كتاب عربي 21

الإخوان وجماعة غولان.. كيانان موازيان!

1300x600
بعد فشل المحاولة الانقلابية التركية، جرت محاولات انقلابية أخرى في المجال العربي، تسعى للاستفادة من الحدث التركي، حتى لو كان ذلك من موقع العداء للحكومة التركية الحاليّة، وذلك بإعادة تصوير الحالة العربية، بما يكرّس في النهاية منطق الاستبداد، ويصادر من حركات التغيير والإصلاح أدواتها التي طوّرتها خلال العقود الماضية لمراوغة الواقع الأمني الذي فرضته الدولة القهرية وأنظمتها الحاكمة.

جوهر تلك المحاولات كان خلق مماثلة ما بين جماعة الإخوان المسلمين العربية، وجماعة غولان التركية، من جهة أن كلا الجماعتين تتسمان بالصفة ذاتها التي أطلقها أردوغان على جماعة غولان، أي صفة الكيان الموازي، فإذا كان أردوغان قد امتلك الشرعية لاستئصال جماعة غولان بعد تكيّفها في صورة الكيان الموازي، فإن أنظمة الحكم العربية، بما فيها نظام عبد الفتاح السيسي، تمتلك الشرعية ذاتها لاستئصال جماعة الإخوان المسلمين بما هي كيان مواز.

لا يندرج أصحاب هذه الأطروحة في سياق واحد، فبعضهم من أتباع الطغاة أو أقلام وأصوات أمريكا في المنطقة، قد سعى لإعادة توظيف الخسارة في تركيا لصالحه عربيا، وإعادة استخدام موقف الإسلاميين العرب المتعاطف مع أردوغان ضد الإسلاميين العرب أنفسهم، باللعب على وتر التناقض والمصداقية، من قبيل "لماذا ترفضون الكيان الموازي في تركيا وتقبلونه في مصر؟!". 

ولكن بعضا آخر، تبنى هذه الأطروحة من موقع تصفية الحسابات الشخصية والفكرية مع الجماعة، ولإثبات صحة اختلافه مع الجماعة ورؤيته المؤسَّسة على نقدها، وهنا يمكننا أن نجد منتمين سابقين للجماعة، يغتنمون هذه الأطروحة لإعادة تقديم خصوماتهم الشخصية في هيئة الموقف الفكري الصحيح، الذي يستدلّ لنفسه بالواقعة المحققة في تركيا.

ويظلّ بعد هذين الصنفين، بقية ممن استعجلوا التفكير ولم يتبينوا الاختلاف الفعلي بين الحالتين، العربية والتركية، وخلطوا بين نقدهم الأساسي لجماعة الإخوان وبين هذه الأطروحة، وبين رؤيتهم لأضرار العمل السري على الوعي الجمعي للجماعات الإسلامية وأطروحة الكيان الموازي المستدعاة من التجربة التركية.

لكن وبصرف النظر عن النوايا، ومنطلقات النظر والتفكير في هذه الموضوعة، فإنّ المماثلة بين الجماعتين في هذا التوقيت، والاستدلال بتحولات جماعة غولان، وعمل أردوغان على استئصالها، يستبطن شرعنة للمذبحة التي تعرضت لها جماعة فازت في الانتخابات ولم تقم بانقلاب عسكري، كما يفضي في النتيجة إلى تكريس المنطق الاستبدادي كما سلف وقلنا.

وإذا كان أساس الحجّة هو الخطاب الأردوغاني ثم ممارسته، فإن أردوغان لم يطلق وصف "الكيان الموازي" على جماعة غولان، سوى لأنها دولة أخرى ثاوية داخل الدولة دون أي سند شرعي متفق عليه، وتسعى لإحباط الحكومة الشرعية التي تحكم الدولة على أساس متفق عليه.

فهذا الوصف الأردوغاني، لا علاقة له بالعمل داخل المجتمع، وبتقديم الخدمات للجمهور على نحو منافس لخدمات الدولة، وإذا كانت جماعة الإخوان قد سعت للعمل داخل المجتمع ومنافسة الدولة داخل هذا الحيّز، فإن التجربة المصرية أثبتت افتقار الجماعة المصرية للحدّ الأدنى من النفوذ أو الحضور في الدولة، وبهذا فإن الوصف الأردوغاني لا ينطبق عليها.

وقد ظهر أن بعض أصحاب هذه الأطروحة كان واعيا بعدم انطباق الوصف الأردوغاني على جماعة الإخوان، فأراد إعادة تكييف الوصف لتنزيله على جماعة الإخوان، من جهة أن هذه الجماعة كيان مواز ولكن من موقعها في المجتمع لا من موقعها في الدولة، وهي أطروحة استبدادية بامتياز، أو منحازة لمنطق الدولة المتغوّل على المجتمع.

وإن كان لا يمكنني الزعم، بأن جماعة الإخوان قد شكّلت حالة مجتمعية جدّية، تنافس الدولة في تقديم الخدمة للجمهور، وتقوّي في جانب آخر منها المجتمع وتحميه من تغول الدولة وافتراسها للمجال الاجتماعي، فإنّها تستحق التقدير لو كانت قد نجحت في ذلك، أو سعت إليه برؤية واعية، تلحظ أهمية حماية المجتمع من الدولة وجبروتها وتطاولها على كل مناحي النشاط الإنساني، بما ينتهك خصوصية وآدمية وحرية الإنسان.

ولكن هذه الأطروحة، تنطوي على مغالطة خطيرة تقلب الحقيقة، فتجعل أصل المشكلة في الإسلاميين لا في الدولة وأنظمة الحكم التي تعاقبت عليها، مع أن الإسلاميين لم يكن لهم دور تأسيسي في إيجاد هذه الدولة وصِيَغِها وفرض أنظمتها وقوانينها، ومن ثمّ كانت الممارسة الإسلامية الحركية في أساس منطلقها ردّ فعل على ما أوجدته وفرضته هذه الدولة وأنظمة حكمها ابتداء.

هذه  الدولة التي لا تستند إلى أساس شرعي معقول، كأن تكون منبثقة عن إرادة الجماهير، وعلى مبدأ تواضع عليه الواقعون تحت سلطانها؛ حينما تقوم بإغلاق المجال السياسي، والهيمنة المطبقة على المجال الاجتماعي، وإعادة تعريف وصياغة كل شيء من أدنى الحقوق الشخصية للفرد إلى الدين، ثم تجعل من الأداة الأمنية النافذة الوحيدة المتاحة لمعالجة القضية السياسية، أو حتى للعمل داخل المجتمع، فإن السرّية تصبح واحدة من الأدوات الطبيعية التي تنشئ رد فعل لمواجهة الأداة الأمنية، ولاختراق حالة الانسداد التي أوجدتها هذه الدولة وأنظمتها الحاكمة، وللوصول إلى ما منعته الدولة بالطرق العلنية التي تتيح التداول السلمي على السلطة، أو تتيح الفرصة لمنافسة خطاب الدولة الذي قام على أساس فوقي وقهري.

لا تتبنى هذه المناقشةُ السرّيةَ حلا وحيدا في واقع الانسداد والقهر الذي تفرضه الدولة وأنظمتها ونخبها، ولا يتطلب تفسير حالة السرّية، نفي الأمراض التي تصيب الجماعات ذات الطابع السرّي، ولاسيما تلك التي تتبنى خطابا دينيا، ولكن لا ينبغي الخلط بين أمراض الجماعات الناشئة عن السرّية، وبين أساس المشكلة.

والمسألة هنا ليست محض تحليل، إذ الواقع يفيد أن بنية الجماعات الإسلامية عمومًا، كانت ردّ فعل على عدد من العوامل، منها عمليات التغريب والتحديث القهري، والاستعمار، واستبداد الدولة.

فالمشكلة المتمثّلة في الدولة سابقة على المشكلة المتمثّلة في الجماعة، والحلّ ظل بيد الدولة، ولأنها افتقرت لإرادة الحلّ، تولّدت أشكال أخرى للتدافع تحاول فيها الجماعة أن تكون أكثر قدرة على المبادرة والفاعلية.

يمكن أن نفسّر شيئا من سلوك جماعة غولان، في حال جنّبنا التفسير كل ما يقال عن غموضها وارتباطاتها المريبة؛ بالانسداد الذي فرضته الدولة التركية ونخبها الحاكمة، ومع ذلك لا يمكننا أن نُغفل أن الدولة التركية فد دخلت في تحولات عميقة باتجاه الانفتاح السياسي منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي، وبعضها قامت عليها مجموعات من النخبة العلمانية الحاكمة نفسها، حتى استوت تلك التحولات بين يدي تجربة أردوغان، وحينما صارت تلك التحولات أكثر نضجًا لم يعد مسلك غولان قادرا على الاستناد إلى تلك الأسباب، وفي كل الأحوال كان لا بدّ من أن يواجه مدافعة من طرف أكثر شفافية، ويمتلك شرعية أكثر وضوحا.

في الفترة التي بدأت تتحول فيها تركيا نحو الانفتاح السياسي، أغلقت مصر المجال السياسي تمامًا، وظلّ الأمر على هذا الحال إلى حين انفجار ثورة يناير، وهذه واحدة من الفروقات الجوهرية التي لا ينتبه لها عشّاق المقارنات، ولكن وعلى أي حل، وفي الخلاصة، انقلبت الدولة العسكرية القديمة في مصر على رئيس منتخب ينتمي للإخوان المسلمين مثّل إمكانية تكريس الانفتاح السياسي المستجدّ، بينما حاولت جماعة غولان وعبر التشكيلات العسكرية الممثّلة للدولة القديمة الانقلاب على رئيس منتخب يمثّل ثمرة الانفتاح السياسي.

هذه الصورة تنفي ذلك التماثل المفترض بين الجماعتين، وتعرّي الأطروحة من أي غطاء أخلاقي، ولا سيما في هذه الفترة.