كتاب عربي 21

صحافة أين ترعرعت سيدتي؟!

1300x600
من فيلم "لعبة الست" (1946) إلى "لعبة الأوسكار" (2016)، بدا للمراقب أن الصحافة المصرية، قطعت شوطا طويلا، ليس بالقفز إلى الأمام، ولكن بالعودة للخلف (70) عاما.

فقد سخر كثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي من سؤال "شيماء عبد المنعم" صحفية "اليوم السابع"، وهي تسأل النجم العالمي "ليوناردو دي كابريو" عن شعوره بعد فوزه بالأوسكار؟، دون أن يرد الساخرون الأمر إلى جذوره وأصله، بما جاء على لسان المحرر الفني في "لعبة الست" وهو يسأل النجمة الصاعدة :تحية كاريوكا" أو "لعبة"، كما في الفيلم: "أين ترعرعت سيدتي"؟!

وكان الفيلم قد حرص، كما هي عادة هذا الزمان على تقديم الصحفي على أنه شخصية "كاريكاتورية"، تدعو للسخرية، وتروج لجو المرح المطلوب، وهو غالبا ليس شخصا مثقفا، فيكفي أن يجيد طرح الأسئلة القشرية البسيطة البعيدة عن العمق ليعمل محررا ، مثل السؤال سالف الذكر: "أين ترعرعت سيدتي"؟!

وإذ كان الصحفيون يسخرون من السؤال وصاحبه، فربما لأنهم تعاملوا مع الأمر على أنه "تمثيل"، وأنه جاء من باب السخرية التي لا تعبر عن الواقع، وربما لظنهم أن هذا كان في السابق عندما كانت مهنة الصحافة مهنة من لا مهنة له. ولا نخفي أنه في حياتنا نماذج لهذا الصحفي الذي يكفيه أن يطرح هذا النوع من الأسئلة، ويستمد الحوار قيمته، ليس من السؤال وإنما من إجابة "النجم"، أو "النجمة"، وفي بعض الأحيان كانت الصحف تلجأ إلى حذف السؤال والتعبير عنه بالنقاط المتتابعة التي تنتهي بعلامة استفهام!

من المحررين بالأقسام الفنية بالصحف من كان يحمل لمصادره من "النجوم" ومن "النجمات" ألبوما من الصور لكل منهم، ليتولى هو كتابة خبر أو تصريح وربما يجري حوارا كاملا لا تعلم به "النجمة"، إلا بعد النشر، والذي كان يسعدها بطبيعة الحال ذلك، فيكفي أن اسمها يتردد في الصحف، وهي ظاهرة ارتبطت بالصحافة الخليجية، والتي لم تكن مهتمة بالجدية، عندما كان يكفي القارئ أن يشاهد صورة "يسرا"، أو "نبيلة عبيد" مثلا، ولا يهتم القائمون على هذه الصحف عند التقدير المالي بقيمة الموضوع الصحفي، فانتشرت "ظاهرة قلب الحوار"، فالحوار الواحد بإعادة الصياغة والتقديم والتأخير ينشر أكثر من مرة، وأحيانا يكون "النص الأصلي" منشورا في صحيفة مصرية، ولا علاقة للمتعاون مع الصحيفة الخارجية به، وليس بالضرورة أن تكون خليجية!

قبل سنوات، نشرت مجلة "روزا اليوسف"، حوارا مع "ليلي علوي"، وبعد يومين نُشر نفس الحوار في صحيفة تونسية من مراسلها في القاهرة، وبعد أسبوع كانت المجلة قد وصلت لتونس تحمل الحوار، فأعادت نفس المطبوعة نشره نقلا عن المجلة المصرية!

لكن هذه النوعية من المحررين كانت أكثر أمانيهم تتمثل في التعيين والقيد في نقابة الصحفيين، وقد يبالغون في التقرب لرؤسائهم في العمل بالنوافل، ليحصلوا على خطاب يمكنهم من حضور مهرجان القاهرة السينمائي، وليس من بين أحلامهم أن يحضروا مهرجان الإسكندرية، لأن التكليف بتغطيته يمكن المحرر من الإقامة في فندق خمس نجوم، وقبل سنوات فجر الراحل "ممدوح الليثي" أزمة بعض المحررين الذين جاءوا بدون دعوة، وكان لزاما عليه بصفته مسؤولا عن المهرجان أن يوفر لهم إقامة، لم تكن في حسبانه، كما تحدث عن آخرين اصطحبوا أصدقائهم معهم!

الجديد، في إفراز مدرسة "أين ترعرعت سيدتي"؟، أن تلاميذها صاروا يمكنوا من السفر للخارج وتغطية مهرجانات دولية، على حساب مؤسساتهم الصحفية الغنية، من باب المجاملة أو نحو ذلك، حيث لا تهم الجدارة المهنية، وإنما يكفي شرف المحاولة، وليس مطلوبا الإحاطة بتقاليد هذه المؤتمرات، فالمحررة في رحلة "للفسحة" والتنزه!

وهذا "بيت القصيد" في موضوع "شيماء عبد المنعم" محررة "اليوم السابع"، التي طالعت تغطيتها لمهرجان "أوسكار" فكان أكثر ما ميز هذه التغطية هو نشر الكثير من صورها، في أماكن مختلفة، ومن بينها وقوفها على "السجادة الحمراء" للمهرجان، باعتبار أن هذه إنجازا صحفيا مهما، إلى جانب ملف من الصور لها يوحى بأن الصحيفة كانت مهتمة بتغطية نشاط "شيماء" هناك، وليس لأن الفتاة ذهبت لتغطي مهرجان بحجم "الأوسكار"!

اللافت أن "المحررة" المذكورة، ذهبت إلى المهرجان الدولي، بثقافة "الأفراح البلدي"، وأوشكت أن تقف لتحيي "المعازيم"، وتقدم النقوط للفائزين بجائزة هذا العام، فقدمت نفسها بأنها أول صحفية مصرية تقوم بتغطية "الأوسكار"، ويبدو أنها كانت تنتظر من "ليوناردو دي كابريو"، أن يقرر على التو أن يبدأ التأريخ للمهرجان من هذه اللحظة التاريخية والمفصلية في تاريخه، ويعلن أن المولد الحقيقي للمهرجان هو هذا العام الذي شهد قدوم أول صحفية مصرية لتغطيته، وكان طوال السنوات الماضية في مرحلة التعري، فآن له أن يدخل في زمن التغطية والستر!

مثلي يفهم المقصود بمثل هذه المقدمة منبتة الصلة بأعراف وتقاليد المؤتمرات الصحفية، فقد كانت "الفتاة" تظن أنها عندما تقول أنها من مصر سيهتف النجم العالمي باسم "السيسي"، وقد يكون متابعا فيهتف: "تحيا مصر"، وهو الهتاف الشهير المعروف لقائد الانقلاب، ليكون هذا هو "المانشيت". وهذه الأوهام هي التي حرضت "المحررة" على الوقوع في "الرذيلة المهنية"!

وقد تقدمت "المحررة" خطوة للأمام فكشفت عن المدرسة التي تنتمي لها، عندما سألت النجم عن مشاعره بعد فوزه بالأوسكار؟.. فقد تمخض الجبل فولد فأرا ميتا، وبدا صاحبنا في إجابته الساخرة التي أضحكت الحاضرين كما لو كان مصريا تربى في أحياء منطقة شبرا الشعبية، فإجابته تنتمي لتصرف "أولاد البلد" في مصر مع مثل هذا النوع من الأسئلة التي تتميز بالخفة والسطحية، وهو ما دفع "الإندبندنت" البريطانية للقول إن "ليونار دو دي كابريو" يستحق جائزة أوسكار للمرة الثانية على إجابته في الرد على الصحفية المصرية، ولو سألته عن نكهته المفضلة من بونبون سكيتل لكان سؤالا أهم مما طرحته لفنان في قدره ومقامه. ووصفت "الإندبندنت" السؤال بأنه يبعث على الشعور بانعدام الراحة لدرجة نزع الروح!

اللافت في الموضوع أن القبيلة التي تنتمي لها "شيماء عبد المنعم" خرجت تندد بحملة السخرية منها، وحصرت الأزمة في الساخرين على "السوشيال ميديا"، الذين هم حزب أعداء النجاح، الحاقدون عليها. مع أن الحقد هنا إن وُجد فمرده إلى أن هذا الجهل والتسطيح يجد هذه الحفاوة ويتم تمكينه من السفر لحضور مهرجان بحجم "أوسكار"، وليس حقدا على نجاحها الذي حققته!

قال "عبد الرحيم" على بعاطفة "الأب الحنون" لها "تجاهلي من أثاروا ضجة ضدك واستمري"!.. ولم يقل في أي شيء تستمر.

وقال "علاء الكحكي" لها: "يكفيك شرف المحاولة" .. كما لو كانت في مسابقة بطل العالم في الملاكمة للناشئين وقد سقطت بعد مران صعب ومرهق!

وكتبت "علا الشافعي" المسؤولة عن قسم الفن بـ"اليوم السابع" في مقال طويل عريض حمل عنوان "أوعي تحلمي وبطلي المهنة أحسن" وفي المتن: "الكارهون والشامتون على فيس بوك الذين أهالوا التراب على رأسها كشفوا الحقد والتشوه النفسي الذي أصاب الكثيرين"!

وأرسلت نقابة الصحفيين ممثلة في عضو مجلس إدارتها "محمد شبانة": "بوكيه ورد" للمحررة على تغطية "الأوسكار"، دون أن نعرف منه ما الذي لفت انتباهه في هذه التغطية واعتبره إنجازا مهنيا يستحق "بوكيه الورد"؟!

وحتى "الممثلة" الناشئة "زينة" التي اشتغلت في التمثيل منذ ربع قرن ولم يعرفها الناس بأدوارها إنما عرفوها "مشجعة" لتامر حسني، عندما تم القبض عليه بتهمة تزوير شهادة جامعية وتزوير شهادة تفيد أدائه للخدمة العسكرية التي لم يؤدها ومع هذا صار مطرب الجيش المفضل في حفلاته، كما عرفها الناس بقضية النسب الشهيرة لطفليها. فحتى هذه انضمت لفيلق المؤازرين فقد أيدتها وبايعتها ووصفت من انتقدوها بالمرضى!

اللافت، أن هذا الحزب الذي حشد نفسه، للدفاع عن "شيماء" لخص الأمر في ارتباك "المحررة"، وهو طبيعي لمن هي في بداية عملها المهني ( عرفت مؤخرا أنها تبلغ من العمر 31 عاما)، وهو ما يطرح سؤالا هو "بيت القصيد"، وهل المهرجانات الدولية ساحة للتدريب على العمل الصحفي؟.. ولماذا لم تكلف الصحيفة من هو صاحب خبرة بالتغطية؟ وهو سؤال يقودنا إلى المرحلة، واستشعار رجالها الخطر فهبوا هبة رجل واحد للدفاع عن "شيماء" في مواجهة المشوهين والمرضى النفسيين!

سخرية المرضى "المشوهين نفسيا"، على مواقع التواصل الاجتماعي كانت بعد سخرية "دي كابريو" نفسه ومن كانوا يحضرون معه، ولا أظن أن هؤلاء من المرضي والمشوهين نفسيا، كما لا أعتقد أن "الإندبندنت" عندما سخرت كان الساخرون بها من المرضى والمشوهين.

القصة هنا ليست في الارتباك الذي بدا على الفتاة وهي تطرح سؤالها، كما تريد قبيلتها أن توحي، ولكن في سطحية السؤال وتفاهته، والذي أساء للصحفيين المصريين جميعا، وأعادنا لزمن: "أين ترعرعت سيدتي"!

والخطأ لم يبدأ بجهلها بتقاليد المؤتمرات واعتقادها أنها تشهد "مهرجان المليشيات الصومالية السينمائي" حيث يمكن أن يلفت الانتباه أنها قادمة من مصر وأنها أول صحفية مصرية تغطي المهرجان (والليلة عيد)، فالخطأ المهني في عدم إلمامها بما تتحدث فيه فلم تكن أول صحفية مصرية تحضر "الأوسكار"!

والخطأ المهني الفادح تمثل في ما نشرته عن رد "دي كابريو" عليها، فلم تشر بطبيعة الحال إلى سخريته منها، وإنما نشرت أنه رد على "اليوم السابع" بقوله: "أنا فخور بفوزي بالأوسكار لأول مرة في حياتي"، وما كان لنا أن نقف على هذا الخطأ لولا انتشار ما جرى على "السوشيال ميديا"، وهو أمر أعتقد لو عرفه عضو مجلس نقابة الصحفيين لوفر ثمن "بوكيه الورد"، إن كان بالفعل مشغولا بالمهنة والمهنية!

في الواقع، لست في ترف الانشغال بالأوسكار وبالضجة المثارة، إلا من حيث كونها كاشفة عن أزمة الصحافة المصرية التي تعد امتدادا لأزمة المجتمع المصري الذي يجري تجريفه وتشويهه!

فتجربة الصحف الحديثة في مصر التي تميزت بالإنفاق غير المسبوق ، والتي بدأ صدورها عقب إعلان وزيرة الخارجية الأمريكية حينئذ "كونداليزا رايس" من أن واشنطن ستصدر صحفا جديدة في مصر، عملت على تجريف المهنة، وكانت في الاختيار لا تعتمد المهنية أو تهتم بها، في زمن صارت فيه كفاءة المرء عبئا عليه!

وظهرت مع هذه المرحلة "شلة" استولت على المشهد الإعلامي وتمددت فيه، فيرأس الواحد منهم صحيفة، ويتولى رئاسة تحرير برنامج تلفزيوني في قناة، ويعمل مقدما في قناة أخرى، وربما يتولى منصبا إدارية في قناة ثالثة، ويعمل ضيفا على زملائه في أيام الراحة والإجازات، وطالعنا كتابا يكتبون "كتابة كالكتابة" في وقت تم تغييب الكفاءات تماما، ومن هذه الزاوية يمكن فهم لماذا مات صحفيا بحجم "شفيق أحمد على" دون أن يعرفه أحد أو يهتم به منبر من هذه المنابر الكبرى بالقياس بحجم الإنفاق، بينما "مجدي الجلاد" أكثر شهرة من "هاني شاكر"، و"لميس الحديدي" أغلى من "خديجة بن قنة"، ودخل "محمود سعد" السنوي ثلاثة أضعاف دخل "فيصل القاسم"

هذه هي جذور الحالة التي أنتجت "شيماء عبد المنعم"، ليس لفقدانها للكفاءة المهنية، فهذا موجود طوال الوقت وفي أعرق المؤسسات الإعلامية، ولكن في حجم المهام التي تكلف بها، والأموال التي أنفقت عليها من أجل أن تسأل "دي كابريو" عن شعوره بعد حصوله على "الأوسكار".، وهذا يفسر احتشاد القبيلة دفاعا عنها في مواجهة المرضى والمشوهين نفسيا، أو كما قالت زينة: "الناس الهدامة"!

إنها أزمة مهنة، تعاني من تغييب الكفاءات، وتحقير المهنية، والاحتفاء بالجهل والتفاهة، وكل هذا يجري مع سبق الإصرار والترصد!

لنعود مع هذا كله لزمن: "أين ترعرعت سيدتي"!