تُثار بين الفترة والأخرى نقاشات حادة حول قضايا دينية، ومسائل شرعية، قد تكون من المسلمات المتداولة بين المسلمين، فيأتي من يخضعها للبحث والتمحيص ليخرج بنتائج صادمة للمتسالم عليه تاريخيا، بحسب الروايات المقررة في دواوين السنة والحديث النبوي، وآخر السؤال المطروح كم كان عمر عائشة عندما تزوجها الرسول؟
تحديد عمر السيدة عائشة أم المؤمنين حين رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها من بين تلك القضايا التي يكثر حولها الجدل، إذ يتمسك القائلون بأن سنها كان 9 سنوات برواية الصحيحين والتي تقول فيها عائشة رضي الله عنها "تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين، وبنى بي وأنا بنت تسع سنين" يؤكدون أن سنها عندما دخل بها الرسول كان عمرها تسع سنين.
أما المعترضون على هذه الروايات، فيرجحون أن سن السيدة عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما، حين تزوجها الرسول كان 18 سنة، وهو ما ذهبت إليه الأكاديمية السعودية الدكتورة سهيلة زين العابدين حماد، في بحثها الذي نشرته مؤخرا والموسوم بـ"سن السيدة عائشة رضي الله عنها عند زواجها بالرسول صلى الله عليه وسلم".
ورأت الباحثة زين العابدين أن الأخذ برواية الصحيحين المحددة لسن عائشة عند زواجها بالرسول عليه الصلاة والسلام بـالتسع سنوات، يتعارض مع أدلة شرعية أخرى ولا يتفق معها بحال.
ووفقا لزين العابدين فإن تلك الروايات "لا تتفق مع أحكام الزواج في الإسلام، القائم على التوافق الفكري والروحي القائم عليه أركان الزواج الثلاثة: السكن والمودة والرحمة، والتي يوضحها قوله تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}[الروم:21].
وأضافت زين العابدين وهي "لا تتفق مع قوله تعالى: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا..}[النساء:6]. فهذه الآية تبين أنه يوجد سن للنكاح، وأنه إن كان الرشد شرط دفع لليتامى أموالهم، فمن باب أولى يُشترط الرشد في الزواج، وتكوين أسرة".
وتابعت زين العابدين سرد أدلتها الناقدة لمتن تلك الروايات بقولها: "لا تتفق مع قوله تعالى (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن)، التي تدل على التقارب في السن، ليكون كل منهما ستر للآخر، فكيف تكون الزوجة لباسا لزوجها إن كانت طفلة، والزوج في الخمسين وما فوق؟ فلا يكون كل واحد لباسا للآخر إلا إن كانا متقاربين في السن".
وأشارت زين العابدين إلى أن الروايات المثبتة لسن عائشة، لا تتفق مع قوله عليه الصلاة والسلام "لا تُنكح الأيم حتى تُستأمر، ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن".
ومع أن الأكاديمية زين العابدين ليست متخصصة في الحديث النبوي وعلومه، فقد شككت في صحة روايات البخاري ومسلم، وقدمت ترجمة لرجال تلك الروايات تظهر ضعفهم طبقا لما نقلته من كتب الجرح والتعديل وتراجم الرواة، مضيفة إلى ذلك كله جملة من القرائن التشريعية والتاريخية التي تضعف تلك الروايات بحسب فهمها وقراءتها.
وخلصت زين العابدين في توصياتها إلى "جعل سن الرشد هو إتمام سن (18) سنة وهو الحد الأدنى لزواج الذكر والأنثى"... مستندة في مطالبتها تلك إلى "أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوجها (السيدة عائشة)، وقد أتمت 18 سنة".
مناقشات وردود
كيف ينظر علماء
الشريعة وأساتذتها إلى تلك الآراء المعترضة على روايات تحديد سنة عائشة رضي الله عنها؟ وما حظها من الصحة في ميزان البحث الشرعي القائم على منهجية الاستدلال الأصولي المعتبرة لديهم؟
في تقييمه لتلك الآراء فرق أستاذ الحديث النبوي وعلومه في جامعة الزرقاء الأردنية، أسامة نمر بين البحث في مستواه التاريخي والبحث في مستواه التشريعي، منوها إلى أن المجال مفتوح للبحث والنظر في تلك الروايات لمن كان أهلا لذلك.
ووصف نمر تلك الآراء المعترضة على تحديد سن السيدة عائشة بأنها تنطلق من أدلة مختلقة، ولا نصيب لها من الصحة في الاستدلال، لافتا إلى أن مصدرها كتابات المستشرقين، وأن الباحثين العرب ينقلون عن المستشرقين ويرددون شبهاتهم.
وأوضح نمر لـ"
عربي21" أن الشبهات المثارة حول روايات سن السيدة عائشة، لا تستند إلى قضايا معيارية ثابتة، بل هي بطبيعتها نسبية تختلف من زمان إلى زمان، ومن بيئة لأخرى، فلا يمكن محاكمة ما كان شائعا ومتداولا عند العرب زمن ظهور الإسلام بمنطق زماننا وشروطه، بل البحث الموضوعي يقتضي دراسة ذلك كله في سياقاته التاريخية والثقافية السائدة في ذلك الزمان.
من جانبه أكد أستاذ التربية الإسلامية في جامعة أم القرى، عدنان باحارث، أن بنات ذلك الزمن يختلفن عن هذا الزمن من حيث النضج، مستذكرا في هذا السياق الأثر المنسوب إلى السيدة عائشة "إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة".
ولفت باحارث في حديثه لـ"
عربي21" إلى أن الذين وضعوا حدا للزواج وقيدوه بعمر محدد، أضروا بالمرأة كثيرا، مؤكدا "أن إلزام المجتمع بسن محددة للزواج، ومحاسبة المتجاوزين له فيه مخالفة لما أقرته الشريعة عبر سنوات طويلة، وأجمع عليه المسلمون".
تفنيد شبهات المعترضين
بدوره، قال الكاتب والباحث الشرعي السعودي، فهد الغفيلي، إنه رد على كل الشبهات المثارة حول روايات تحديد سن السيدة عائشة رضي الله عنها، وأفرد لهذا الموضوع كتابه "السنا الوهاج في سن عائشة عند الزواج".
وأوضح الغفيلي أنه نقل في كتابه ردود العلماء على من أثاروا هذه الشبهة كما فعل الشيخ المصري أبو إسحاق الحويني في رده على خالد الجندي وإسلام البحيري وعباس العقاد. وكما فعل الشيخ أحمد شاكر في رده على العقاد صاحب كتاب "الصديقة بنت الصديق".
وأكدّ الغفيلي لـ"
عربي21" أن استدلالات المعترضين على رواية الصحيحين في تحديد سن عائشة عند زواجها لا علاقة لها بالموضوع، فالسكن والمودة والرحمة يمكن أن تقع بين الزوج الكبير والزوجة الصغيرة، وثمة شواهد متوافرة على ذلك.
وأضاف أنه ليس من شرط تحقق صفة (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) التقارب في السن بين الزوجين، فعائشة رضي الله عنها حتى على قولهم بأنها كانت تبلغ ثماني عشرة سنة حين تزوجها الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو في الخمسين من عمره، فثمة فارق كبير وشاسع في العمر متسائلا: "كيف تحققت تلك الصفة بحسب فهمهم مع هذا الفارق الكبير بينهما؟".
ووفقا للغفيلي فإن إثارة هذه القضية بين الفترة والأخرى، ليست نابعة من البيئة الإسلامية وإنما تأتي غالبا بضغوط من منظمات خارجية تعارض تزويج الصغيرات، وتطالب بتوقيف تزويجهن دون بلوغهن الثامنة عشرة من عمرهن.
وجوابا عن مدى تواءم زواج عائشة وهي في ذلك السن مع العرف والعادة في البيئة العربية آنذاك، فقد أكدّ الغفيلي أن هذا الزواج هو من صميم الطبيعة والعادة والعرف حينذاك، لأن عائشة كانت مخطوبة لجبير بن المطعم قبل رسولنا عليه الصلاة والسلام، لافتا إلى أن القضية برمتها خاضعة للنسبية، فما يكون سائغا وشائعا في بيئة معينة وزمان معين، قد لا يكون كذلك في بيئات أخرى وأزمنة مختلفة.
تجدر الإشارة إلى أن قضية تزويج الصغيرات كثيرا ما تُثار في المجتمعات المحافظة، كالسعودية ودول الخليج وبعض الدول العربية الأخرى، التي يشيع فيها تزويج الصغيرات، بناء على تجويز جماهير الفقهاء زواج الفتاة الصغيرة إذا بلغت 9 سنوات، مع وجود أراء فقهية معتبرة قديما وحديثا تمنع تزويج الصغيرة.
ووفقا للفقيه السعودي الشريف حاتم بن عارف العوني، فإن الاستدلال بقصة عائشة فيه نظر "ووجه النظر أن عائشة زُوَّجت بأفضل الخلق صلى الله عليه وسلم، وأن عائشة ليست كغيرها من النساء، إذ أنها بالتأكيد سوف ترضى وليس عندها معارضة، ولهذا لما خُيرت حين قال لها النبي عليه الصلاة والسلام: "لا عليك أن تستأمري أبويك"، فقالت: "إني أريد الله ورسوله" ولم ترد الدنيا ولا زينتها.