كتاب عربي 21

يا عيب الشوم، حاويات قمامة بحجم أوطان!

1300x600
"مالو بتاع الزبالة؟ ده بيشيل الوساخة بتاعتكم. بكره حتندموا. وديني لتندموا". 

لم يجد جامع القمامة عنتر غير هذه الكلمات ليواجه بها طرده من بيت المستشار فهمي ابراهيم، الذي ولجه طالبا الزواج من ابنة العائلة، بعد أن ظنها الخادمة، فووجه طلبه بالسخرية والطرد من البيت. وبمتابعة أحداث الفيلم السينمائي "انتبهوا أيها السادة" المنتج نهاية سبعينيات القرن الماضي لمخرجه محمد عبد العزيز، نكتشف أنهم فعلا ندموا حيث لا ينفع الندم بعد أن صار الزبال صاحب مال وجاه في غفلة من الزمن.

أكثر من خمس وثلاثين سنة بعدها،  يستيقظ أبناء بيروت على تراكم النفايات بشوارع العاصمة اللبنانية وأزقتها بعد أن صار كنس وطمر نفايات العاصمة قضية للمزايدة والمحاصصة السياسية في بلد ظل لتسعة أشهر كاملة دون قدرة على تشكيل حكومة وطنية رست قيادتها على تمام سلام، ولا يزال يصارع الزمن منذ سنتين لانتخاب رئيس جمهورية فشل البرلمان في اختياره لسبع وعشرين مرة متتالية ولا يزال.

لقد استطاع اللبنانيون تدبر أمرهم دون رئاسة حكومة ولا رئاسة جمهورية لشهور وسنين. لكن أياما قليلة من غياب "الزبالين" عن القيام بمهمتهم في الكنس والتظيف وبعدها الطمر، حولت حياتهم إلى ما يشبهونه بـ"الجحيم". ولأن الأمر بتلك "الخطورة"، فقد صار موضوع تدبير أمر نفايات بيروت ورقة يحاول كل فريق استخدامها في "معاركه" الداخلية والخارجية وربطها بملفات سياسية وأمنية كبرى وبحل ما استعصى من تعيينات وترشيحات.

النفايات كانت دوما مسألة تدخل في نطاق اختصاص البلديات، لكن ضعف الكفاءة السياسية وغياب الحكامة في تدبير الشأن العام دفع كثيرا من "محترفي" السياسة السياسوية للترامي على اختصاص البلديات وإلحاقه بالخيارات "الاستراتيجية" للحكومة والوزارات. ليس الأمر غريبا، فقد صار تدبير النفايات بكثير من عواصم الدول العربية، بل حتى عددا من مدنها الصغيرة، فرصا استثمارية كبيرة تتنافس على الظفر بها شركات عابرة للقارات أو شركات محلية كبرى مهمتها تنظيف الشوارع وطمر "الوساخة بتاعتنا".

في أحد مشاهد فيلم "انتبهوا أيها السادة"، وبعد أن صار زبال الحي مستثمرا مع عهد الانفتاح الاقتصادي، يشرح "عنتر" لجمال فهمي إبراهيم، ابن المستشار الذي صار دكتورا في الفلسفة، كيف أن " شغلانة الزبالة ده كلها ذهب".

يجيب دكتور الفلسفة مستغربا: زبالة وذهب؟

لم يفهم "الفيلسوف" مغزى كلام "عنتر". ولو قدر له أن يعيش إلى يومنا لرأى بعينيه "نبوءة" عنتر تتحقق على أرض الواقع بعد أن صارت "مزابلنا" مطمعا لكل مستثمر "نبيه". وفي لبنان، الذي ينتج أربعة آلاف طن من النفايات سنويا ولا يقوم بتدوير أكثر من عشرة بالمائة منها، رأينا كيف أن إحدى الحلول المقترحة تسير في اتجاه إنشاء شركات "زبالة" على أساس طائفي حيث تتكفل كل فئة أو طائفة بكنس وطمر نفاياتها.

قبل عشرين سنة تقريبا،  كان ملك المغرب الراحل الحسن الثاني، قد بعث برسالة واضحة إلى المنتخبين المحليين بخصوص ما لاحظه من انتشار كبير للنفايات بمختلف المدن، تليت على شاشات التلفزيون وعلى أمواج الإذاعة، تلاها ما يشبه ورشا مفتوحا لتجريف المزابل العشوائية المنتشرة في كل مكان، قبل أن يعود الوضع لسابق عهده رغم استعانتنا، ويا للفضيحة، بالأجانب ليجمعوا أزبالنا مقابل أموال طائلة بالعملة الصعبة تحتاجها خزينة البلاد أيما احتياج. 

مرت عشرون سنة ولا يزال المنتخبون ينتظرون الأوامر العليا للقيام بأبسط مهام الحفاظ على صحة من انتخبوهم على أساس "برامج" لا تفوت البتة الوعد بتحسين الوضعية البيئية للمدن كما الأرياف. لكنه الفساد استشرى في بنيان الدول العربية وكان لابد للمزابل أن تنال منه حظها. 

في أوكرانيا، ابتدع المواطنون، وهم بالمناسبة حديثو عهد بمفهوم المواطنة، شكلا احتجاجيا نالوا به احترام العالم حين قرروا إلقاء الساسة الفاسدين في حاويات قمامة وتصوير المشاهد لفضح أصحابها في رسالة واضحة للداخل كما الخارج أن مآل الفاسدين صناديق القمامة قبل مزابل التاريخ. أما في مصر، التي شهدت انتفاضة شعبية "مشهودة" قبل سنوات أربع، فقد كانت المرحلة الانتقالية التي تلت "الثورة" شاهدة بالصوت والصورة على رمي الثوار والمحتجين بجانب حاويات قمامة شارع محمد محمود، بعد اصطيادهم من طرف قوات كان "المخلوع" قد أوكل لها أمر تسيير البلاد من بعده فكان ما كان. هما مجرد مشهدان يلخصان الفرق بين ال"هنا" وال"هناك".

يجلس جامع القمامة عنتر بعد أن لبس أفضل ثيابه وتطهر من روائح ومخلفات يوم عمل مضن في مواجهة رجل مسن تبدو عليه علامات الوجاهة الاجتماعية.

عنتر: أنا اسمي عنتر. صحيح باشتغل في الزبالة لكن كسيب. الصبح بلم الزبالة وباخد ربع جنيه شهري من كل ساكن وبعد الظهر باشتغل في المقلب. يعني بلحق لي في الشهر كده خمسين ستين جنيه. عمي الحاج نوفل متعهد الزبالة في المنطقة  وأنا حمسكها بعد ما يموت...

الرجل: ايوه. ايه القضية؟

عنتر: ان شاء الله مفيش قضية

الرجل: ومال عايز ايه؟

عنتر: أنا لا مؤاخذة يا بيه عايز أتقدم للبنت ايلي شغالة عندكم.

المستشار فهمي إبراهيم: أنا المستشار فهمي إبراهيم أجوز بنتي لواحد زيك "وهو يشد في خناقه".

كانت الشابة المختارة ابنة المستشار ولم تكن الخادمة.

بعد سنوات، مات الحاج نوفل  وصار عنتر رجل أعمال. ورغبة من المستشار المتقاعد في التدخل لديه لفائدة ابنه دكتور الفلسفة، علَه يظفر بشقة في إحدى عماراته، تنقل إلى فيلا عنتر وجلس إليه كتلميذ.

عنتر: ايه رأيك يا أخ فهمي. أنا عندي قضية بخصوص حتة أرض كنت واخدها بوضع اليد والحكومة مزركنة معايا شوية. حدفع لك عربون دلوقتي وهمتك أنت في القضية. أنت معارفك كثير.

فهمي ابراهيم:آه، ومالو.

عنتر: ولو كسبتها يا حلو حدبر لك شقة لجلال في العمارة ايلي حنبنيها على الأرض من غير لا أبيض ولا أسود.

فهمي ابراهيم: يبقى كتر خيرك.

بداية شهر ماي الأخير، لم يجد وزير العدل المصري محفوظ صابر غير الاستقالة  بسبب تصريحات اعتبرت مهينة للزبالين حين اعتبر أن ابن الزبال لا يمكن تعيينه في سلك القضاء. استقال الوزير لأن "سيده" في حاجة للظهور بمظهر الحريص على مشاعر "الشعب الكادح وطبقاته الفقيرة"، لكن ابن الزبال لا يزال غير مرحب به في أسلاك "دولة الآمنين" إلا من بوابة "القرش"  كما قال عنتر لسعادة المستشار: "معاك قرش تسوى قرش".

وكما بدأنا ننهي بلبنان الذي صدر للعالم الثقافة والأدب والفن والجمال، وحيث يسمى مكب النفايات السابق المعتمد للعاصمة بيروت بمطمر "الناعمة"،  يبحث ساسة البلد اليوم فكرة تصدير نفاياته إلى الخارج.

"يا عيب الشوم"، كما قالت نانسي عجرم. وفعلا لم يخطأ المتظاهرون الذين خرجوا للاحتجاج على استمرار أزمة النفايات هناك حين رفعوا في وجوه هؤلاء الساسة شعارا : " ريحتكم طلعت".. 
تجربة أوكرانيا مثال يحتذى، غيرها سنكون بالفعل مجرد حاويات قمامة بحجم أوطان.