تبدو الساحة
الفلسطينية عالقة في مآزقها، وما يشغل الرسمية الفلسطينية في هذا المنعطف التاريخي هو إنجاز ترتيبات داخلية في هيئات قيادية عفا عليها الزمن، على أمل أن يبقى حال "القيادة" على ما هي عليه تقريبا.
لكنّ الاحتلال يتواصل بسياساته وإجراءاته، وتتسارع عمليات هضم القدس في المعدة الإسرائيلية، ويتفشى الاستيطان في أعماق الضفة، مع فرض الأمر الواقع الاحتلالي في الأغوار، بينما تستمر سياسة الخنق بحق قطاع غزة وأنقاضه. ويسير الوجود الفلسطيني في لبنان على حبل مشدود مع التوترات المفتعلة في عين الحلوة، أكبر تجمعات اللاجئين فيها. وتبقى حال فلسطينيي سورية هي التعبير الراهن عن النكبة المتجددة التي تتسبب باجتثاث وجودهم وتفكيك تجمعاتهم وتهجيرهم عبر القارات.
لقد قرع حصار مخيم اليرموك وتجويع سكانه خلال السنتين الماضيتين ناقوس الخطر على مستقبل الوجود الفلسطيني العريض في دولة كبرى محيطة بفلسطين. وأظهرت المأساة السورية المتواصلة الحقيقة الهشة لتجمعات اللاجئين الفلسطينيين التي تضطر عادة لدفع ثمن التوترات والأزمات في بيئاتها، رغم انقضاء عقود طويلة على إقامة المخيمات. فالوجود الفلسطيني يبقى العامل الأضعف في المعادلات المحلية العربية التي تجرفها التحولات والصراعات، فهو مكشوف على التدخلات والتلاعبات بمصيره، ويفتقد مقومات التأمين الاستراتيجي في وجه الاضطرابات والعواصف العاتية.
لكنّ المنطق السياسي الفلسطيني ظل على حاله، فلا تبدو الرسمية الفلسطينية مكترثة بما يجري وليس لديها ما تقوله للعالم بشأنه، حتى أنها بالغت خلال ذلك في التبشير بدولة مستقلة رغم عجز هذا الكيان المشكوك بوجوده على الأرض عن التدخل لمعالجة قضية طارئة عصفت بواحدة من كبرى تجمعات شعبه، فضلا عن ضمان الحماية أو الملجأ أو العودة للمنكوبين الجدد.
عجز الموقف الفلسطيني العام بكل مكوناته عن درء المخاطر عن المخيمات الفلسطينية في
سوريا، ولم يتمكن حتى من احتواء بعض الأضرار الناشئة، وأحجم فوق ذلك عن التعامل مع مضاعفات التهجير المتواصل، وقد جرى مثل ذلك من قبل مع نكبات تعاقبت على تجمعات فلسطينية أخرى، في الكويت والعراق وبعض المخيمات في لبنان مثلا.
لم تستنفر الساحة الفلسطينية قواها بعد، ولم تجمع كلمتها على خيارات محددة بشأن المأساة الفلسطينية في سوريا، ولا يبدو أنها ستفعل. يمكن الافتراض أنّ الموقف الفلسطيني العام لا يستطيع التفاعل أو أنه لا يريده أساسا، أو كلاهما معا، تماما كما يجري مع الملفات الفلسطينية الأخرى. فالحدث الفلسطيني الأبرز اليوم ليس في اليرموك ولا في القدس ولا في غزة المحاصرة، بل تصنعه التأويلات والاصطفافات المتعلقة بملف الرئاسة وأحجية الاستقالة واستدعاء المجلس الوطني المحنّط لهذا الغرض تحديدا، بعد أن صار المجلس نسيا منسيا في منعطفات القضية الفلسطينية الجسيمة بما فيها نكبة فلسطينيي سوريا.
كان على الموقف الفلسطيني العام أن يضع مأساة فلسطينيي سوريا في سياق القضية الفلسطينية العام، والانطلاق منها في شن حملة ضغط على المجتمع الدولي وخاصة أوروبا التي تشكو من تدفقات اللاجئين إليها.
فلا يمكن الاستمرار في إعفاء نظام الاحتلال الجاثم على أرض فلسطين من المسؤولية عن النكبة المتجددة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، بل ينبغي تقريع داعمي هذا النظام، وبعضهم في أوروبا، لمسؤوليتهم عن تعطيل حق العودة الذي يكفل لهؤلاء اللاجئين الانتقال إلى ديارهم الواقعة على مرمى حجر من مخيماتهم؛ بدل المخاطرة بركوب البحر أو التكدس بالشاحنات أو التيه في الغابات والجبال.
وعندما يعجز المجتمع الدولي عن الوقوف عند مسؤولياته، فإنّ ذلك يترك اللاجئ الفلسطيني لجشع سماسرة الأرواح، ثم تعلو شكاوى الأطراف الدولية من معضلة اللاجئين، ويتواصل نزيف الدموع المصطنع بعد كوارث الغرق والاختناق.
ما ينبغي أن يقال لأوروبا تحديدا، إنّ المنطق يفرض تمكين اللاجئين الفلسطينيين من حقهم في العودة إلى أرضهم وديارهم المجاورة لهم، حتى لا تضطرهم النكبة المتجددة إلى المخاطرة بالبحث عن ملاذات آمنة عبر القارات في رحلات تتخللها الفواجع. ولا مناص من تحميل أوروبا بالذات، قسطا من المسؤولية عن تدفقات اللاجئين الفلسطينيين إليها، الذين لم يتدخل المجتمع الدولي ولا أوروبا لتمكينهم من حقهم في العودة إلى أرضهم وديارهم.
إن كانت أوروبا منشغلة حقا بتدفقات اللاجئين إليها فإنّ هذا يفرض عليها المبادرة لمعالجة جوهر القضية، إذ ما زال بوسعها استعمال نفوذها لتفعيل حق العودة الفلسطيني المقرر دوليا. دون ذلك لا معنى للبلاغات الأوروبية عن أفواج اللاجئين؛ على الأقل في ما يخص قرابة خمسين ألف فلسطيني تدفقوا على القارة من سوريا ومن ورائهم أضعاف مضاعفة تتأهب للخروج الكبير أو "الإيكسودوس". ألم يسع أوروبا الحائرة في تدبر شؤون اللاجئين أن تبحث عن مسالك لاستيعاب الفلسطينيين في أرضهم ووطنهم أو قريبا منها مؤقتا، دون أن يكون ذلك على حساب أي من الحقوق الفلسطينية الثابتة؟!
من المهم تحميل المسؤولية على عاتق الضالعين فيها، حتى لو لم ينعكس ذلك بوضوح على الاستجابة العملية لأوروبا الموحدة أو المجتمع الدولي. إذ لا غنى عن تذكير أوروبا والعالم بالأعباء السياسية والإنسانية والأخلاقية للتقاعس والتراخي عن النهوض بالمسؤوليات، بدل الصورة التي يريدها بعضهم لشعب اللاجئين وهو يستجدي المأوى والحماية وصولا إلى أعماق اسكندنافيا.
لهذا التوجه المنشود في الخطاب جدواه المؤكدة في الحفاظ على جذوة حق العودة وإنعاش الوعي به، وسط المخاطر المحيقة باللاجئين التي تدفعهم إلى شفير القنوط الشامل. وإن أحجم الخطاب الفلسطيني عن التقدم والمبادرة فسيعني ذلك، ببساطة، إخلاء الساحة لدعاية الاحتلال التي لا تتهاون في ملء الفراغات وتكثيف التضليل حتى في ملف فلسطينيي سوريا.
ما ينبغي تذكير المجتمع الدولي به أيضا، أنّ الحالمين بتصريف اللاجئين الفلسطينيين إلى أصقاع العالم ستخيب آمالهم بتصفية قضيتهم العادلة، عاجلا أو آجلا، إذ تؤكد التجارب السابقة أنّ الاستقرار في بيئة مريحة نسبيا، يستنفر طاقات الفلسطينيين لخدمة قضيتهم بعد تحررهم من أعباء المأوى والقوت اليومي، وها هم أحفاد اللاجئين يرفعون مفاتيح العودة من المنافي الأوروبية ويحملون مطالب شعبهم بإصرار منقطع النظير.
تحتاج فلسطين خطابا جديدا متحررا من لغة التصفيق والخضوع للمانحين الذين يدفعون رواتب الرسمية الفلسطينية ذاتها، ومعها جحافل أجهزة الأمن المخلصة لوظيفة "التنسيق الأمني" مع أجهزة الاحتلال. ولا غنى للخطاب الفلسطيني في مرحلته الجديدة عن أن يتصف في حضوره العالمي بالمبادرة والجرأة والمشاكسة أيضا، طالما أن الاحتلال يتواصل والنكبة تتجدد واللاجئون يهيمون على وجوههم في شعاب الأرض. أما الرسمية الفلسطينية فيسعها الاحتفاظ بثقافة البساط الأحمر والانهماك باللافتات والرموز دون جوهر الاستقلال والسيادة، وأن تحافظ على هذه الطقوس عشرين سنة أخرى تحت الاحتلال.