تابعت وشاهدت
مسلسل (
حارة اليهود) على اليوتيوب، وانتظرت حتى أشاهده كاملا، حتى يكون الحكم على الكل لا البعض، وواضح جدا أن المسلسل ليس هدفه فقط تجميل شكل اليهود في
مصر، وأن فيهم وطنيين، لكن هدفه الأكبر تشويه فصيل وطني آخر، يهم حكم العسكر تشويهه فقط، ولو على حساب الحقائق وتلميع وجه اليهود الصهاينة، وهم ألد أعدائهم:
الإخوان.
إن قصة المسلسل بنيت على قصة حقيقية، لفتاة يهودية مصرية أحبت شابا من رجال الجيش المصري، ولكنه استشهد في حرب 1956م، وقد ذكرت قصتها جريدة (المصري اليوم) منذ سنوات - على ما أذكر - فقد بحثت عن العدد ولم أصل إليه، وكانت تشترط على المصور مقابلا ماديا عن كل صورة يصورها لها، ولكن المؤلف ترك القصة الحقيقية وراح ينسج من خياله قصة أخرى، لتحقق أهدافا أخرى في رأسه، ورأس الشؤون المعنوية.
لم يكتف المسلسل بتزييف حقائق تاريخية لم يختلف عليها مؤرخ معاصر، فمشاركة الإخوان في حرب فلسطين لم يختلف عليها أحد من المؤرخين المعاصرين، ربما اختلفوا في حجم المشاركة والدور والآثار، لكن كلمتهم جميعا متفقة على المشاركة، فيأتي المسلسل وينفي ذلك تماما، وأنهم هربوا من ذلك بحرب اليهود في مصر لا في فلسطين، وقد اعترف بذلك كل المؤرخين المعاصرين، لم يشذ عنهم أحد، ولعل عودة لمقال الأستاذ الكبير إحسان عبد القدوس عن جهود الإخوان في حرب فلسطين، بعنوان: (الإخوان المسلمون.. كيف وأين ومتى؟!) المنشور في مجلة (روز اليوسف) سنة 1951م خير شاهد، ولا يستطيع المؤلف أن ينكر شهادة شرفاء الجيش والقضاء المصري وقتها، في قضية عرفت باسم (قضية السيارة الجيب) وقد استدعت المحكمة كبار رجال الجيش المصري، كاللواء المواوي، ومعروف الحضري، وغيرهم، وليراجع حكم المحكمة وقتها في هذه القضية، ولم ينكر ذلك في عصرنا: إلا فئة المتصهينين العرب!!
ولم يقف عند ذلك بل راح يزيف حقائق دينية عند الإخوان أنفسهم، فمعروف موقف الإخوان من غير المسلمين، وحسن البنا نفسه ذكر في كتابه (مذكرات الدعوة والداعية) عن أول بيت سكنه في الإسماعيلية، وكان من ثلاث طوابق، طابق يسكن فيه وأصدقاؤه، وطابق فيه مسيحي، وطابق فيه يهودي، وكانت تطلب منه أن يوقد لها (وابور الجاز) يوم السبت، لحرمة ذلك عند اليهود، وكان يقول: نستطيع أن نطلق على بيتنا هذا: مجمع أديان. كما كان مندوب حسن البنا في إحدى لجان الانتخابات بالإسماعيلية يوناني مصري مسيحي. والوحيد الذي جرؤ يمشي في جنازة حسن البنا ويعزي فيه، مواطن واحد مصري واحد، هو: الزعيم المصري المسيحي مكرم عبيد باشا، فهل عمي عقل المؤلف عن كل هذا؟!!
ومعروف دينيا أن العداء هو بيننا وبين الصهاينة وليس لليهود كأصحاب دين، وليس العداء لهؤلاء الصهاينة لعلة الدين، بل لعلة الاعتداء واغتصاب أرض فلسطين، وكلنا يذكر التصريح الشهير لعصام العريان الذي قلب الدنيا عليه وعلى الإخوان، بأن من حق كل يهودي مصري العودة لمصر.
واضح أن المؤلف أراد تجميل وجه العسكر الحاليين ومعهم حلفاؤهم اليهود، بدليل أن الحادثة الخطيرة التي منعت زواج ضابط الجيش (علي) بالفتاة اليهودية (ليلى) هي حادثة تعرف بفضيحة (لافون) وكانت في عام 1954م، فهل امتلك المؤلف الشجاعة ليكتب الحادثة كما حدثت فعلا، من خلال مذكرات العسكر، لا مذكرات غيرهم، وقصة هذه التفجيرات، أن ستة تفجيرات تمت في القاهرة في عام 1954م، دبر اليهود لتفجيرين، أما التفجيرات الأربعة فكانت من تدبير جمال عبد الناصر ممثل حكم العسكر وقتها، وذلك من خلال مذكرات رفقائه، وأنه اعترف لهم بأنه الذي دبر هذه التفجيرات لتخويف الناس من الديمقراطية، وتخييرهم بينها وبين الأمن والأمان الذي لا يحققه لهم إلا حكم العسكر، يقول عبد اللطيف البغدادي عضو مجلس قيادة الثورة: (في مارس 1954م أشار جمال عبد الناصر أن هناك ستة انفجارات حدثت في نفس اليوم، وكلها في وقت واحد في أماكن متفرقة، واحد منها في مبنى محطة السكة الحديد، واثنين بالجامعة، وآخر بمحل جروبي).
ويقول خالد محيي الدين عضو مجلس قيادة الثورة: (وقد روى لي بغدادي (وعاد فأكد ذلك في مذكراته) أنه في أعقاب هذه الانفجارات زار جمال عبد الناصر في منزله هو وكمال الدين حسين وحسن إبراهيم، ليناقشوا معه تطورات الأوضاع، وأبلغهم عبد الناصر أنه هو الذي دبر هذه الانفجارات لإثارة مخاوف الناس من الاندفاع في طريق الديمقراطية، والإيحاء بأن الأمن قد يهتز، وأن الفوضى ستسود، وبطبيعة الحال فإن الكثيرين من المصريين لا يقبلون أن تسود الفوضى بصورة تؤدي إلى وقوع مثل هذه الانفجارات). انظر: كتاب (والآن أتكلم) لخالد محيي الدين ص: 305. وقد حاكمت مصر وإسرائيل منفذي ومخططي العملية، فهل حوكم- ولو تاريخيا- منفذ بقية التفجيرات؟! هل جرؤ المؤلف أن يشير ولو مجرد إشارة إلى هذه الحقيقة التاريخية؟!!
أما أخطر الحقائق التي زيفها، فهي حقيقة هنري كورييل وهو شيوعي ابن مليونير يهودي مصري وأحد مؤسسي حركة (حدتو)، ومعروف مواقفه المجرمة بحق القضية الفلسطينية، فقد أيد كورييل وكذلك حركة (حدتو) قرار تقسيم فلسطين سنة 1947م، وأيد ما اغتصبته إسرائيل من عدوانها سنة 1967م على الأراضي المصرية والفلسطينية، فمثل هذا الشخص بهذه المواقف من يعيد تلميعه على أنه رجل وطني، إلا فئة المتصهينين العرب؟!!
لقد قدم المسلسل كل الناس وطنيين، وكل فصيل فيه الخير والشر، بل الخير أغلب عنده، فالداعرات اللائي يبعن شرفهن لكل من دفع، كان لديهن وطنية وعمل وطني، وقدمن على أنهن بطلات، والمسيحيون فيهم زوجة اصطفانوس الوطني، وهي خائنة لزوجها لكنها تابت، والبلطجي تاب وأصبح وطنيا، وهكذا كل المجتمع بكل ما فيه قابل للتوبة، والوطنية، إلا شخص واحد وفئة واحدة، هو خليل الطورشجي وابنه، ممثلا الإخوان في المسلسل، فليسوا وطنيين، وليسوا مسلمين صحيحي الإسلام، بل يجعلهم في إحدى الحلقات يتحالفون مع النموذج الوحيد في المسلسل غير الوطني، البلطجي (حمدي النطاط) عميل الإنجليز، وعندما يسأل البلطجي الإخواني عن سر تحالفهم معه فيجيب: المصالح بتتصالح. ولو كلف المؤلف نفسه - وهو يعرف الحقيقة يقينا - فقط ليقرأ جريدة الأهرام سنة 1951م سيجد إعلانا عن مكافأة 6 آلاف جنيه لمن يأت برأس محمد فرغلي أحد قادة المقاومة ضد الإنجليز، والذي شنقه بعد ذلك عبد الناصر سنة 1954م مجانا؟! وسيجد في الجريدة ذاتها حوارا معه من مخبئه السري، ولكن كل ذلك تعمد المؤلف إخفاءه.
لقد استحق المؤلف بجدارة لقبا جديدا يضاف إلى وظيفته كسيناريست، وهو لقب: مدلس، فليس هناك جريمة أكبر من تدليس تاريخ عاشه الناس، وذلك لصالح حلفاء الحكم العسكري: (الصهاينة)!!