كتاب عربي 21

الربيع ومنعطفات المسار الإيراني

1300x600
الآن، وفي ضوء الزيارة الأخيرة التي يقوم بها هذه الأيام الرئيس الإيراني "حسن روحاني" إلى أوروبا، وبعد "اتفاق فيينا" الذي قضى برفع العقوبات عن إيران، يمكننا إعادة قراءة الدور الإيراني الذي انكشف حجم تمدده الكبير خلال الربيع العربي والثورات التي صاحبته.

الحديث اليوم في أوروبا وفي أوساط المال والأعمال لا ينقطع عن حجم الأموال الإيرانية التي تنوي طهران استثمارها في أوروبا، والتزاحم على أشده من أجل الحصول على نصيب من الكعكة الشهية. فكأن الأموال والأرصدة الإيرانية المجمدة في الخزائن الغربية، والتي تفوق المائة مليار دولار ـ حسب الرواية الأمريكية وتسعة وعشرين مليارا حسب البنك المركزي الإيراني ـ لن تغادر خزائنها بفعل العقود المبرمة مع الشركات الأمريكية والأوروبية.

طغيان الصفقات ومنطق التجّار على الجولة الإيرانية لا يُخفي طبيعة الصفقات السياسية التي تنتظرها إيران من إعادة تطبيع علاقتها مع الغرب، إضافة إلى الفرصة النادرة التي ستسمح لها بتجديد اقتصادها وأسطولها الجوي وكل الصناعات الحيوية التي تعتمد على التكنولوجيا المتقدمة. أبرز الصفقات السياسية إنما تتمثل في القبول الغربي بالمشروع الإيراني في المشرق العربي خلال المرحلة الجديدة والذي يرتكز على اكتساحها لمناطق نوعية في الرقعة العربية بشكل عسكري مباشر.

الملف السوري هو أكثر الملفات حضورا في الصفقات الإيرانية، وغير بعيد عنه حرب اليمن التي يخوضها الحوثيون بالوكالة لصالح إيران، وكذلك الملفين اللبناني والعراقي.

أي إن المحادثات الإيرانية الغربية تهدف إلى تحقيق هدفين حسب طبيعة الفاعل الدولي، فالغرب الذي يجمع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إنما يستهدف رأسا السوق الإيرانية بكل مجالاتها، ويسعى قبل كل شيء إلى إنعاش اقتصاده المتهالك بأسواق جديدة لا تزال بكرا. أما الفاعل الإيراني فيستهدف المصالح الغربية الخارجية بما يمكنها أن تحققه من تقاطعات وظيفية مع أطماعه التوسعية في المشرق ليلعب، كما كان سابقا، دور الشرطي الإقليمي للخليج. أي إنّ إيران تبحث عن نقاط التقاطع الدنيا مع اللاعب الغربي من أجل منع التصادم مع مصالحه ومجاله الحيوي عربيا وإسلاميا، مع الإبقاء على نفوذها التاريخي المتمدد في المنطقة من الساحل السوري وصولا إلى مضيق باب المندب.

نجح الإيرانيون منذ الثورة الخمينية في تفعيل محورين من محاور التمدد: أولهما الحضور العسكري المباشر على جبهات مختلفة كالحرب مع العراق، وعبر حزبهم في لبنان، ومختلف الخلايا المنتشرة خاصة في الرقعة المشرقية حيث توجد الأقليات الشيعية العربية. ويتمثل المحور الثاني في تطوير عمل القوّة الناعمة عبر تصدير شعارات الثورة الخمينية، وتحويل المشروع القومي الفارسي إلى مشروع عقائدي يحمل مقولات المقاومة والصمود، ويحمل خاصة صورة المقولة "الإسلامية " في الثورة والدولة والجمهورية التي نجحت إيران في فرضها فرضا عبر الفراغات العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج.

الاستثمار الإيراني في الفراغات العربية لا يقتصر على نجاحها في تجنيد العدد الأكبر من الشيعة العرب لصالح مشروعها الإمبراطوري التوسعي، بل يتجاوزه خاصة نحو نجاحها في استقطاب القضايا العربية الأم ودمجها في مجال فعلها الحيوي وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ومحاربة الصهيونية، ومقاومة المنظومات الاستعمارية العالمية.

بناء على هذه الإستراتيجية التوسعية، اكتسحت إيران الوعي القاعدي العربي، وتحولت إلى رمز من رموز القدرة على الوقوف في وجه القوة الأكبر في العالم. لكن مع حرب الخليج الأولى والثانية، وبعد غزو العراق من قبل الإمبراطورية الأمريكية لمنعه من التحول إلى قوة إقليمية صناعيا ومعرفيا وتكنولوجيا، بدأت ملامح المشروع الإيراني في المنطقة العربية تنكشف وتخرج إلى السطح خاصة بعد مشهد الإعدام الشهير للرئيس العراقي السابق، وما لحقه من مذابح وحشية في حق أهل السنة بالعراق من قبل المليشيات الشيعية الموالية لإيران. بعد ذلك، نجح حزب إيران اللبناني عبر حرب 2006 مع الكيان المحتل في تغطية المشهد التوسعي، وحافظ على الصورة النمطية للفاعل الإيراني عبر أذرعه الإعلامية وقدراته الخطابية الكبيرة التي تتفق مع أفق الانتظار العربي المكبّل بالهزائم والنكسات منذ فجر تاريخه الحديث.

لكن الربيع العربي ومجمل الثورات المرتبطة به وخاصة الثورة السورية هما اللذان عرّيا حقيقة المشروع الإيراني في المنطقة باعتباره مشروعا لا يختلف عن كل المشاريع التوسعية الأخرى، بدءا بالصهيوني، وصولا إلى الروسي، مرورا بالأمريكي. انكشاف المشروع لم يقتصر على التصريحات الرسمية الإيرانية التي تتفاخر باحتلال العواصم العربية، بل تجاوزتها نحو تحرك الخلايا الإيرانية الكبرى والعاملة بالوكالة لصالح طهران من أجل وأد الربيع العربي الذي تجرّأ على المجال الحيوي الإيراني في الأرض العربية وخاصة في سوريا.

هكذا تحول حزب الله اللبناني من حزب مقاوِم نظريا إلى أداة طائفية عمليا تعمل رأسا لصالح المشروع الإيراني ضد الأمة وضد الوطن، فتورط بذلك في مذابح ومجازر كبيرة في حق المدنيين السوريين الذين طالبوا بالحرية والكرامة. كذلك كان حال بقية الأدوات الإيرانية في المنطقة بدءا بالنظام الطائفي في سوريا وقد سلّم الوطن لصالح فرق الموت الإيرانية ولصالح المحتل الروسي، ولم يمانع كذلك في التنسيق سرّا مع الطيران الصهيوني ضد أبناء شعبه. أما في العراق، فقد مارست القوى التي جلبها المستعمر الأمريكي على الدبابات لبناء الديمقراطية أبشع أنواع القتل والتعذيب في حق المسلمين العراقيين بإشراف مباشر من فرق الموت الطائفية التابعة لطهران.

هذا الانكشاف الكبير في المشهد هو الذي دفع الإيرانيين إلى التعجيل بالتحالف العلني مع "الشيطان الأكبر" والقوى الدولية التابعة له، بعد أن كان التحالف سرّيا منذ فضيحة "إيران كونترا"، وصولا إلى حرب أفغانستان واحتلال العراق بتنسيق أمريكي إيراني لا يخفى على أحد اليوم.

لا نشك اليوم إذن في أن فضل الربيع على الأمة كبير جدا من الناحية الإستراتيجية، حيث حوّل إلى السطح ما كنّا نحسبه مستحيلا على التخيّل والتصوّر، وهو ما يفرض اليوم عليها مراجعة مصيرية لسياستها الإقليمية الفاشلة خلال ما يقارب نصف قرن من الزمان، وخاصة ضرورة ملء جملة الفراغات الرهيبة التي تركتها في مختلف أحزمتها الرخوة والتي مثلت مدخلا للتوسع الإمبراطوري الإيراني في المنطقة العربية.