لم تكن الانتخابات البلدية التي جرت مؤخراً في مدينة طرابلس الشمالية مجرّد استحقاق محلي بحت، بل حملت أبعاداً أخرى بفعل ما أفرزته من ملامح ظهور زعامة سنّية جديدة بقيادة أشرف ريفي، المتمرد حديثاً على تيار المستقبل، والطامح إلى لعب دور سياسي مستقل عن
الحريرية السياسية.
الاستنتاجات الأولية التي يمكن الخروج بها أن تغيّراً ما طرأ على المزاج السني، لكنّ هذا التغيّر لن تكتمل معالمه من دون أن يتّضح ما إذا كان بمقدور ريفي ترجمة انتصاره البلدي إلى نيابي في أول انتخابات برلمانية مقبلة، وتوسيع دائرة نفوذه إلى خارج طرابلس، مع أن محاولة كهذه لن تكون سهلة على شخص لا يملك إرثاً تاريخياً يلزم توفّره في الحالة
اللبنانية لبناء زعامة جديدة.
ظاهرة ريفي تستحق المتابعة، وهي تُشكل حالة سياسية نادرة، إذ أن الزعامات التاريخية التي أنتجتها الطوائف اللبنانية انحصرت داخل بيوت سياسية محدّدة منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1989. عند
السنة مثلاً، انفرد رفيق الحريري في زعامة الطائفة منذ اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب وحتى اغتياله في 2005، قبل أن يتولى نجله سعد هذه المهمة. ورغم وجود عائلات سنّية عريقة كآل كرامي، إلاّ أنها لم تصمد أمام الحريرية السياسية لأسباب عدّة، منها التفاوت المالي الكبير، وانحسار نفوذها داخل طرابلس على عكس عائلة الحريري التي بنت حاضنة شعبية واسعة من خارج بيروت وصيدا، مكان نشأتها.
ويستوجب القول إن الإرث الوطني الذي تميّز به سنة لبنان منذ الاستقلال فرض على زعاماتهم تبنّي خطاب وطني عابر للطوائف، كونهم يعيشون في محيط عربي يعتنق نفس المذهب، بخلاف غالبية الطوائف الأخرى التي اعتبرت نفسها أقلّية في هذا المحيط. من هذا المنطلق نجح رفيق الحريري في جذب منتمين لتياره من خارج طائفته، في وقت لم تستطع فيه الزعامات المسيحية والشيعية والدرزية الخروج من دائرة الخطاب الطائفي والمناطقي الضيّق باستثناء شخصيات قليلة جداً. هذا الإرث جعل من زعماء السنة قادة وطنيين قبل أن يكونوا مجرد ممثلين عن طائفتهم في المناصب العليا بالدولة.
منذ صعود رفيق الحريري، مرّت الطائفة السنّية بحالة من الاستقرار الداخلي، إلى حين اغتياله في 14 شباط عام 2005، وما شكّله ذلك اليوم من لحظة فارقة في تاريخ السنة ولبنان على حدّ سواء. لكنّ الزخم الشعبي الذي مُنح لنجله سعد والدعم الخارجي من السعودية، راعية الأب، مكّناه إلى حد كبير من إبراز نفسه كشخصية قيادية رغم خبرته السياسية المتواضعة. هذه حالة نادرة الحدوث، فالرجل قاد تحالف 14 آذار المتعدد الطوائف بعد فترة قليلة جداً من دخوله المعترك السياسي، كما أنه ترأس الحكومة بعد ذلك بأربع سنوات فقط. حتى والده الراحل، لم يرأس أولى حكوماته في التسعينيات إلاّ بعد سنوات طويلة من العمل السياسي، وبناء علاقة وثيقة مع السعوديين مكّنته من لعب دور بارز في صياغة اتفاق الطائف.
على عكس عهد الحريري الأب، لم يشهد البيت الداخلي السني استقرارا كاملا منذ تولي الابن زعامة التيار وحتى اليوم. كان ذلك نتيجة حتمية للفراغ الكبير الذي تركه رحيل رفيق الحريري، فضلا عن الخروج السوري من لبنان، وما تركه من خلل متوقع في التوازنات بين مختلف الطوائف اللبنانية وداخلها، نظراً للدور الذي لعبه طيلة فترة وجوه في ضبط إيقاع الحياة السياسية اللبنانية. بين عامي 2005 و2011، حافظ سعد الحريري على صعوده الشعبي رغم بعض الهزّات الداخلية، كاستمرار مسلسل التصفيات الجسدية لشخصيات 14 آذار، ودخول حزب الله المسلح لبيروت ومناطق في جبل لبنان في 7 أيار 2008 على خلفية قرار حكومي بمصادرة شبكة اتصالات تابعة له وإقالة قائد جهاز أمن المطار المحسوب عليه.
لكن الأزمة الداخلية التي ظهرت في بدايات2011 قبيل صدور القرار الظني للمحكمة الدولية المكلفة بالتحقيق في اغتيال والده، شكّلت ضربة موجعة للحريري وأطاحت بأول تجربة حكومية له قبل أن تفرض عليه مغادرة لبنان خوفاً من التصفية الجسدية. ومع إطالة أمد الغياب لخمس سنوات، بدأت هوّة تظهر بين التيار وقاعدته الشعبية، عزّزها الاستياء السابق من سياسة المهادنة التي انتهجها الحريري الابن مع النظام السوري، والتي توّجها بزيارة شهيرة إلى دمشق نهاية عام 2009، ومصافحة الأسد الذي نُظر إليه حينها على أنه قاتل رفيق الحريري. يضاف إلى ذلك فشل سياسية الانفتاح على حزب الله في دفعه للتخلي عن أجندته الإيرانية داخلياً وخارجياً.
مع عودة الحريري إلى بيروت في 2016، بدا أنه لم يوفق كثيراً في قراءة التغيّرات التي طرأت داخل البيئة السنية، والتحوّل الملفت في المزاج العام من وضعية الاستياء من سياسات المستقبل إلى حد التفكير في البحث عن زعامة جديدة تكون أكثر إلماماً بهموم الطائفة. كما أنّه لم يقدّر جيّداً تداعيات التخلي عن اللواء ريفي وتأثيرها على شعبية التيار في طرابلس. كذلك، لا يمكن تجاهل العامل السعودي في تراجع المستقبل، مع انحسار الدعم المالي المقدم من الرياض للحريري على خلفية التمايز الواضح بينهما في أولوية وطريقة مواجهة حزب الله. برز هذا التمايز بعد تولي الملك سلمان حكم المملكة وانتهاجه سياسية أكثر جرأة في استئصال النفوذ الإيراني بالمنطقة العربية.
من غير الواضح بعد ما إذا كان السعوديون يفكّرون جديّاً بالتخلي عن الحريري والبحث عن شخصية سنية بديلة تقود المواجهة مع حزب الله، لكنّ صعود ريفي وتقديم نفسه على أنه شخصية ترفض المهادنة مع الحزب، قد يشكل محفزاً للرياض من أجل احتضانه وتقديم الدعم له ومساعدته في توسيع نطاق حالته الشعبية إلى خارج حدود طرابلس. أمام هذه المعطيات، ليس من المبالغة القول بأن زعامة آل الحريري لسنة لبنان تقف اليوم أمام منعطف مصيري، سيُحدد خلال الفترة المقبلة ما إذا كان بمقدور سعد الحريري الاحتفاظ بوضعيته الحالية كزعيم رئيسي للطائفة من دون منازع.