أعلنت جريدة "التحرير" اليومية
المصرية، أنها ستتوقف عن الصدور والطباعة لنسختها الورقية، مع الاهتمام بموقعها الإلكتروني، في خطوة وصفها مجلس الإدارة بـ "الشجاعة"، على نحو ظننت معه أنهم سيطلبون التهنئة لإقدامهم على هذه الخطوة الجبارة!.
كلام لا يقدم ولا يؤخر صدر من أحد أعضاء مجلس نقابة الصحفيين، بأن النقابة لن تسمح بذلك، ومثله قاله زملاء من أهل اليسار، إذ أكدوا أن الصحف ملك العاملين فيها، وليست ملك أصحاب رأس المال، من الرأسمالية الطفيلية.
ففي الواقع، أن "عقدة النكاح" هنا بيد صاحب رأس المال، الذي اتخذ قراره بالإغلاق ولا تملك النقابة أن تحمله على العدول عنه، وإن نتج عنه تشريد أكثر من 100 صحفي، كما أن كلام "الرفاق" عن ملكية العمال لوسائل الإعلام، هو أمر نظري، فالمالك هو صاحب رأس المال، وقد اتخذ قراره ونفض يده من العملية برمتها، ولن يمنعه من ذلك أن يتم وصفه بأنه ينتمي للرأسمالية الطفيلية أو المتعفنة، وربما لفت نظره الوصف فسأل من حوله عن المقصود بـ "الطفيلية"؟.. وهل هي نسبة للطفولة البريئة أي أنه رأسمالي صغير؟، ليذكرنا هذا بالنكتة الشائعة عندما وقف أحد "الرفاق" اللبنانيين ليقول إن جمال عبد الناصر لم يكن اشتراكيا ولكنه "برجوازي صغير"، فاستفز الوصف "صغير" أحد العوام فوقف محتجا عليه: بل "عبد الناصر برجوازي في حجم ربك". ربما يقصد بربك وقتئذ "رفيق الحريري": "اذكرني عند ربك"!.
قرار وقف طباعة النسخة الورقية من جريدة "التحرير" خطوة ستتبعها خطوات، وهناك صحف في طريقها للإغلاق فعلا، كما ذكر تقرير لجريدة "الأخبار" اللبنانية، مثل جريدة "الشروق"، وغيرها ليأتي هذا كاشفا عن حجم الأزمة التي تعيشها الصحافة المصرية الآن، التي انصرف عنها القارئ، فهبط توزيعها بشكل ملحوظ، حيث وصل توزيع جريدة "المصري اليوم" إلى 83 ألف نسخة، وهي التي وصلت إلى 380 ألف نسخة قبل ثورة يناير، واستمر توزيعها يقترب من 200 ألف نسخة يوميا بعد الثورة، ولم يكن هذا انجازا بيد أن تحطيم حاجز المليون نسخة صار ذكرى، وقد ولي زمان كان توزيع جريدة "الوفد" أسبوعيا 750 ألف نسخة، وعندما يكتب رئيس تحريرها الراحل "مصطفي شردي" مقاله، فإن التوزيع يتجاوز المليون نسخة، ثم أن كاتبا كفهمي هويدي كان كفيلا بأن يزيد من عدد النسخ الموزعة ليوم الثلاثاء بالأهرام 150 ألف نسخة دفعة واحدة، وكانت صحيفة "أخبار اليوم" قد تجاوزت في عصرها الذهبي المليون نسخة بسهولة!.
"المصري اليوم" مع هذا الانخفاض هي في القمة، فمن الصحف المعروفة، ما لم يتجاوز توزيعها 3 آلاف نسخة، ومع هذا يتعامل رؤساء التحرير فيها على أنهم يؤثرون في الرأي العام، ويصبح بالتالي من حقوقهم المكفولة، أن يشاركوا في رسم السياسة الداخلية والخارجية للبلاد!
بيان مجلس إدارة "التحرير" أرجع هذه "الخطوة الشجاعة" إلى انصراف قطاعات من المجتمع عن قراءة الصحف المطبوعة، وهي "ذريعة الفاشل"، وهناك "ذريعة" كان يطلقها رؤساء التحرير في السابق عن أن الناس انصرفوا عن الصحف إلى الفضائيات، لكن تجربة "المصري اليوم" أكدت أنها "ذريعة فاسدة"!.
فالأزمة تكمن في تراجع الحرية، وتحول الصحف إلى بوق لشخص عبد الفتاح السيسي، خوفا وطمعا. كما أنها فقدت مصداقيتها تماما في مشاركتها في حملة شيطنة الرئيس المنتخب وحزبه وجماعته، فأسرفت في نشر الأخبار المجهلة، التي يتم نسبتها دائما إلى "المصدر الأمني الذي رفض ذكر اسمه" في كل مرة، وما ينشر يفتقد للمعقولية مثل ابن الرئيس محمد مرسي الذي عقدت لجنة خاصة له لامتحان الثانوية العامة، حتى يتمكنوا من تمليته الإجابات، فتظهر النتيجة وإذا به وقد نجح بمجموع متواضع. ومثل أن الرئيس مرسي باع "حلايب وشلاتين" للرئيس السوداني، ومثل الإدعاء بأن "خيرت الشاطر"، وهو رجل بلا صفة رسمية في الدولة، قد باع لقطر "الأهرامات"، ومثلث ماسبيرو وهي منطقة شعبية تقع في قلب القاهرة وعلى نهر النيل، ويطمع فيها كثير من رجال الأعمال الذين كانوا مقربين من الرئيس المخلوع، لبناء أبراج عليها، بشكل يدر مليارات الجنيهات على صاحب "القسمة والنصيب"!.
وبعد الانقلاب العسكري، واصلت هذه الصحف نشر هذه "الأخبار المفبركة" والتي نطلق عليها أخبارا تجاوزا، وصرنا أمام صحف الرأي الواحد، والخبر الواحد، بل و"المانشيت الواحد"، على نحو اندحر بها إلى درك الفضيحة المهنية. ولم يكن التشابه في العناوين لأخبار حقيقية رأي الحاكم بأمره أن تكون هي "المانشيت" في عموم الصحف المصرية، وإنما التشابه أيضا في نشر "الفبركة"، وقد شاهدنا كيف خرجت أكثر من أربع صحف بمانشيت واحد، تمثل في تصريحات لوزير الخارجية الأمريكي في زيارته الأخيرة للقاهرة، عن إقراره بأن الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، وهو ما لم يقله أبدا!.
وفي مناخ كهذا، فإن من الطبيعي أن ينصرف القارئ عن الصحف المصرية، ليس إلى "الإلكتروني"، ولكن باعتزالها بشكل كامل: إلكتروني وورقي، وهي التي لم تقاوم دفاعا عن حريتها ولو من باب التململ، فقد بدا أصحابها ورؤساء تحريرها سعداء، بأن يكونوا في "خدمة الحاكم الجديد"، وإن أفقدهم هذا مبرر وجودهم!.
لقد نتج عن عزوف القارئ عن قراءة هذه الصحف، وبعضها لا يتجاوز توزيعها الألف نسخة، أن انصرف عنها المعلن، هذا فضلا عن أن قلة الإعلانات بسبب الأزمة الاقتصادية، وقلة حظوظ الاستثمار، ثم من هذا المستثمر السفيه الذي يعلن في صحف لا توزع!.
هذا فضلا عن أن لجريدة "التحرير" خصوصية، دفعت صاحبها الحالي، إلى شراءها فلما قضى منها وطرا وجد نفسه فيها من الزاهدين، فكان الإغلاق هو الحل!.
فالرجل من الفلول، إذ كان عضوا بالحزب الحاكم، فأراد أن يمسح هذا التاريخ، ويدعي وصلا بثورة يناير، ورأي في اسم الصحيفة رمية بغير رام، إذ أنها تحمل اسم "التحرير"، وقد مكنه السمسار الإعلامي "إبراهيم عيسي" من حل مشاكله السياسية، كما مكن رجل أعمال آخر كان من المقربين جدا من مبارك هو "سليمان عامر" من "التحرير" القناة الفضائية، وكان معلوما أن عيسى هو من فهم اتجاه الريح، فعقب الثورة مباشرة تقدم لحيازة اسم ميدان الثورة المصرية: "التحرير" كفضائية وجريدة في مجال الاستثمار الإعلامي!.
وهو صاحب تجربة أخرى مشابهة، عندما كان وسيط عملية بيع جريدة "الدستور" لاثنين من رجال الأعمال: سيد البدوي رئيس حزب "الوفد"، ورضا إدوارد، وعندما جاء ليتقاضى راتبه كرئيس تحرير ولم يجده كما المتفق عليه، بدا كما لو كان استيقظ من نومه فجأة ليكتشف أن "الدستور" بيعت للرأسمالية الطفيلية، ولفائدة نظام مبارك، الذي كان قد عفا عنه وتنازل عن حكم قضائي بسجنه لشهرين لنشره خبراً عن مرضه، وجاء العفو بعد التوسلات!.
ما اشتراه "عامر" وصاحبه "أكمل قرطام" هو الاسم، فالأول اشترى فضائية "التحرير"، والثاني اشترى جريدة "التحرير"، وكان بإمكانهما أن يتقدما للحصول على الترخيص دون أن يتحملا ثمنه، ويتصرفا كرجل الأعمال المقرب من نظام مبارك محمد أبو العينين، الذي أطلق قناة "صدى البلد" وكان هو الصاحب الأول لترخيصها. لكن من الواضح أن "قرطام" وصاحبه "عامر" راق لهما الاسم، ولينفيا عن أنفسهما تهمة أنهم فلول، الأول لانتمائه للحزب الوطني والثاني لكونه صديق مبارك المقرب!.
ولم يكن لدى "إبراهيم عيسي" ما يمنع مادامت "الفلوس" ستكون حاضرة "على الطرابيزة"، ولو وقع الزواج الفاسد بالثورة.
وهناك مبدأ حاكم لدى السواد الأعظم من رجال الأعمال المصريين يحكم تصرفاتهم، هو " شراء العبد ولا تربيته"، وقد اشترى "قرطام" حزب "المحافظين"، وهو حزب غريب، فليس معلوما قاعدة مؤسسيه، ويقال أنه هدية من وزير داخلية مبارك "حبيب العادلي" لأحد المحررين الأمنيين بجريدة "الوفد"، وقد نقل المحرر للوزير أن رئيس الحزب "نعمان جمعة" غاضب عليه وسيفصله من جريدة الحزب بسبب حبه للوزير، وأنه يطلب منه أخبارا سلبية عن الوزارة، فمنحه "العادلي" رخصة جريدة "الحادثة" التي قام ببيعها لتصدر باسم "الطريق". كما منحه ترخيص بحزب لتكون رأسه برأس "جمعة"، ولم نكن نعلم أن "قرطام" له صلة به إلا عندما صار رئيسه بتنازل المحرر عنه!.
والحزب حصل على الرخصة القانونية عندما أدخل تعديل على قانون الأحزاب السياسية يشترط لتأسيس الحزب توكيل بألف عضو على الأقل، من عشر محافظات على الأقل، بواقع خمسين عضوا من كل محافظة على الأقل، ولم يكن هذا ميسورا لمؤسس ليس معروفا سياسيا، ويقال والعهدة على الراوي، أن معسكر الأمن المركزي بالدراسة قام بالواجب، ففيه مجندين من المحافظات المختلفة ولم يكلف الأمر سوى اصطحاب موظف من الشهر العقاري للقيام بالمهمة مع دفع رسوم التوكيل التي تنخفض كثيرا عندما تكون بالجملة!.
ولهذا فقد انتقلت رئاسة الحزب بسهولة إلى "قرطام"، فلم نسمع عن اجتماع للجمعية العمومية، أو اعتراض جرى أو منافسة حصلت!.
وليس هذا موضوعنا، فما أعنيه من هذا أن ملكية الرجل لحزب سياسي يمكنه من إصدار صحيفة، بدون اشتراطات في رأس المال كما هو الحال بالنسبة للصحيفة الخاصة، أو عدد معين من المؤسسين، فالقانون يبيح للأحزاب السياسية إصدار صحيفة بالإخطار، لكن اسم "التحرير" مثل غواية له!.
مما رددته إدارة جريدة "التحرير" لتبرر عملية الإغلاق، أن المالك أنفق في ظرف عامين، 50 مليون جنيه. وهو رقم مبالغ فيها للغاية، لكن ليس هو الموضوع!.
فالرجل وقد تمدد الانقلاب العسكري، بشكل رد الروح لنظام مبارك، وخرج أحمد عز الرجل القوي في الحزب الوطني "المنحل" من السجن ليعلن خوضه الانتخابات البرلمانية، فلم يعد يوجد مبرر لمزيد من الإنفاق على صحيفة خاسرة ولا توزع، وبعد أن فقدت الصحافة أهميتها كسلاح في يد أصحاب المال، ليحمون بها ممتلكاتهم، ليس فقد لعزوف القراء عنها، ولكن بالإضافة إلى هذا، لأن السيسي لم يعد لأحد عنده قيمة أو مكانة أو نفوذ، فهو صاحب النفوذ والمكانة، وبإمكان الأجهزة الأمنية فرم الصحيفة إذا طبعت وبها مقال أو موضوع لا توافق عليه السلطة، أو رفعه إذا شوهد قبل الطبع!.
وهذا الأمر المستجد سيجعل كثير من رجال الأعمال يتراجعون عن فكرة تملك وسائل الإعلام، لأنها لن تنتج سوى القول المأثور "موت وخراب ديار"، فلم تعد الوسيلة الإعلامية حامية للمال وللأنشطة الاقتصادية كما كان الحال من قبل!.
كما لم يعد سرا أن دولة بعينها في المنطقة مولت صحفا وصحفيين وقنوات تلفزيونية ومذيعين، بهدف إسقاط حكم الإخوان المسلمين، وهي لن تنفق للأبد عليهم، فليس صحيحا أن الرز بلا عدد، فكما قال القائل "خذ من التل يختل"!.
فلهذا كله فإن المرحلة القادمة ستشهد توقف كثير من الصحف، وتعطل كثير من الصحفيين!.
إنه مستقبل مظلم ينتظر الصحافة المصرية.. للدقة فإنه حاضر مظلم.
azouz1966@gmail.com