ينتصب الرضيع على دوابشة معضلة لنظام الاحتلال الإسرائيلي، فقد تم إحراقه بدون تفويض، وبطريقة بدائية تستعمل أعواد الثقاب، حتى فاحت رائحة الشواء عبر عواصم الدنيا. ما جرى في دوما استحق التوبيخ الذاتي، لاشتماله على مخالفات متعددة لمواصفات النظام الإسرائيلي المتبع في إحراق الأطفال والرضع.
هل استيقظ العالم على فظاعة دوما؟
ما شهدته بلدة دوما الواقعة قرب نابلس في الضفة الغربية في ساعات الفجر من آخر أيام تموز/ يوليو، كان واقعة جديدة من الترويع، اقترفتها عصابات المستوطنين التي تنشط تحت لافتات "تدفيع الثمن" وأشياعها. تم إحراق رضيع
فلسطيني حتى الموت، وأصيب أفراد أسرته بحروق، وسرعان ما أطلقت روائح الشواء المنبعثة من جسد
علي دوابشة الغض، موجة من التنديد الواسع حول العالم.
ما من حكومة في العالم بوسعها التستّر على جريمة مروعة كهذه بحقّ رضيع -ولو كان فلسطينيا! - فكيف لفريق بنيامين نتنياهو أن يغامر بتجاهل الإحراق البشع وهو الذي يستعد لإحياء "يوم المحرقة" بعد شهور قليلة كما يفعل من كل سنة؟
يدفع واقع الاحتلال ومجتمعه الاستيطاني إلى العالم بالأخبار المفزعة والمشاهد المغموسة بالدم والصور الملطّخة بالرماد، ويدرك القادة الإسرائيليون أنّ هامش التحرّك يضيق أمامهم مع إحراق رضيع على مرأى من القرية الكونية ومسمع. فما الذي أبقته هذه الصدمات من الأساطير الحالمة التي روّجتها دعاية الاحتلال حول العالم؟ وما وقْع هذه التطوّرات على منظومة الدعم والإسناد الخارجية التي لا تستغني عنها دولة الجيش والمستوطنين؟
فاشية إسرائيلية مسلّحة
برز "تدفيع الثمن" في السنوات الأخيرة عنوانا لموجة جديدة من الاعتداءات الإسرائيلية "غير الرسمية" على الفلسطينيين، مشفوعة بتهديدات فاشية تفترش الجدران. تلاحقت تحت هذه الشعار عشرات الاعتداءات التخريبية وهجمات الإحراق وحملات الترويع في القرى والأحياء الفلسطينية، علاوة على تدنيس المساجد والكنائس والمقابر وإضرام النار فيها وتشويهها بالشعارات الفاشية.
تسدد جماعات الإرهاب الإسرائيلية ضرباتها التي تصاعدت في الشهور الأخيرة، بعمليات الإحراق والتدمير والتشويه. ولا يسع المسؤولين الإسرائيليين الاستمرار في كنس هذه الوقائع تحت البساط أو التشكيك بحدوثها أو تأويلها بذرائع محبوكة بعناية، فالقصص والصور تتدفق عبر الشاشات والشبكات أولا بأوّل.
ما يفاقم المأزق الإسرائيلي أمام العالم أنّ الجريمة تأتي بعد سنة تماما من الاعتداء الرهيب على الفتى محمد أبو خضير وإحراقه حيّا في أحراش القدس، وقد أشعلت صرخاته المكتومة يومها هبّة شعبية فلسطينية ثمّ التهبت أطول جولة حربية في تاريخ الصراع.
يفهمون الاحتلال بلا تغليف
تفيض عصابات الاعتداء الإسرائيلية بتعبيراتها العنصرية الصارخة على الفلسطينيين ومنازلهم وممتلكاتهم، وعلى المساجد والكنائس والأديرة أيضا. إنها لا تُبصِر خطوطا حُمرا، كما لا تعترف بالخطّ الأخضر الذي يحدد الأراضي المحتلة سنة 1967 بل تضرب في أعماق الداخل المحتل سنة 1948. هي في هذا تفهم الاحتلال بواقعية كما هو، برقعته الكاملة لا المجتزأة، فتسجِّل حضورَها في ربوع البلاد، وليس في قرى الضفة وحدها.
تتجاوز هذه العصابات التفويض الضمني الممنوح للمستوطنين الذي يمنحهم فرصة التعدِّي المحسوب على القرى الفلسطينية المحيطة بالمستوطنات كلما راقت لهم هذه الهواية، والتنكيل بقاطنيها تحت ضوء الشمس وعلى مرأى من جيش الاحتلال. فهي تمضي بتوسيع التجربة بشكل غير محسوب مع الإسراف في قائمة الأهداف والتصعيد في طبيعة الهجمات وصناعة الأحداث الإعلامية التي يواكبها العالم خطوة خطوة، خاصة مع إحراق الكنائس والأديرة التاريخية وتلطيخها بالشعارات النابية.
ينطوي الاستنكار الإسرائيلي الأجوَف لمأساة دوما، على تجسيد عملي لمفهوم الجريمة والانتهاك في منطق الاحتلال. فإذا كان الإجهاز على رضيع فلسطيني واحد فقط هو "عمل إرهابي" كما وصفته حكومة نتنياهو؛ فما يكون الوصف الملائم لسلوك قوات الجيش الذي أحرق خلال الصيف الماضي (2014) مئات الأطفال الفلسطينيين وبينهم العديد من الرضّع، قبل أن يحظى أداؤها "الشجاع والمُتفاني" بإشادة قيادة الأركان ووزارة الدفاع، وبالطبع رئاسة الحكومة الإسرائيلية ذاتها؟
لا تَناقُض في الأحجية، فمغزاها أنّ العصابات الهوجاء تخرج على النصّ وتتجاوز التعليمات حتى عندما تحاكي "جيش الدفاع" في ما يقترفه، لأنّ أعمال التخريب والترويع والتدنيس على هذا النحو تبقى من مهامّ المؤسسة الإسرائيلية وقواتها وجماعات الاستيطان المرئيّة أساسا؛ وليس من مسؤوليات مليشيا تتشكل بذاتها وتحدِّد أولويّاتها بصفة عشوائية دون تفويض بسفك الدماء وإحراق الأطفال. ربما كان عليهم الالتحاق بالجيش لتنفيذ المهمة بالإتقان العسكري اللازم وفق توجيهات القيادة والسيطرة.
رسالة توبيخ ذاتية: ليست مهمتكم!
إنّ الاستنكار الإسرائيلي الأجوف هو بهذا المعنى رسالة "توبيخ ذاتية" أيضاً، ومفادها: "إنها ليست مهمّتكم؛ بل مهمّة جيشنا وقوّاتنا التي تقوم بواجبها بلا هوادة، إنّها مهمّة مؤسّساتنا" التي تُفَصِّل القوانين وتنسج الإجراءات، لمباشرة العدوان على الإنسان وابتلاع أرضه وإحراق ما في الطريق باستعمال أدوات حديثة وليس أعواد ثقاب، مع استحضار الذرائع في الحملات الدعائية التي تغطي على جثث الأطفال وأشلاء الرضّع.
مشكلة هؤلاء الطائشين في عصابات "تدفيع الثمن" وما شابهها، أنهم يقترفون جرائمهم دون جهاز محترف للعلاقات العامة كي يتولّى التضليل، ويباشرون الاعتداءات دون أن يتصدى متحدثون متخصصون لوظيفة نسج الأكاذيب وتسويق الذرائع بلغات العالم؛ وبهذا فإنهم يفضحون الاحتلال مع كل اعتداء يقترفونه.
يحسب المراقبون للوهلة الأولى أنّ جباة الثمن و"فتيان التلال" هم نسخ إسرائيلية من اليمين المتطرِّف وحليقي الرؤوس، إذ يتماهون مع خبرات النازيين الجدد في أوروبا، لكنّ التدقيق في المشهد سيكشف عن نموذج وخيم العاقبة وعن تواطؤات لم يجرؤ حلفاء الجانب الإسرائيلي على نبشها. فهذه العصابات الإسرائيلية تتجاوز تجارب التطرف اليميني الأوروبي بحملها أسلحة آليّة مرخّصة ليلا ونهارا، وهي تتحرك بحراسة جيش يحميها، وتحظى برعاية الساسة الذين يغدقون على المستوطنات الأُعطيات تحت بنود التوسّع والبناء، علاوة على ما يحظون به من لفتات العطف المباشرة التي يفيض بها الوزراء المستوطنون عليهم.
يا للهول! فتكوا بالرضيع تحت عيون العالم
تمّت جريمة الفتك البشعة بالرضيع على دوابشة في ضوء الإدراك العالمي الكامل لوقائعها، فكان الخيار هو التنصّل الرسمي الإسرائيلي منها لعزلها في أضيق نطاق ممكن، أي بلصقها حصرا بالأصابع التي اقترفتها على عين المكان. إنها المراوغة المعهودة التي تتخطِّي مسؤولية نظام الاحتلال الإسرائيلي عمّا يجري في الضفة الواقعة بالكامل تحت الرقابة الشاملة والمتابعة الدقيقة. فمن الذي غرس هذه العصابات بين قرى الفلسطينيين أساسا؟ ومن الذي شجّعها على الاعتداء عليهم والتعدي على منازلهم وممتلكاتهم وممارسة حفلات الترويع المسلّح بحقهم؟
ما لا يمكن إنكاره أنّ الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بسلطاتها وجيشها ومخابراتها، هي التي أوجدت الحالة الاستيطانية ودعمتها وسلّحت مستوطنيها المتعصبين، وأطلقت أيديهم للاعتداء على القرى ومنازل الفلسطينيين وترويع الأسر والأطفال على النحو الذي يمضي بلا هوادة. يجري هذا كله بينما تنهمك مؤسسات الاحتلال في مطاردة الصبية الفلسطينيين وصياغة القوانين المكرّسة لإنزال أشد العقوبة برماة الحجارة على أهداف الاحتلال العسكري التي تتحرّك فوق أرضهم السليبة.
ما لا يخفى على صانعي السياسة الدولية أنّ جرائم "تدفيع الثمن" قد تفاقمت في ظل أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرّفا، إذ تضمّ اليوم وجوها معروفة بالماضي الفاشي والتوسع الاستيطاني والتصريحات العنصرية وتمجيد العنف الأعمى، مثل إيليت شاكيد ونفتالي بينيت وأوري آريئيل وغيرهم. إنهم المُعبِّرون الجدد عن "واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط"، التي يجدر بـ"أصدقاء إسرائيل" في الغرب أن يجرِّبوا متعتها في ضيافة جباة الثمن و"شباب التلال" الذين يرون أنفسهم مركزا للكون ومحورا للخليقة.
تبقى عصابات العنف والتطرف نتاجا طبيعيا لثقافة الاحتلال والاستعلاء العنصري وسياسات الاستيطان وإنكار الحقوق الفلسطينية واستسهال سفك الدم. تتصرّف حكومة نتنياهو وكأنّ مرتكبي الفظائع، كالتي شهدتها بلدة دوما، قد هبطوا من كوكب آخر ثم أقلعوا عائدين. والواقع أنهم نبتوا في بيئة الاستيطان، وتتلمذوا على أيديولوجيا مشبّعة بالكراهية والتحريض في مدارس المستوطنين ومعاهدهم، أو تمت تعبئتهم بالخرافات والأساطير المؤسِّسة للاحتلال ودولته. ألم يكن الفاعلون صبية عندما تمّ ملء رؤوسهم بعقيدة العنف قبل حشو جيوبهم بالرصاص في برامج التدريب التي تقيمها ثكنات الجيش والمستوطنات؟
إن أرادت السلطات الإسرائيلية، بحقّ، ملاحقة مقترفي جريمة إحراق الرضيع على دوابشة أو ما سبقها؛ فستجد أنّ بعض أطراف الخيوط ينتهي إلى الآباء المؤسسين لمشروع الاحتلال وأولئك الذين يفترشون مقاعد الحكومة والبرلمان وقيادة الجيش، ويقررون صرف الميزانيات السخية لعصابات الاستيطان مع تسليحها لإطلاق النار برشاقة.
التنصّل من الحريق
ليس استنكار جريمة دوما البشعة صحوة ضمير إسرائيلية، فقد دأبت سلطات الاحتلال على التهاون مع عصابات "تدفيع الثمن" التي تركت بصماتها الحارقة والتخريبية في عشرات المواقع حتى الآن. لكنّ صعود اسم الرضيع علي دوابشة إلى مجلس الأمن وعواصم العالم يفرض التخلي عن لعبة غض الطرف. فجريمة بكلِّ هذه البشاعة كفيلة بفضح المنطلقات العنصرية والفاشية لنهج العصابات الاستيطانية المتعصبة، التي تعمل تحت عيون جيش الاحتلال والأجهزة الأمنية الإسرائيلية.
سيعود الأمر إلى ما كان عليه، وستتواصل الاعتداءات وإن سلكت سبلا أخرى، لأنها منسجمة في نهجها هذا مع دولة يتوجّه جيشها لسحق البيوت على من فيها وقتل الأطفال جملة. وستبقى واقعة دوما تعبيرا بدائيا عن وحشية الاحتلال الذي يفهم مشعلو النار معناه كما يتراءى لهم مباشرة؛ أي بدون تغليف شكلي أو علاقات عامّة ترويجية مخصّصة لأمم الأرض. فهم أنفسهم مجندون في جيشه، أو أقارب وجيران لجنود وضباط مارسوا الفظائع ذاتها، لكن بالبزّة العسكرية وباستعمال أدوات قتل حديثة مع التمتع بأوسمة وترقيات.
لا تعدو عصابات "دفع الثمن" أن تكون مظهرا آخر لواقع الاحتلال، وهي فرصة ثمينة كي ينظر المحتلّون في مرآة حاضرهم ويستشرفوا مستقبلهم. إنها إشارة إضافية على أنّ مشروعهم يتقوّض ذاتيا، وأنّ ارتداداته الداخلية قد تخرج عن السيطرة باحتضانه مشعلي النار في أجساد الرضّع. فمن يزرع الاحتلال "يدفع الثمن"؛ ومن يستنبت الاستيطان يحصد الأورام التي تتمدّد في الأحشاء حتى تشغل المواقع الحكومية أو تهوي بصورة الدولة التي تفرض نمطا كريها من العيش في زمن الصورة والمشهد والبث المباشر.
بحثا عن منظومة الاعتداءات
ما ينبغي الاعتراف به أنّ مأساة الرضيع علي دوابشة تواري خلفها منظومة متكاملة من الاعتداءات العنصرية الإسرائيلية على الفلسطينيين، تستعمل خطاب التحريض والكراهية وتمعن في نزع الصفة الإنسانية عن الضحايا فتنادي بإبادتهم وسحقهم. إنها منظومة تحظى بدعم متعدد الأشكال من جانبي الأطلسي، وحملات تبرع سخية وتجنيد لصالح المنظمات الاستيطانية والعصابات الإسرائيلية الفاشية، التي لا تتورع عن مباشرة القتل والإحراق والترويع والطرد.
لا قيمة عملية لتصريحات الاستنكار عندما تعزل الجريمة في أضيق نطاق، فتُعفي السلطات الإسرائيلية من المسؤولية عن احتضان المنظمات الاستيطانية المسلّحة والعصابات الفاشية ومقترفي هذه الفظائع. ولا أقل من أن يسعى "المعربون عن القلق" حول العالم للتحقق من نظام الدعم والحماية الإسرائيلي للعصابات الفاشية والجماعات الاستيطانية العنصرية ومقترفي الاعتداءات المتواصلة.
قبل سنة واحدة فقط؛ كانت نيران الجيش الإسرائيلي تواصل تنفيذ الأوامر العليا بإحراق الأطفال الفلسطينيين في قطاع
غزة. كان بعضهم على الأرجح شبيها بعلي دوابشة، وقد تم الفتك بهم جميعا دون الحاجة إلى أعواد ثقاب بدائية، كما أتى القصف على جدران غزة دون الحاجة إلى رسم الشعارات العنصرية عليها. وها هم القتلة يرقدون في بيوتهم وثكناتهم الآن بعد منحهم الأوسمة، بانتظار جولة الإحراق القادمة.