يعيش عرب تونس هذه الأيام على وقع أخطر الجرائم الإرهابية دموية في تاريخ البلاد منذ الثورة وهي جرائمُ لا توازيها وحشيةً إلا جرائم جبل الشعانبي من ولاية "القصرين" في حق الجيش الوطني وقوات الحرس. الجرائم الجديدة في حق منطقة "بنقردان" الحدودية مع عرب ليبيا تُثير ـ كما تثير كل مصائب البلاد ـ حفلات المزايدة بالوطنية والولاء وتحرّك كذلك ولائمَ الطعن في الخصوم لتصفية حسابات سياسية رخيصة على أشلاء الشهداء والمغدورين.
ولائم "إعلام العار" الوطني كما يسميه النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت "كحساء العشاء" لا فكاك للمواطن منها وهي تلعق في الدم الساخن وتسعى حثيثة إلى تصفية حسابات أسيادها من وراء البحار مع هوية الشعب وقيمه ودينه وعقيدته وخاصة مع لغته. لكن الكارثة هذه المرة بعد جريمة العصابات العابرة للقارات مع مدينة بنقردان ـ بوّابة ليبيا نحو مدن الجنوب المهمّش ـ هي تصريحات الرئيس الذي اتهم فيها الجارة ليبيا "بتصدير "الهمجيّة" إلى تونس".
هذه التصريحات مثلت صدمة كبيرة في الأوساط الشعبية الليبية قبل أن يكون ذلك في الأوساط السياسية لما يربط بين البلدين من روابط الدم واللغة والدين فهما شعب واحد وإخوة لا تفصل بينهم إلا خطوط "سايكس بيكو" التي جاء النظام الاستبدادي العربي مع " القذافي" و"بورقيبة" و"بن علي" لحراستها. وصفُ الشعب الليبي والدولة الليبية بتصدير الهمجية هو كلام غير مسؤول خاصة عند صدوره عن جهة رسمية تونسية حتى ولو كان الأمر صحيحا فما بالك لو كان الأمر محض كذب وتزييف وقلب للحقائق.
المفاجئة الأكبر بالنسبة للشعب التونسي هو رُقيّ الردّ الليبي ممثلا في "بيان الحكومة الليبية المؤقتة رقم 14 بشأن تصريحات الرئيس التونسي".
كان البيان الرسمي الليبي محافظا على الشروط "البروتوكولية" في الخطاب واصفا السبسي "بفخامة رئيس الجمهورية التونسية"، مؤكدا على روابط الجوار التي تصل الشعبين الشقيقين. أكد البيان كذلك أن الدولة الليبية تحارب العصابات الإرهابية المرتبطة بالبرنامج الانقلابي في الشرق وببقايا النظام القديم الذين يحاولون العودة إلى المشهد من جديد والانتقام من الثورة والثوار. كما أشار البيان إلي أنها تحاربه وحدها منذ خمس سنوات ودون إعانة من أحد بل أشار إلى أن كثيرا من الأجانب متورطون في الدم الليبي عبر التفجيرات والعمليات الإرهابية التي عرفتها المدن الليبية ومن بينهم تونسيون.
المسكوت عنه في الخطابين الرسميين الليبي والتونسي أكثر من المنطوق به وهو يتلخص في جملة العناصر الأساسية التالية:
إن خطاب الاستخفاف الصادر عن الجانب التونسي الرسمي ليس جديدا تجاه الأشقاء في ليبيا حيث كان خطاب الدولة العميقة مركِّزا على اتهام ليبيا بتصدير الإرهاب والفوضى مستفيدا من عدم اعتراف المجتمع الدولي بالحكومة المؤقتة. وهو اتهام لا أساس له من الصحة لأنه لم يتورّط ليبي واحد في أي عمل إرهابي في تونس في حين كانت أغلب العمليات الإرهابية والتفجيرات الانتحارية في ليبيا بصنع وتخطيط عناصر تونسية كما تؤكد ذلك عملية "صبراطة" الأخيرة.
نفس هذا الخطاب استعمله السبسي عندما اتهم الجنوب التونسي نفسَه بأنه مفرخة للإرهاب "خشخاش إرهاب" في خطاب شهير يعرفه كل التونسيين. هذا الخطاب المهين للجزء الأكبر من الشعب التونسي هو استعادة لخطاب الوكيل التونسي الأول بورقيبة عندما وصف الفقراء من شعبه بأنهم "هباءات بشرية" وهو استعادة لنفس الخطاب الاستعلائي للرئيس الهارب الذي يصفهم "بالأوباش والرعاع" و"الجبورة".
إنّ سلوك الاستعلاء الذي يميز خطاب الدولة العميقة في تونس يختصّ بجذوره الاستعمارية التي تمثل العمق الحقيقي للخطاب ولدلالته. فالجنوب التونسي بامتداداته الليبية يشكل القاعدة الحقيقية للمقاومة التونسية ضد الاستعمار الفرنسي وخير مثال على ذلك بطل المقاومة التونسية من حامة قابس "سيدي محمد الدغباجي" الذي ألقت عليه القوات الاستعمارية الايطالية بقيادة "السفاح قراتزياني" القبض مجاهدا في ليبيا وسلمته إلى لسلطات الاستعمارية الفرنسية لتعدمه أمام أهله في "حامة قابس" بالجنوب التونسي.
هذا الإرث المقاوِم هو الذي يفسّر جذور العداء الجهوي المتأصل في نُخب الوكالة الاستعمارية بتونس والذي يُترجَم بمشهد التهميش وغياب التنمية وانتشار البطالة وغياب الخدمات الأساسية في كامل الجنوب التونسي تقريبا. بناء عليه فإن اللهجة الاستعلائية تجاه أهلنا في ليبيا ليست إلا امتداد للهجة الاستعلائية التي يمارسها النظام ضد سكان الجنوب من أبناء شعبه.
لكن في المقابل يحافظ الخطاب الرسمي الليبي الصادر عن الحكومة المؤقتة على أواصر الأخوة التي تربط الشعبين ويسعى إلى تجاوز الخلافات الجانبية تفاديا لما قد تُقدم عليه السلطات التونسية من تجاوزات في حق الوضع الهش بالجارة الشرقية بتعلّة الحرب على الإرهاب.
إن فشل النخب التونسية في تجاوز سقف الخطاب الاستبدادي لحقبة "بن علي" وما قبلها من بؤس الحقبة البورقيبية وهو ما يتجلى في التصريحات الأخيرة ضد ليبيا ليس إلا دليلا جديدا على فشل النخب العربية في بلوغ الطموحات التي تصبوا إليها شعوبها. بل إن بعض التصريحات ترتقي إلى مرتبة التهديد الصريح لأمنها القومي وهو ما يتناقض مع خطابها المتاجِر بمسألة "الحرب على الإرهاب" في الوقت الذي تمثّل فيه الدولة العميقة في تونس وفي ليبيا على حدّ سواء أكثر المتاجرين وأكبر المستفيدين منه لأن الإرهاب هو الحل السحري الذي أنقذ الخلايا الاستبدادية القديمة من أمواج الثورات العربية التي لم تقل بعد كلمتها الأخيرة في تونس وفي ليبيا أيضا.