فتحت مشروعات
المنحة الإماراتية للكنيسة
المصرية الحديث مجددا حول أموال الكنيسة وغياب رقابة الدولة عليها، كما يحدث مع الأزهر ووزارة الأوقاف، وحتى الجمعيات والنقابات والنوادي.
لم تذكر الإمارات أو الكنيسة قيمة المنحة التي شملت أربعة مشاريع صحية وتعليمية في ثلاث محافظات، وهذا الغموض المقصود يفتح الباب لمزيد من التساؤلات عن التمويلات الأخرى التي قدمتها الإمارات للكنيسة، سواء في شكل مشروعات أم سيولة مالية، أو التمويلات التي استقبلتها الكنيسة من دول أخرى.
ليست هذه المرة الأولى التي يحتاج الشعب المصري فيها لمعرفة الأوضاع المالية للكنيسة المصرية، ويتمكن من معرفة طبيعة التمويلات الأجنبية لها، خاصة أن الكنيسة تتلقى مليارات الجنيهات سنويا من الخارج.
أشار الكاتب القبطي الراحل ماجد عطية إلى أن قيمتها تجاوزت المليار دولار سنويا (حوالي خمسة مليارات جنيه مطلع العام 2005)، وفي أزمة سيول الإسكندرية التي وقعت في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، تلقت الكنيسة مبالغ ضخمة من تبرعات أقباط المهجر لترميم بعض الكنائس والأديرة التي أعطبتها السيول، وخرج جزء كبير من تلك التبرعات لحسابات شخصية لبعض القساوسة، وفقا لرواية الناشط القبطي رامي جان، نقلا عن أصدقائه في نيوجيرسي.
الحديث عن أموال الكنيسة وطرق إدارتها ليس عملا طائفيا، ولا هو شأن داخلي للكنيسة، بل هو شأن عام، ففي ظل أي دولة مدنية دستورية تخضع كل مؤسسات الدولة لقانون واحد، ولايجوز التمييز في المعاملة على أسس دينية أو عرقية أو فئوية، واستثناء المؤسسة الدينية الرسمية المسيحية من المراقبة المالية التي تشمل نظيرتها الإسلامية هو أمر مخالف لبدهيات الدولة المدنية الحديثة، وهذا ما يدركه الساسة الأقباط المنادون بالدولة المدنية.
تتنوع الإمبراطورية المالية للكنيسة بين عشرات الأديرة (التي تتجاوز مساحة أحدها وهو دير الأنبا مقار 25 ضعف مساحة دولة الفاتيكان)، وتضم آلاف الأفدنة التي يتم زراعتها بمحاصيل زراعية متنوعة تدر عوائد ضخمة.
كما أنها تضم مزارع حيوانية وحتى بعض مصانع وورش. وتشمل تلك الأموال الأوقاف القبطية الأخرى من أراض زراعية وعقارات سكنية ومكتبية، وشركات، وليس هناك تقدير حقيقي لقيمة هذه الممتلكات التي تغيب عنها رقابة الدولة، ولا تدفع أيضا الضرائب المقررة.
كانت الأوقاف القبطية جزءا من هيئة الأوقاف المصرية منذ أن أممها الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر حتى آذار/ مارس من العام 1999، حيث تم رد الأوقاف القبطية للكنيسة، في حين بقت الأوقاف الإسلامية تحت ولاية الدولة ممثلة في هيئة الأوقاف المصرية.
المطالبة بمد سلطة الدولة ورقابتها على الكنيسة جاءت من الوسط القبطي أولا، وتحديدا من جبهة الإصلاح الكنسي التي نشطت في النصف الثاني من عقد التسعينيات.
وقد كتب أحد القساوسة عام 1997 وهو إبراهيم عبد السيد كتابا بعنوان "أموال الكنيسة القبطية، من يدفع ومن يقبض؟"، شرح فيه مصادر أموال الكنيسة التي تقوم بالأساس على العشور وهو يقابل الزكاة عن المسلمين، إلا أن العشور لابد أن تدفع للكنيسة فقط، إضافة إلى النذور والتبرعات وكذلك إيرادات الأديرة، والعقارات والأراضي الوقفية والشركات والمستشفيات والمدارس التي تديرها الكنيسة أو تشارك فيها.
وحتى نعرف قيمة العشور التي تحصلها كنائس المهجر وترسل غالبيبتها للكنيسة الأم في مصر، علينا أن نعرف أن عدد الكنائس التابعة للكنيسة المصرية في أمريكا تبلغ 300 كنيسة، تجمع كل كنيسة حوالي 100 ألف دولار شهريا، أي بإجمالي 30 مليون دولار يرسل 60 في المئة منها، أي 18 مليون دولار شهريا إلى مصر أي 216 مليون دولار سنويا (أي 1.8 مليار جنيه تقريبا)، وإذا علمنا بأن هناك 200 كنيسة قبطية في أوروبا و60 كنيسة قبطية في أستراليا، بخلاف الكنائس القبطية في بقية الدول، يمكن أن تتجاوز قيمة التدفقات الواردة من الكنائس المصرية في الخارج حوالي ثلاثة مليارات جنيه سنويا.
يضاف إلى ذلك إيرادات الأديرة والأوقاف المسيحية والشركات والمساهمات الأخرى.
ولمعرفة حجم رأس مال الأديرة، لابد أن نعرف المساحات الضخمة لها، فأكبر الأديرة هو دير أبو مقار، وتبلغ مساحته نحو 2700 فدان، أي ما يعادل 11340000 متر مربع تقريبا، وتعادل مساحتة 25 مرة مساحة دولة الفاتيكان، أما ثاني أكبر الأديرة فهو دير أبو فانا في المنيا، الذي تبلغ مساحته نحو 600 فدان، أي ما يعادل 2520000 متر مربع.
أما مساحة دير ماري مينا، فتعادل تقريبا مساحة دير أبو فانا، ويضم هذا الدير العديد من المصانع: "مصنع الجبن، مصنع آيس كريم، مصنع مخللات، مصنع عصائر، مصنع للصلصة"، إلى جانب (مزرعة أبقار، مزرعة أسماك، وغيرها من الأنشطة الاقتصادية المختلفة).
ويعني ذلك أن مساحة أكبر ثلاثة أديرة في مصر تبلغ نحو 3900 فدان، أي ما يعادل 16 مليون متر مربع، وهناك عشرات الأديرة الأخرى الأقل مساحة من ذلك.
بغض النظر عن ضخامتها أو هزالها، وكونها بالمليارات أم بالملايين، تبقى أموال الكنيسة أموالا عامة لا بد أن تخضع لرقابة الدولة، وتبقى الكنيسة مؤسسة من مؤسسات الدولة، وليست دولة داخل دولة.
لا بد أن تخضع حساباتها لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات المنوط به مراقبة الآداء المالي لكل المؤسسات والهيئات العامة أو التي يشارك فيها المال العام بنسبة 25 في المئة.
وقد سبق للفقية القانوني المستشار طارق البشري أن كتب في العام 2005 دراسة عن ضرورة خضوع الكنيسة لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات، حيث إن قانون الجهاز يخضع لرقابته كل الهيئات العامة وأشخاص القانون العام لمراقبة الدخل والمنصرف وللرقابة المالية بشقيها المحاسبي والقانوني..
علما بأن الهيئات العامة ليست هي فقط وحدات الحكومة المركزية أو جهات الحكم المحلي التابعة للدولة، ولكنها تشمل النقابات المهنية، لأنها تعدّ في التعريف القانوني هيئات عامة باعتبارها تقوم على أمور تنظيم المهن ورقابة أداء أعضائها لهذه المهن.
وتعدّ قراراتها قرارات إدارية تخضع بحسب الأصل لاختصاص محاكم القضاء الإداري.
وكشف المستشار البشري في دراسته عن العديد من الأحكام القضائية التي صدرت في فترات متتالية، وتعدّ المؤسسات الكنسية المصرية هيئات عامة، ومن ذلك الدعوى رقم 432 لسنة 14 قضائية جلسة 6/2/1962، وحكم المحكمة الإدارية العليا في الطعن 1190 لسنة 20 قضائية 20/12/1980.
وحكم المحكمة العليا في الطعن رقم 2178 لسنة 27 قضائية جلسة 31/3/1984.
وكذلك أحكام المحكمة العليا الصادرة في الدعوى رقم 3282 لسنة 43 قضائية بجلسة 15/1/1991، والدعوى رقم 3450 لسنة 42 قضائية وخلص المستشار البشري من تلك الأحكام إلى أن "الرقابة المالية للجهاز المركزي للمحاسبات يتعين أن تخضع لها كنيسة الأقباط الأرثوذكس وغيرها من الكنائس، وهي رقابة مالية ذات شق محاسبي وشق قانوني، كما أنها تشمل رقابة الأداء وغيرها.
و"إن هذه الرقابة ثابتة في الكنائس ثبوتها علي كل الأشخاص القانونية العامة، والمادة 13 وما بعدها من مواد الباب الثالث من قانون الجهاز توجب علي الجهات الخاضعة لرقابته أن توافيه بميزانياتها وحساباتها الختامية وغير ذلك على تفاصيل واردة في القانون ولائحته".
قاومت الكنيسة المصرية في عهد البابا شنودة ومن بعده في عهد البابا تواضروس كل محاولات إخضاعها لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات، بل إنها رغم مطالبها مرارا وتكرارا بقانون موحد لدور العبادة، إلا أنها رفضت هذا القانون عقب ثورة يناير، حين نص على إخضاع الكنائس لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات مساواة بالمساجد..
كما أن الكنيسة حشدت كل جهودها لحذف المادة الخاصة بالهيئة العليا للوقف، التي تضمنها دستور 2012، حتى تتجنب الخضوع لمعايير موحدة مع الأوقاف الإسلامية.
لم يعد مقبولا أن تبقى إحدى مؤسسات الدولة التي تتعامل بالمليارات من الجنيهات بعيدة عن أي رقابة للدولة، بل تبقى دولة داخل دولة، أو حتى دولة فوق الدولة، فهذا ما يزيد أسباب الاحتقان الطائفي الذين يحرق الجميع.