كتاب عربي 21

ماذا فعلت "انتفاضة القدس" حتى الآن؟

1300x600
يمكن الحديث عن سمتين أساسيتين تميزان هذه الهبة الشعبية العظيمة التي يخوضها الشعب الفلسطيني، في هذه المرحلة، من مراحل كفاحه الطويلة والمتصلة، عن أي حالة كفاحية سابقة اجترحها هذا الشعب، وبما يفيض بالدلالات التي أثبتها المقاومون بسكاكينهم وسياراتهم وما توفر لديهم من أدوات نضالية بسيطة، وباندفاعهم الفردي والعفوي المتجاوز لإرادة المنظومة الاستعمارية، بأدواتها وتحالفاتها المتعددة، التي عملت حثيثا في السنوات الأخيرة على سلب إرادة المقاومة من المجتمع الفلسطيني، وتفكيك كامل البنى التنظيمية التي تولت عبء المقاومة بشكل أساسي، ولا سيما في انتفاضة الأقصى.

تتمثل السمة الأولى، في هذه الفردية التي تتوسل بالأدوات القتالية المتاحة، في حالة كشف مزدوجة، فمن جهة كشفت عن الواقع النضالي في الضفة الغربية، والذي عانى من سحب السلاح من الجماهير الفلسطينية، ومن استهداف بنى فصائل المقاومة، وحرمانها من مقومات القيام بالعمل الجهادي، أو من دورها الطبيعي في التعبئة والحشد والتأطير، أو من قدرتها على بناء الجهوزية لمواكبة أي هبة شعبية، ومن جهة ثانية كشفت عن تكرّس الوعي بالكفاح وطبيعة الصراع وجذريته في كينونة الشعب الفلسطيني، الذي عبّر عن وعيه وإرادته بهذه الصورة الفريدة وغير المسبوقة.

حملت الثورة الفلسطينية، أثناء وجودها في الأردن ثم في لبنان، عبء النضال، من خلال فصائلها التي استوعبت الجماهير الفلسطينية من بلاد اللجوء والمهجر، وحتى من داخل الأرض المحتلة، إلى أن انتقل النضال في جسده الأساسي داخل الأرض المحتلة، في صورة الانتفاضة الأولى بطابع شعبي يعبّر عن ظروف الفلسطينيين وممكناتهم النضالية في ذلك الحين، وبالتحام فريد بين المجتمع الفلسطيني وفصائله التي تأطرت الانتفاضة بها وتنظمت فيها، حتى صار الانتماء التنظيمي في حدّ ذاته عملا مجتمعيا ومطلبا شبابيا، إلى درجة أن حركة كـ "حماس"، تمكنت من صياغة ذاتها من جديد وتعظيمها باندماجها في تلك الملحمة الكفاحية العظيمة.

أما الانتفاضة الثانية، وبسبب من وجود ممثل سياسي للفلسطينيين داخل الأرض المحتلة، فإن الكثير من الأدوات النضالية التي أتيحت لكل فلسطيني في الانتفاضة الأولى (رفع العلم، الكتابة على الجدران، توزيع المنشورات..)، قد فقدت قيمتها كأدوات نضالية، كما ألغى وجود الممثل السياسي (السلطة الفلسطينية) القدرة على الاحتكاك المباشر بالعدو، وهو ما عطّل الأدوات الاحتجاجية العزلاء، أو أفقدها قدرتها على إزعاج العدو (الإضراب، المظاهرات، رمي الحجارة..)، الأمر الذي حدّ من قدرة المجتمع الفلسطيني على الاندماج بكامل شرائحه في تلك الانتفاضة، وألقى عبأها على الفصائل التي تمكنت، وللمفارقة، من إعادة تشكيل بناها التنظيمية والمسلحة، أثناء العملية النضالية نفسها، بعد أن كانت قد ضربت وتفككت عقب أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية، مع استمرار المجتمع الفلسطيني أثناء الانتفاضة الثانية في أداء دوره التاريخي كوسط شعبي تتغذى فيه المقاومة، وتستمد منه دعمها.

هذه المرة، وبوعي غريزي بالظرف القائم، وفي عملية دفع مستمرة منذ أكثر من عام، أدرك الفرد الفلسطيني، من حيث هو فلسطيني فقط، وبصورة تستعصي على التفسير، بأن مسؤولية المقاومة هي مسؤوليته الشخصية، وأن البحث عن الأدوات مسؤوليته أيضا، وبأن الظرف لا يحتمل التريث لتعظيم الأدوات، أو انتظارا للفصائل، دون أن تكون هذه الإرادة الفردية والعفوية معزولة عن السياقات النضالية للشعب الفلسطيني، التاريخية والراهنة، وعن التحديات التي يواجهها الشعب الفلسطيني، فالحرب الأخيرة في قطاع غزة وضعت كل فرد فلسطيني في الضفة الغربية أمام مسؤولياته تجاه النضال عموما، وتجاه التحديات الراهنة خصوصا (ظروف القدس، الاعتداءات على المسجد الأقصى، واعتداءات المستوطنين في الضفة الغربية..)، وعبأته من جديد بإرادة النضال والمقاومة، وكان من اللافت في هذا السياق، وللدلالة على اتصال هذه الهبة بعموم نضالات شعبنا، أن افتتحت بعملية منظمة قامت بها خلية تابعة لحماس "بيت فوريك"، وبعملية مهند الحلبي الذي ينتمي لحركة الجهاد الإسلامي.

أما السمة الثانية، فتتمثل بكثافة العمليات الفردية، على نحو غير مسبوق، من جهة الكثافة لا من جهة النوع، وإلا فإن عمليات الطعن والدعس الفردية رافقت دائما نضالات الشعب الفلسطيني، فإذا وضعنا هذه الكثافة إلى جانب طابعها الفردي، وفي سياق كونها حلقة في سلسلة متراكمة من العمل النضالي منذ حزيران/ تموز العام الماضي على الأقل، فإننا إزاء حالة شديدة التفرد والاختلاف، وتنطوي على إرهاصات لما هو أكبر، إن في ذاتها بتطورها لما هو أعظم، أو في انفجارها تاليا في أي من المديين القريب أو المتوسط، وهذا يعني غالبا، أننا مقبلون على مرحلة سوف تضيق فيها القدرات التآمرية على الاحتواء، دون أن يعني هذا الكفّ عن التحذير من كل ما يدبر لهذه الهبة الشعبية العظيمة، كما في زيارة كيري الأخيرة للمنطقة، ومبادرته التي تهدف إلى إنهاء الهبة بالشروط الصهيونية!

لقد تجاوز الشعب الفلسطيني في هذه الهبّة أكبر المؤامرات التي استهدفته، والتي عملت المنظومة الاستعمارية على إنجازها نهائيًا، وخاصة من بعد الانقسام الفلسطيني، ومن ثم فإن وضع الشعب الفلسطيني نفسه من جديد في الموقع الصحيح من الصراع مع العدو، وبما يتجاوز به كل عمليات الهندسة الاجتماعية التي مورست عليه في السنوات الأخيرة، وبما يتفق مع طبيعة الصراع الجذري والوجودي مع العدو الصهيوني، وبما يثبت موقع المقاومة والكفاح المسلح من ضمير هذا الشعب، واستعصاء إرادته على الاحتواء أو التشويه، وبما يمس الأزمة الوجودية للعدو الصهيوني، ويكشف هشاشة مجتمعه، وبالتالي قدرة الفلسطيني على تحقيق إنجازات بأدوات بسيطة.. إن ذلك كله في هذا التوقيت بالذات هام للغاية.

إن ملاحظة السمات الخاصة بهذه الهبة، وما تتميز به من فرادة واستثنائية، يدعونا لفهمها ضمن طبائعها وشروطها الخاصة، فهي وإن لم تتحول بعد إلى حالة كفاحية تستغرق كل الفلسطينيين، لأسباب سبقت مناقشتها في مقالة "في الضفة والقدس: لحظة كفاحية متفردة ومتميزة"، فإن سماتها الاستثنائية تشير إلى عملية دفع نضالي، وحشد تعبوي، ستنتهي في لحظة ما في صورة أضخم من الكفاح الشعبي، وهذا قد يحتاج إلى التذكير بالتصورات الانطباعية السلبية التي اكتست تعبيرات الكثيرين من المساهمين في النقاشات العامة قبيل الهبة حتى وقت قريب، وذلك ما دعاني حينها، في 22 أيلول/ سبتمبر، لكتابة مقالة "المسجد الأقصى في قلب الأمة والجماهير الفلسطينية". أسبوع واحد فقط بعد تلك المقالة وانفجرت الهبة الشعبية العظيمة الجارية.