(1)
"إننا نمد أيدينا إلى جميع الدول المجاورة وشعوبها عارضين السلام وحسن الجوار، ونناشدهم إقامة روابط التعاون والمساعدة المتبادلة مع الشعب اليهودي صاحب السيادة والمتوطن في أرضه، إن دولة
إسرائيل على استعداد للإسهام بنصيبها في الجهد المشترك لأجل تقدم الشرق الأوسط بأجمعه".
السابق فقرة من بيان تأسيس دولة إسرائيل يناشد فيها قادة الكيان الصهيونى الجديد الدول
العربية لقبول دولتهم الناشئة، طالبين السلام وحُسن الجوار مبدين استعدادهم لأى عمليات سلام.
من المنظور الإسرائيلي يأتي تأسيس دولتهم كعمل إعجازي، ظلوا يسعون خلفه لعشرات السنيين منذ المؤتمر الصهيوني الاول عام 1897 ومن بعده وعد بلفور (المشؤوم) مع تأصل فكرة إقامة وطن قومي لليهود في أرض
فلسطين، هذا الإعجاز يدفعهم لتمجيد الجيل الأول من المؤسسين لدولتهم.
(2)
أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة مشروع إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين، تلا ذلك إنسحاب بريطانيا من فلسطين فى 14 أيار/ مايو 1948، وفي اليوم ذاته، اُعلن قيام دولة إسرائيل، ترتب على هذا الإعلان والرفض العربي لقرار تقسيم فلسطين نشوب صراع مسلح صريح ومعلن بين العرب من جهة وإسرائيل من الأخرى، لم يتوقف هذا الصراع المسلح واستمر لقرابة الثلاث عقود خاضا الطرفان خلالها أربع حروب كبرى (في أعوام 1948 - 1956 - 1967 - 1973)، تأصل نتيجة عنها العداء وترسخت الكراهية في وجدان أجيال، سواء من عانت ويلات الصراع أو عايشت واقعه أو التي درسته وتعلمته فى المدارس والجامعات.
(3)
فى حياة الدول مراحل تأسيسية تأتي مرة أو مرات بحسب الأحداث المؤثرة والتى تشكل تاريخها وينتج عنها مكتسبات عظيمة، كان التأسيس الأول لإسرائيل على يد عصابات مسلحة (هاجاناه – أرجون....) وهجرات جماعية لليهود من خارج فلسطين، وبمساعدة دول عظمى في ذلك الوقت وبقرارت دولية. ورغم هذا كله لم تكن النشأة طبيعية، وظل التأسيس استثنائيا واستمر العداء يحاوط إسرائيل.
في الحاضر تشهد إسرائيل تأسيسا ثانيا، هذه المرة بمعاونة كثير من الأنظمة العربية. فإسرائيل التي ناشدت العرب عند قيامها السماح لها بالعيش بينهم تتلقى اليوم الدعم والتأييد وحتى الحماية من بعض جيرانها العرب، وهو الأمر الذي يخرجها من كونها استثائية إلى الوضع الطبيعي، دولة ذات سيادة تعيش وتتعاون مع جيرانها وتساهم معهم فى نهضة الاقليم، وهو تأسيس عظيم يشابه تأسيسها الأول إن لم يكن يفوقه.
اليوم تحصد إسرائيل ثمن اتفاقاتها وترتيباتها مع الدول العربية، وتتلقى الهدايا من أنظمة دول عربية ناصبتها (أي الدول) العداء لسنوات طويلة، هدايا وتنازلات تمثل إخلالا بالمواقف التاريخية والإجماع الشعبى لدول هذه الأنظمة، التى رفضت ولا تزال وجود إسرائيل بينها، لدرجة أن الحاكم المنقلب فى مصر يتعهد بحماية أمن إسرائيل ويصوت نظامه لصالحها فى المحافل الدولة، وتتسابق العواصم العربية بفتح أبوابها أما السفارات ومكاتب التمثيل الاسرائيلية.
(4)
أدركت إسرائيل أن العداء لها ينبع من الشعوب العربية، فقررت إدارة الصراع بطرق أخرى (بجانب الحرب الوسيلة التقليدية)، فاتجهت لإدارة الصراع عبر اتفاقيات مع بعض الانظمة العربية تمنحها
التطبيع الذي تنشده منذ نشأتها والتي لم تجلبه لها الحرب.
باتفاقية السلام 1979 مع مصر بدأت إسرائيل تفتيت الإجماع العربي وتحييد مصر عن الصراع، ثم بإقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية مع الاعتراف الكامل بدولة إسرائيل، تلتها باتفاقية 1994 مع الأردن، تلتهما جيبوتي باعلان تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وفي العام 1999 موريتانيا وإسرائيل تبادلتا فتح السفارات بينهما. كما أن تونس والمغرب تبادلا مع إسرائيل افتتاح مكاتب تمثيل في 1994، ثم مكتب إسرائيلي للتمثيل التجاري في قطر، ومثله في أبو ظبي.
(5)
لم يتوقف الأمر عند الشكل السياسي وتبادل فتح السفارات ومكاتب التمثيل، بل تخطاها الى التطبيع الثقافي عبرمؤسسات حكومية (بإلغاء أي مصدر للعداء تجاه إسرائيل من الإعلام والكتب والصحف والمناهج الدراسية) وحتى كيانات دينية استخدمت سابقا في تجييش الكره في نفوس الناس تجاه إسرائيل، فقد قام البابا تواضروس رأس الكنيسة الشرقية بزيارة القدس مخالفا منهج سلفه البابا شنودة. وكان على جمعة مفتي (مبارك والمجلس العسكري من بعده) قد أقدم على الفعل ذاته فى 2012.
استمر نهج التطبيع فى العلاقات ليطال الجانب الاقتصادي عبر اتفاقيات مثل (تصدير الغاز والكويرز فى حالة مصر – اتفاقية قناة البحر الميت بالنسبة للأردن)، فضلا عن ترتيبات أمنية تضمن أمن إسرائيل وتصونه (ترتيبات تخص سيناء فى حالة مصر– ترتيبات أمنية للضفة الغربية مع السلطة الفلسطينية).
الغريب فى سلوك بعض الأنظمة العربية أنها تفعل أبعد ما في وسعها لإرضاء إسرائيل، وأكثر مما تطلبه إسرائيل نفسها، بتقديم تنازلات تاريخية على حساب الشعب الفلسطيني، مع تجاهل العداء التاريخي والمواقف الثابتة بين شعوب العربية وإسرائيل، والذي ما زالت أسبابه قائمة حتى الآن، من احتلال الأراض الفلسطينية، فضلا عن أن اسرائيل لا تلتزم بالاتفاقات التي توقعها مع أنظمة هذه البلدان والتي تنص صراحة على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة.. تلك التنازلات والهدايا التي تجعل إسرائيل دولة طبيعية ذات سيادة وثقل إقليمي يمنحها دورا كبيرا في ترسيم مخطط الشرق الأوسط الكبير.
(6)
وكأن مناحم بيجن، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، كان يرى المستقبل منذ عقود، حينما قال: "لن يرفرف بعد الآن أي علم عربي فوق القدس إلا إذا كان هذا العلم فوق سفارة عربية".
كما قال نتنياهوبعد حضوره تظاهرة باريس ضد الارهاب العام الماضى؛ إن القادة العرب الحاضرين للتظاهرة تحدثوا معه وصافحوه أمام العالم كله، مَن ترتبط إسرائيل بعلاقات معهم وغيرهم.
بعصابات مسلحة مهاجرة، وعلى يد بن جوريون ومردخاي بنتوف وحاخام ذيف غولد وغيرهم، تم التأسيس الأول لإسرائيل، ولم يكن طبيعا ولا مستقرا. بعصابات مسلحة مهاجرة، وعلى يد بن جوريون ومردخاي بنتوف وحاخام ذيف غولد وغيرهم، تم التأسيس الأول لإسرائيل، ولم يكن طبيعا ولا مستقرا. وبمساعدة بعض الأنظمة العربية وعلى يد بعض الحكام العرب يتم التأسيس الثاني والأهم لإسرائيل، والذي يمنحها تطبيعا وسلاما واستقرارا لم يمنحها تأسيسها الأول إياهم.