يرى محللون ومسؤولون فلسطينيون، أن ضخ الجيش
المصري، كميات كبيرة من مياه البحر، على طول الحدود مع قطاع
غزة، في محاولة لتدمير أنفاق التهريب في تلك المنطقة، بمنزلة إجراء سينعكس سلبا على سكان القطاع المحاصر منذ عام 2007.
وكان مواطنون وملاك أنفاق، تحدثوا في الـ11 من الشهر الماضي، عن قيام الجيش المصري، بضخ مياه البحر عبر أنابيب عملاقة مدّها في وقت سابق على طول الحدود بين الطرفين، في محاولة لتدمير
الأنفاق، عبر إغراقها، وهو ما لم تؤكده أو تنفيه القاهرة بشكل رسمي.
غير أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، قال مؤخرا، وفق بيان رئاسي، إن الإجراءات الأمنية التي اتخذتها بلاده على الحدود مع قطاع غزة، لا تهدف إلى الإضرار بالفلسطينيين، وتتم بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية، دون أن يتطرق إلى ماهية تلك الإجراءات، أو مسألة مياه البحر.
ويرى عبد الستار قاسم، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت، برام الله، وسط الضفة الغربية، أنّه من الصعب الجزم بأن يؤدي إجراء الجيش المصري الأخير إلى إنهاء ظاهرة الأنفاق بشكل كامل.
وقال قاسم: "واضح أن هذا الإجراء موجه ضد حركة حماس، والعمل على خنق قطاع غزة، من خلال إجراءات تعمق
الحصار المفروض عليه للعام الثامن على التوالي".
وأضاف: "هذا الإجراء قد يؤثر بالسلب على العلاقة بين حماس ومصر، بعد أن شهدت في الآونة الأخيرة نوعا من التحسن" (يصرح بهذا التحسن قادة من حماس، دون أن تؤكده أو تنفيه السطات المصرية).
وتابع:" الضغط تجاه حركة حماس يزداد مؤخرا، من عدة أطراف، ومن الواضح أن الحركة تدرك جيدا أنها أمام مأزق سياسي، وإنساني، باعتبار أنها من يتولى مقاليد الحكم في قطاع غزة، وهناك خشية أن يكون ما يجري مقدمة لتضييق الخناق عليها".
لكنه استدرك قائلا: "للأسف هذا التضييق لا يستهدف حماس، إنه يمس حياة سكان غزة، ويزيد من عزلتهم، القطاع تحول فعليا إلى أكبر سجن مفتوح في العالم".
ويقول مواطنون، وملاك أنفاق: إنّ ضخ مياه البحر، أدى إلى غمر عدد كبير من الأنفاق، وحدوث انهيارات جزئية في عدد منها.
حركة حماس من جانبها، قالت في بيان رسمي لها، إنها أجرت اتصالات رسمية مع السلطات المصرية، لوقف ضخ كميات من مياه البحر، أسفل الحدود، ووقف ما وصفته بـ"الإجراءات المرفوضة".
ومنذ عزل محمد مرسي، أول رئيس مدني منتخب، في تموز/ يوليو2013، وما أعقب ذلك من هجمات استهدفت مقارا أمنية في شبه جزيرة سيناء المتاخمة للحدود مع قطاع غزة، شددت السلطات المصرية من إجراءاتها الأمنية على حدودها البرية والبحرية مع القطاع، حيث طالت تلك الإجراءات، حركة الأنفاق.
وأعلن المتحدث باسم الجيش المصري، العميد محمد سمير، في حوار مع صحيفة الأهرام المصرية (شبه رسمية)، بتاريخ 25 أيار/ مايو الماضي، أن الجيش دمر 521 فتحة نفق على الشريط الحدودي (مع غزة)، خلال 6 أشهر.
وقال إن "الهيئة الهندسية (إحدى أجهزة الجيش) تعمل على وضع حل هندسي، سيكون من شأنه القضاء نهائيا على ظاهرة الأنفاق".
ومنذ تشرين أول/ أكتوبر الماضي، تعمل السلطات المصرية على إنشاء منطقة خالية من الأنفاق في الشريط الحدودي مع القطاع، وتحديدا في مدينة رفح المصرية، تبلغ مساحتها 2 كيلومتر مربع، من أجل "مكافحة الإرهاب".
ويقول أحد ملاك الأنفاق، مفضلا عدم ذكر اسمه، إنّ ضخ المياه أسفل الحدود، سيؤثر على الأنفاق المخصصة لنقل البضائع والمواد الغذائية.
وأضاف: "هناك أنفاق مخصصة لنقل السلاح إلى فصائل المقاومة في غزة، قد تتأثر، ولكن بشكل عام، هذا الإجراء لن يقضي على ظاهرة حفر الممرات تحت الأرض".
وفي 22 أيلول/ سبتمبر الماضي، قالت منظمة" هيومن رايتس ووتش"، إن قطاع غزة لا يُدخِل سلاحا إلى مصر.
وبحسب التقرير، فقد برأت المنظمة الدولية، قطاع غزة، من اتهامات تحملها قضايا مصرية، وتقارير محلية نشرت على مدار السنتين الماضيتين، من أنها تغذي المتشددين بالسلاح عبر الأنفاق لمواجهة السلطات المصرية.
و"بإمكان فصائل المقاومة أن تبحث عن وسائل أخرى غير الأرض لتهريب السلاح"، كما يقول مصطفى إبراهيم، الكاتب السياسي في عدد من الصحف الفلسطينية.
وأضاف إبراهيم: "قد تلجأ المقاومة إلى أساليب غير الأنفاق، ولا يمكن الجزم بأن هذه الخطوة ستؤثر على كيفية بحث الفلسطينيين عن منافذ لجلب السلاح لمواجهة إسرائيل، هذه الخطوة سياسية بالدرجة الأولى تستهدف حركة حماس، ومحاولة تضييق الخناق عليها أكثر".
ويرى الكاتب السياسي أنه على حماس تبني خطاب يكون عنوانه "أزمة غزة" الإنسانية في ظل الحصار الإسرائيلي الخانق المشدد على القطاع.
واستطرد: "على الحركة أن توضح أنها ليست ضد تأمين مصر لحدودها، وأن الأنفاق وسيلة ابتكرها الفلسطينيون للتخفيف من معاناتهم، وأن ما يجري هو نوع من تشديد الحصار، وخنق القطاع، وتدميره بيئيا واقتصاديا، مطلوب خطاب فلسطيني إنساني بعيدا عن السياسة ".
والأنفاق هي عبارة عن ممرات حفرها الفلسطينيون تحت الأرض على طول الحدود بين غزة ومصر، في محاولة لإدخال "مواد" تمنع إسرائيل إدخالها للقطاع.
ونشطت تلك الظاهرة مع اندلاع "انتفاضة الأقصى" قبل 15 عاما، حيث استخدمتها فصائل المقاومة الفلسطينية لتهريب الأسلحة والذخائر.
ومع اشتداد وطأة الحصار الذي فرضته إسرائيل منتصف حزيران/ يونيو 2007 على قطاع غزة وازدياد وتيرته، اتجه الفلسطينيون للأنفاق لسد رمق احتياجاتهم، وتهريب الأدوية والأغذية، والوقود.
وفي البداية كانت الأنفاق تعمل في نقل بضائع خفيفة مثل السجائر، والأطعمة المحفوظة، ثم تطور الأمر لنقل الدقيق، والسكر، وغيرها من المواد الغذائية الأساسية.
وشيئا فشيئا بدأت الأنفاق تورد لقطاع غزة المنتجات والسلع التموينية كافة، لتمتد لتخصيص أنفاق لنقل مواد البناء، والماشية، وتهريب قطع الغيار الدقيقة للإلكترونيات، وأحدث أجهزة الاتصالات الحديثة، والمركبات والآليات بمختلف أشكالها وأنواعها.
ولم يعد الفلسطينيون يعتمدون على الأدوات البدائية والبسيطة لحفر الأنفاق، بل لجأوا إلى التقنيات الحديثة، والمعدات الآلية، ليصبح احتمال انهيار النفق بسيطا، وعمره أطول، وسرعة إنجازه، بحيث لا يتجاوز الثلاثة أشهر.
ويوجد لحفر النفق، مصممون يرسمون الخرائط، وحفارون متخصصون، ومهندسون يشرفون على عمليات الحفر، ويقومون بإصلاح ما يتم هدمه من أنفاق وتطويرها بزيادة عدد فتحاتها.
ولم يقتصر التهريب على البضائع، فمع إغلاق معبر رفح، المنفذ الوحيد بين قطاع غزة والعالم الخارجي، أصبحت تستخدم الأنفاق لتهريب الفلسطينيين من خارج فلسطين والمغتربين الذين يودون العودة.
ولم يفلح الجدار الفولاذي، أو الجدار المصري العازل الذي تم تشييده في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، وبدأ تنفيذه في عام 2009 من إنهاء ظاهرة الأنفاق.
وتم بناء الجدار تحت الأرض من الحديد الفولاذي على طول الحدود، ويمتد لـ11 كيلومترا، وبعمق نحو 20 مترا تحت الأرض.
غير أن حفاري الأنفاق تمكنوا من اختراقه باستخدام آلات حرارية فائقة القوة، لإحداث ثقوب في الجدار الفولاذي.
وبعد ثورة 25 يناير 2011 التي أطاحت بنظام مبارك، تم إيقاف العمل في بناء هذا الجدار، وشهدت الأنفاق بعد الثورة ازدهارا كبيرا.
من جهته، قال طلال عوكل، الكاتب السياسي في صحيفة الأيام الفلسطينية الصادرة من الضفة الغربية، للأناضول، إن إجراء الجيش المصري الأخير، يستهدف خنق غزة.
وأردف قائلا: "من حق مصر أن تؤمّن حدودها بالكيفية التي تريد، وتتخذ الإجراءات اللازمة، لكن دون اتخاذ إجراءات عقابية بحق السكان المحاصرين، وهنا مطلوب من الأطراف الفلسطينية كافة أن تسعى لإيجاد حل توافقي مع القاهرة، لحل هذه الأزمة، وأن تفصل مصر والسلطة بين مواقفهما تجاه حماس، وبين ما تعيشه غزة من أزمة إنسانية خانقة".
وفي تاريخ 27 أيلول/ سبتمبر الماضي اتهمت حماس، الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بقيادته لما وصفتها بـ"المؤامرة الحقيقية" لخنق قطاع غزة، عبر التنسيق مع مصر بشأن إجراءاتها الأمنية على الحدود الفلسطينية المصرية.
واعتبرت الحركة، التصريحات المصرية حول التنسيق مع السلطة بشأن إغراق الأنفاق أسفل الحدود المصرية الفلسطينية، بمياه البحر، دليلا قاطعا على ما أسمته بـ"المؤامرة التي يقودها عباس لخنق غزة".
وفي هذا الصدد، أشار عوكل إلى أن "شكوكا بدأت تتسرب إلى نفوس سكان القطاع، من أن أطرافا كثيرة تحاصرهم"، مستدركا بالقول:"باتوا يفتقرون إلى متطلبات حياة تتوفر فيها الحدود الدنيا من أسباب الحياة".
واستبعد عوكل أن تؤدي الإجراءات المصرية الأخيرة إلى إلغاء ظاهرة الأنفاق، غير أنه لفت إلى أنه قد "يتم تعطيلها مؤقتا، مع استمرار ضخ المياه، لكن مع استمرار الحصار الإسرائيلي وإغلاق الأنفاق سيبقى الفلسطينيون يبحثون عن منافذ للحياة".
وقال التقرير السنوي الصادر عن منظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "الأونكتاد"، الشهر الماضي، إن غزة قد تصبح منطقة غير صالحة للسكن قبل عام 2020، خاصة مع تواصل الأوضاع والتطورات الاقتصادية الحالية في التراجع.
وبحسب تقرير صادر عن البنك الدولي، في أيار/ مايو الماضي، فإن اقتصاد غزة يصنف ضمن أسوأ الحالات في العالم، إذ سجل أعلى معدل بطالة في العالم بنسبة 43% ترتفع لما يقرب من 70% بين الفئة العمرية من 20 إلى 24 عاما.
وتغلق السلطات المصرية، معبر رفح، على الحدود مع قطاع غزة، بشكل شبه كامل، منذ تموز/يوليو 2013، وتفتحه فقط لسفر الحالات الإنسانية.
وتقول الجهات الرسمية المصرية، إن فتح المعبر مرهون باستتباب الوضع الأمني في محافظة شمال سيناء، وذلك عقب هجمات تستهدف مقرات أمنية وعسكرية مصرية قريبة من الحدود.
ويمتد ضخ المياه لإغلاق الأنفاق، إلى ترك آثار سلبية على الأراضي الزراعية، والمياه الجوفية، كما يقول صبحي رضوان، رئيس بلدية مدينة رفح.
وأوضح رضوان أن "مياه البحر، ستتسبب بمشاكل بيئية، منها ثلوت الحوض الجوفي بالمياه المالحة بشكل كامل، خاصة وأن رفح تعتمد على الخزان الجوفي بنسبة 100%، في توفير المياه".
كما أن استمرار ضخ المياه على الشريط الحدودي، سيتسبب بانهيارات كبيرة ومتتالية في مباني المناطق الحدودية، والبنى التحتية من شبكات الصرف الصحي، وشبكات مياه الشرب،والهواتف، والكهرباء، وسيزيد من تملح التربة المحيطة على طول الشريط الحدودي نتيجة لترشيح مياه البحر عالية الملوحة.
بدوره، يقول مازن البنا، رئيس سلطة المياه في قطاع غزة، إن مياه البحر تتسبب في زيادة نسبة الملوحة في التربة، ما يجعلها "غير قابلة للزراعة".
وبحسب البنا، فإن ضخ المياه في القنوات المائية على الحدود مع قطاع غزة، "يدمر الأمن المائي والغذائي الفلسطيني، ويمتد إلى إفراغ المنطقة الحدودية من ساكنيها".
وأشار إلى أن هذه المياه "أدت إلى حدوث انهيارات كبيرة في التربة"، لافتا إلى أن الطواقم المختصة قامت بفحص عينات من المياه التي تدفقت عبر الحدود، وتبين أنها "مياه بحر مالحة"