كتاب عربي 21

حلب.. كيف يزداد القتلة الصغار وضاعة؟!

1300x600
القتلة الصغار، هم قطيع الطاغية، ومطايا السياسة، وأنعام الإيديولوجيات المظلمة، وقد جعلهم القرآن مرّة أحطّ من الأنعام، إذ وصفهم بأنهم "لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون"، وجعل لهم القرآن مرة أخرى الكلب مثلاً، بما هم تبع لأهوائهم، إذ تنعدم تمامًا القيم الصالحة، والمعايير الرافعة للكرامة الآدمية، والمرتفعة بمعرفة الحق والانحياز إليه، ويظل فقط الهوى، قائدا وسافلا بصاحبه، المنسلخ من الآيات المبينة.

فإذا كان الكلب لاهثًا على كلّ حال، فإن القاتل الصغير أعمى القلب ميت الفؤاد شقي منكود يصطلي صدره غيظًا وكرهًا على كل حال، يلهث بالحقد على كل حال، وإن كانت أحوال الحرب تزيده لهاثًا أو تخرج لهاث صدره على لسانه "واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين (*) ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتَّبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.."، إنه على كل حال مختوم على سمعه وقلبه، وعلى بصره غشاوة.

وإذا كان الإنسان مكرّما في أصل إيجاده، فإنّ الدين ما جاء إلا للحفاظ على هذه الكرامة من الانحطاط في مدارك البهيمية تلك، حينما يعطّل الهوى، والشهوات المسعورة، والغرائز البدائية، حواسّ الإنسان عن إفادته بالوعي، فيصير الإنسان كالأنعام، لا تقدّم له عيناه وأذناه أي إضافة عمّا تقدّمه هذه الحواس لأي دابّة أخرى دون الخلق الآدمي المكرّم، بل هو أضل، إذ إن الأنعام غير مزوّدة بالقوّة المدركة القادرة على الإفادة من حواسها بما يتجاوز وظائفها الأوّلية، أو بما يجعلها قادرة على إنتاج الوعي بالحقيقة، والتمييز ما بين الحقّ والباطل، بينما الإنسان مزّود بتلك القوّة، وحينما يعطّلها بهواه، فهو أضل من الأنعام، وحواسه والعدم سواء "ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بهما".

فالقتلة الصغّار قطيع ضال، وقد يزيد في الضلال عن القتلة الكبار، وقد يدانيهم في المسؤولية عن جريمة القتل، ولأنهم ضرورة لأي نموذج طغياني شمولي، ضرورة أوّلية من حيث احتياج الطاغية للعبيد، وضرورة عملية من حيث احتياج الطاغية للجنود، وهم ضرورة لأي إيديولوجيا تقيم بنيانها على أساس من الكراهية، أو على أساس من تجسيد القيم المتعالية في الذات، إيديولوجيا حلولية من نوع "شعب الله المختار"، "المقاومة الوحيدة للاستعمار"، "مذهب المعصومين"؛ لأنهم كذلك، فهم لبنات ناتئة ومتقيحة في جسد بنيان القتلة، ولها من التشوهات ما يميّزها عن بقية تشوهات ذلك الجسد، الموسوم بالظلم والإجرام.

والقتلة الصغار، أشدّ ضلالاً من القتلة الكبار، لأنهم مَقودون من وجهين، من جهة اتباع الهوى الذي يشاركون فيه القتلة الكبار، ومن جهة اتباعهم للقتلة الكبار، ثم هم أشدّ ضلالاً، لأنهم يحمّلون أنفسهم، متبرعين طائعين، من الأوزار التي أمكنهم ألا يحملوها، أو لا منفعة لهم بحملها، أو هي منفعة رديئة مرذولة، بينما يدرك القتلة الكبار ما يفعلون، ويعلمون الحقائق وإن منعهم الكبر والعناد من اتّباعها، ثم هم، أي القتلة الكبار، يعاندون لأجل مصالحهم هم، الثمينة بمعيار الحياة الدنيا، وقد صوّر القرآن هذه المفارقة حينما يشارك الأتباع سادتهم عذاب جهنم، وقد أمكنهم، من قبل، ألا يشاركوهم لو امتنعوا عن اتّباعهم، فصارت تبعيتهم، حسرات عليهم مرتين، مرة باشتراكهم في العذاب، ومرة ببراءة المتبوعين منهم.

والقتلة الصغار في ذلك كله، دون الجنود المقاتلين ببنادقهم، فهم خارج ميدان القتال، وقد يكونون في جغرافيا أخرى، ولكنّهم يصرون على تحميل أنفسهم الأوزار العظيمة، بل أعظم الأوزار، أوزار القتل والظلم، بألسنتهم وقلوبهم، بلا أي سبب قابل للفهم، سوى عمى القلوب التي في الصدور، وتعطّل القوى المدركة فيهم عن إبصار الحقّ، انحطاطًا من عند أنفسهم، لما اتخذوا لهم آلهة من دون الله، اتخذوا أهواءهم آلهة، أو متبوعهم الذي جسّدوا فيه قيمة متمايزة، على غرار "شعب الله المختار"، أو "محور المقاومة".

ولو تأملنا كيف تطوّع القتلة الصغار على طريق الوضاعة، والتبعية العمياء، والتنازل عن الوظائف الجوهرية للحواس التي تميّز الإنسان عن الأنعام؛ في الموضوع السوري، لوجدناهم كيف تدرجوا مع سادتهم، من نفي أي شيء في سورية، ثم نفي القتل والجريمة وإحالة المشاهد الحقيقية إلى اصطناع "خصوم المقاومة، وعملاء أمريكا"، من دول، وأفراد، وقنوات تلفزيونية، وحركات وأحزاب، إلى ازدراء القيم الآدمية، حينما عجزوا عن نفي الجرائم المتراكمة، محتجين، بأنه لا اعتبار لهذه القيم في الصراع ضد "المؤامرة الكونية" بما هي مؤامرة استعمارية، ثم عادوا مع سادتهم لاعتبار القيم الآدمية واتخاذها وسيلة للطعن في خصومهم، حينما تعلقت المظلومية ببعضهم، أي بحرب السعودية والحوثيين، إذ إنّ الأمر كله قائم في الأساس على عصبوية "شعب الله المختار".

وقد كانوا يرفضون أي مقاربة لجرائم النظام السوري بالعدو الصهيوني، على اعتبار أن لا جريمة تفوق الجريمة الصهيونية، وأن كل تعظيم لأي جريمة غير صهيونية عمالة من وجه ما للصهاينة، وإذا بالسعودية وداعش وكل خصومهم، وعلى لسان سيدهم، أي نصر الله، أعظم جريمة من "إسرائيل" وأولى بالحرب منها، دون أن يشعر الأتباع بأي قدر من التناقض واحتقار الذات، ثم لما كانت الجريمة في حلب أكبر من أن تغطيها دعايتهم الزائفة، لبّسوا الحقّ بالباطل، وجعلوا القتيل قاتل نفسه، واستدخلوا كل ما أمكن استدخاله من أسماء معارضة ومقاتلين من خارج صفّ النظام وحلفائه، ودول وأحزاب وشخصيات وقنوات تلفزيونية، للقول مثلاً، إن من دمّر حلب على رؤوس أهلها، كانت الجزيرة، لا البرميل المتفجر، في استعادة لنفس منطق المتصهينين العرب فيما تعلق بالحروب على غزة، ولا عجب، فالأمر كله راجع إلى عبادة العجل المقدس، فالمختلفون، من شيعة إيران إلى شيعة الصهاينة، سواء في هذا!

وما أحمق هؤلاء، إذ منع الله أيديهم عن دماء المظلومين، فأصروا أن يغمسوا ألسنتهم بتلك الدماء، ويحملوا على ظهورهم أوزار المجرمين القتلة، فإن لم تكن هذه هي الضلالة فما الضلالة؟ وقد قال النبي، صلى الله عليه وسلم، "لن يزال المؤمن في فسحة من دينه، ما لم يصب دماً حراما".