود لدور الدواخل ورمزية الشهداء ومفهوم القطيعة مع المركّب الأمني-الجهوي-المالي الحاكم منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا-. ولم يكن لهذه السردية أن تحيا من غير الاستفادة من التناقض الإيديولوجي بين الإسلاميين والقوى الحداثية-خاصة اليسارية منها-، بحيث وظفت-ومازالت- التناقض الهووي وغذته في سبيل حرف الأنظار عن القضايا الحقيقية وعن الأساس الاقتصادي للصراع. 

وقد احتاجت هذه السردية الدستورية التجمعية بعد الثورة إلى التحالف المرحلي مع اليسار الثقافي –داخل جبهة الإنقاذ ثم داخل نداء تونس-، ودفعت بالقوى اليسارية إلى الواجهة حتى ظن الكثير من رموز اليسار الثقافي أنهم قد سيطروا على نداء تونس وأن مواقعهم القيادية هي مواقع ثابتة. ولكنّ انحسار "الواقع الثوري" الذي فرض على الدولة العميقة أن تكون نواة "نداء تونس"من اليسار الثقافي، جعل السردية الدستورية-التجمعية تدفع بأبنائها الصرحاء إلى المواقع القيادية في الحزب الحاكم وفي الدولة، وهو ما ولّد أزمة كبيرة داخل صفوف نداء تونس ولكنها أزمة لم تستطع إلى حد الآن-رغم انشقاق اليسار الثقافي والمؤلفة قلوبهم/ جيوبهم من باقي "الروافد"- أن تحول دون استمرار السردية الدستورية-التجمعية في أداء وظيفة "الخطاب الكبير"، أي ذلك الخطاب الذي تستمد باقي الخطابات (والتنظيمات أيضا) شرعيتها ووزنها انطلاقا من درجة اقترابها أو ابتعادها عنه. وهو ما يعني ببساطة أنّ السردية الدستورية-التجمعية ستبقى-على الأقل في المدى المنظور- هي الورقة الرئيسة التي تراهن عليها الدولة العميقة من أجل إعادة التموقع والانتشار وطمس أي أثر حقيقي للثورة.

-السردية الديسمبرية (انطلاق الثورة التونسية في 17 ديسمبر 2010):

وهي سردية المفقّرين والمهمّشين، سردية الدواخل (مناطق الظل/الذل) المصاغة بطريقة جذرية لا تنحكم إلى منطق "السياسة الواقعية" ولا إلى منطق استمرارية الدولة. إنها هي سردية "السقف الأعلى" غير القابل للتوافقات والترضيات ولمنطق الواقع، أي سردية إعادة التوزيع الجذري للسلطة والثروة والقطع مع الميراث الدستوري-التجمعي ومع المنظومات الزبونية المهيمنة عليه وعلى لواحقه وتوابعه في المجتمعات السياسية والمدنية والنقابية. وهي سردية تشبه السردية الدستورية-التجمعية في أنها ميتا-إيديولوجية (لا تتأسس على أولوية أو أولية الفرز على أساس هووي ثقافوي، بل تقوم على أساس الموقف من استحقاقات الثورة ومن أفق المواطنة الاجتماعية)، وهي لا تؤمن بالأنساق الإيديولوجية المغلقة-ولا بالسرديات الكبرى في صيغها المدرسية-الصدامية-. ولا تعترف هذه السردية الديسمبرية بالحياد أو المهادنة ولا تستمرئ منطق الدولة وإكراهاته. وتنحاز هذه السردية إلى "المقهورين" ممن لا صوت-مهما كانت إيديولوجياتهم ومهما كانت مواقعهم ضمن آليات توزيع الرساميل المادية والرمزية في المجتمعات الليبرالية التابعة-، وذلك على عكس أطروحات اليسار الثقافوي أو حتى أطروحات تيارات الإسلام السياسي التي يغلب عليها جميعا المنطق السكتاري والمنظورات المؤدلجة والمتحزبة البعيدة عن المشترك المواطني-. 

ورغم أنّ هذه السردية هي "أم السرديات" وما انبثق عنها جميعا من "شرعيات" متصارعة -كالشرعية الانتخابية أو شرعية التوافق أو شرعية الأداء-، فإنها قد عجزت عن إنتاج بدائل جماعية وذلك بحكم عدم تنظمها "الحزبي"، بل بحكم عدم اعترافها المبدئي بمسار الانتقال الديمقراطي ومنطق الانتخابات. فهذه السردية الديسمبرية التي ينتمي إليها يساريون وإسلاميون ومستلقون تعتبر أن الانتخابات كانت الأداة المثلى التي مكنت المنظومة القديمة من إعادة إنتاج نفسها، وذلك لأن الشروط الموضوعية لإجراء الانتخابات لم تكن تسمح بانبثاق بديل جذري للمنظومة الحاكمة، بل كانت فقط تسمح بتعديلات جزئية لا تمس جوهر النظام ولا تهدد مصالح نواته الصلبة. وبصرف النظر عن جذرية النقد الذي مارسته هذه السردية ووجاهته معرفيا وأخلاقيا، فإن أكبر اعتراض يمكن أن يوجه إليها هي ذاتها هو التالي: ألم تساهم هذه السردية بمثاليتها وطوباويتها وتشرذمها وتضخم ذوات رموزها في دعم الثورة المضادة –بصورة غير مقصودة-، أي ألم يكن السقف المرتفع جدا لهذه السردية وفوضويتها سببا من الأسباب التي جعلت المواطن التونسي يزهد فيها ويتعامل مع السرديات "الواقعية" -يمينا ويسارا ووسطا- برغم كل عيوبها ولا مبدئيتها التي لا تخفى إلا على مشايعيها؟ 

-السردية الأكتوبرية (23 انتخابات المجلس التأسيسي في 23 أكتوبر2011):

يمكننا تسمية هذه السردية الثالثة بسردية "مأسسة الثورة". وقد قامت في الأصل على التماهي "الخطابي/الانتخابي" مع سردية 17 ديسمبر 2010، أي إنها قد انطلقت من الاعتراف الصريح بـ"دَين المعنى" تجاه الثورة التونسية وحاولت استثمار رأسمالها الرمزي ومأسسته انطلاقا من صياغة الدستور الجديد للدولة. وقد افترض الفاعلون الأساسيون في هذه السردية-وهم أغلب النخب "الثورية" و"الإصلاحية"قبل 14 جانفي 2011- أنّ "الثورة" قد استكملت مسارها المعادي للدولة أو المناهض لوجودها يوم 14 جانفي 2011، كما يفترضون أن تنزيل استحقاقاتها من مستوى الشعار إلى مستوى الواقع يعني بالضرورة مأسستها وربطها بالدولة وأجهزتها. لقد سعت هذه السردية إلى تأسيس "الجمهورية الثانية" انطلاقا من الإجماع الوطني "العفوي" على استحقاقات الثورة، وعلى ضرورة تجاوز الميراث الاستبدادي "للجمهورية الأولى" بلحظتيه الدستورية والتجمعية (وهو الاستحقاق الذي عبّر عنه أحد شعارات الثورة الرئيسية: "يسقط حزب الدستور، يسقط جلاد الشعب"). 

عندما نتحدث عن السردية الأكتوبرية فإن علينا أن نميز داخلها بين لحظتين: اللحظة التي سبقت انتخابات المجلس التأسيسي، واللحظة التي أعقبت ظهور نتائج انتخابات ذلك المجلس. وبدون الدخول في التفاصيل يمكننا القول بأن السردية الأكتوبرية كانت مفتوحة قبل الانتخابات على إمكانية تجاوز الصراعات الإيديولوجية انطلاقا من محدد جديد هو الموقف من استحقاقات الثورة، ولكنّ هذا الإمكان سرعان ما تلاشى بعد ظهور الانتخابات التي شهدت نجاحا تاريخيا للنهضة وما أعقبه من الإرهاصات الأولى لتشكل تحالف "ديمقراطي" ضدها حتى قبل ظهور "الترويكا" الحاكمة. وكان الواقع الذي أفرزته انتخابات المجلس التأسيسي من الأسباب الهامة المؤذنة باحتدام الصراع الهووي الثقافوي الذي طبع الحياة السياسية التونسية ومكّن للمنظومة القديمة ولشبكاتها الزبونية في الأرض مرة أخرى بعد أن ظن الناس أن ريحها قد ذهبت بغير رجعة. لقد دفع المنطق الميكيافلي بالفاعلين السياسيين الأهم -أي الإسلاميين واليساريين- إلى البحث عن تحالفات –تكتيكية أو استراتيجية- مع المنظومة القديمة. وهو ما ولّد عند جميع الفرقاء-بصرف النظر عن خطاباتهم الطهرانية الرافضة لعودة المنظومة القديمة- ضربا من "المزايدة المحاكاتية" "Surenchère Mimétique" في استرضاء التجمعيين والدفاع عنهم قصد الاستقواء بهم على الخصوم السياسيين في الداخل، وقصد طمأنة الجوار الإقليمي والقوى الدولية المؤثرة في الشأن التونسي. وقد استثمرت السردية الدستورية-التجمعية هذا الواقع السياسي للعودة إلى واجهة المشهد تدريجيا، كما استثمرت هذا الواقع "السريالي" لتجعل من الفاعلين الكبار داخل السردية الأكتوبرية مجرد "قطاع طرق" على خصومهم في الانتخابات الرئاسية، أو مجرد "شهود زور" و"حلفاء صغار" في الحكومة الحالية وما قد يأتي بعدها من حكومات مهما اختلفت توصيفاتها.

ختاما، عندما ننظر إلى ما آلت إليه "الثورة التونسية" برموزها واستحقاقاتها وسردياتها المتصارعة، يمكننا "الآن-وهنا" أن نطرح هذا السؤال "العلقم" وأن نحاول الإجابة عنه دون أوهام ذاتية أو استعلاء كاذب: بصرف النظر عن توصيفنا للحدث التونسي-هل كان ثورة أم انتفاضة أم مؤامرة دولية-، ألم يساهم أعداء المنظومة الحاكمة وخصومها التاريخيون في جعل اللّحظتين الديسمبرية والأكتوبرية مجرد لحظتين من لحظات الاختلال الجزئي في المنظومة الدستورية-التجمعية، أي ألم يساهموا –عندما ارتهنوا إلى مصالحهم الشخصية الحزبية وإلى منظوراتهم الإيديولوجية - في "انتصار" السردية الدستورية-التجمعية ونجاحها في أن تتحول إلى ما يُشبه "الثقب الأسود" الذي لم يستطع أي خطاب ثوري أو إصلاحي أن يفلت من سلطته "الثورية المضادة" إلى هذا الحد أو ذاك؟