إذا فشلنا في تحديد مصدر البلاء المسمى
داعش، فلن نتمكن من فهم ظاهرته أو التصدي لها. هذه ملاحظة دفعني إلى تسجيلها تعدد الآراء واختلافها بخصوص منشأ الظاهرة ومصدرها. وما استوقفني في تلك الآراء أن أغلبها -في مصر على الأقل- يشير إلى عوامل الخارج باعتبارها الجهة التي صنعت التنظيم وأطلقته، ورغم أننا اعتدنا أن نشير إلى إسرائيل في مثل هذه الحالات لأسباب مفهومة لا داعي للإفاضة فيها، إلا أنني لاحظت أن مدارس التفسير في الإعلام المصري كانت هذه المرة أكثر تجاوبا مع اتجاهات الريح السياسية، إذ ندُرت الإشارة إلى الدور الإسرائيلي في حين تعددت الإحالات إلى الدور الأمريكي، الذي يحظى بنصيب وافر من الهجوم والاتهام من جانب الإعلام المصري، ولا أعرف ما إذا كانت تلك مصادفة أم لا. وقد شجعني على مناقشة الموضوع ما كتبه الدكتور جلال أمين بخصوصه أخيرا في جريدة الأهرام (عدد 23/2). ذلك أنه تبنى الموقف ذاته وإن بصورة أكثر توازنا. فذكر أنه حين سمع بأمر «داعش» لأول مرة، فإنه لم يتردد في وصفها بأنها «ليست صناعة محلية، بل أجنبية، وإن لم أستطع حتى الآن أن أحدد ما هي بالضبط الأيدي الأجنبية التي صنعتها».
قبل مناقشة الفكرة فإنني أمهد بملاحظتين، هما:
* إننا في الظواهر الاجتماعية نخطئ إذا أرجعناها إلى سبب واحد، لأن السلوك الإنساني تتداخل في توجيهه عوامل عدة، بعضها ذاتي موروث وبعضها مكتسب والبعض الثالث بفعل عوامل ومتغيرات تطرأ على البيئة السياسية. وربما انضاف إلى تلك العوامل عنصر الضرورة الناشئ عن ضيق الخيارات أو ندرتها. وهو ما يعني أن الظاهرة قد تفرزها عوامل محلية، فتزكيها عوامل أخرى إقليمية، وتتلقفها قوى خارجية لتستفيد منها وتوظفها لخدمة مصالحها. بل إن ما تعتبره بلاء يثير فينا مشاعر الرفض والنفور، قد يبدو هدية مجانية لأطراف محلية أخرى، حين تهول من شأنها وتثير فزع الناس منها، لتبرر بذلك إجراءاتها القمعية وتغطي به فشلها على جبهات أخرى.
* إن الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية على رأسها، رغم أنها قد لا تتمنى لنا خيرا، إلا أنها ما عادت مضطرة للتآمر علينا، أولا لأن ما يحدث في العالم العربي جراء صراعاته الداخلية يحقق للشامتين والكارهين مرادهم بغير جهد من جانبهم.
وثانيا لأن أنظمة العالم العربي لم تعد تشكل مصدر إزعاج للدول الكبرى. وأيًّا كانت مواضع الاختلاف في بعض المواقف والسياسات، فالثابت أن العلاقات والمصالح الاستراتيجية ثابتة ومستقرة. ولا تلوح في أفق المنطقة أي بوادر للمساس بالاستراتيجيات والمصالح الغربية، الأمر الذي قد يضطر بعض تلك الدول إلى زعزعة الأوضاع في أنظمة المنطقة لتوجيه رسائل من أي نوع إلى قادتها.
إذا حاولنا تنزيل هذه الخلفية على أرض الواقع فسوف يلفت نظرنا أن تنظيم داعش الذي يعد جيلا متطورا من تنظيم
القاعدة نشأ في العراق التي كانت بيئتها مواتية تماما لاستنبات ذلك المشروع، إذ رغم تعدد فضائل العراقيين، إلا أن أحدا لا ينكر أن ثقافة القسوة والعنف لها جذورها في بلادهم. ولئن قدم نظام الرئيس السابق صدام حسين نموذجا للقسوة والوحشية، إلا أنه لم يبتدع ذلك الأسلوب وإنما عممه فقط. فالسحل له تاريخ في العراق، إذ كان ذلك حظ الأمويين في شوارع البصرة في بداية
الخلافة العباسية. وهو ما تعرض له اثنان من العائلة الملكية الهاشمية في بغداد بعد الثورة (فيصل الأول وخاله عبد الإله) وهو ذات المصير الذي لقيه رئيس الوزراء الأسبق نوري السعيد آنذاك (عام 1958).
كما لم يسلم منه الجنود الأمريكيون في الفلوجة، إذا أضفنا الاحتلال الأمريكي الذي أهان العراقيين وأذل المقاومين في سجن أبو غريب، وسياسة القمع والقهر المذهبي الذي تعرض له أهل السنة في ظل حكومة المالكي، فلا غرابة أن يستدعي كل ذلك النموذج الوحشي الذي شكلته داعش، واستخرجت لأجله مواريث العنف في مواجهة الآخر، مستفيدة من مشاعر القهر لدى أهل السنة في العراق.
وقد وجدت هذه الموجة ترحيبا في أوساط المتعصبين والمقهورين وأنصاف المتعلمين في العالم العربي إلى أن وصلنا إلى ما نحن فيه الآن.
هذه الخلفية لا تحتاج إلى متآمر أجنبي، وإن كان من الطبيعي والمفهوم أن يحاول كل صاحب مصلحة الإفادة منها، وبقايا حزب البعث وجيش صدام حسين المنحل، بل والنظام السوري في مقدمة هؤلاء.
أما مسألة استعادة الخلافة وإزاحة كل من يعترض طريقها أو يتردد في إعلان البيعة لها، فهي لا تختلف كثيرا عن استدعاء فكرة المهدي المنتظر التي يشيع البعض أنه سيظهر في العام الحالي (2015). ولا ننسى أن مسألة الخلافة تدغدغ مشاعر أجيال المسلمين الذين نشأوا في الغرب، فعانوا من التمييز والدونية، كما عانوا من قلة المعرفة بدينهم. وكان ذلك سببا في سرعة انجذابهم إلى داعش ومشروعها.
لا يسرنا بطبيعة الحال أن تكون داعش صناعة محلية على عكس ما ذهب إليه الدكتور جلال أمين، ولكنها الحقيقة المحزنة التي يتعين الاعتراف بها. وأكرر أن ذلك لا يمنع من أن تحاول أطراف أخرى الإفادة منها. ذلك أن داعش قدمت أكبر خدمة للنظام السوري، لأنها أقنعت قطاعات عريضة من السوريين بأن جرائم نظام الأسد أهون من الفظائع التي أقدمت عليها داعش أو القاعدة، ثم أنها روعت العرب بصورة أنستهم قضية فلسطين ووضعت مسألة الإرهاب على رأس التحديات التي تواجههم.
ذلك فضلا عن أنها شوهت صورة الإسلام والمسلمين في العالم، من أوروبا وأمريكا إلى اليابان، بل إن المسلمين في العالم الغربي أصبحوا ضمن ضحاياها، بسبب تنامي الحملات العدائية التي دعت إلى طردهم.
قل ما شئت في التداعيات البائسة التي ترتبت على ظهور داعش في العالم العربي، ولك أن تضيف ما شئت من أطراف حاولت أن تشيع الخوف منها وتستثمر ذلك الخوف لخدمة أغراضها، لكنك لن تستطيع أن تتجاهل أنها خرجت من بيئتنا وأن خلفية القهر والظلم هي التي استدعتها، بحيث استخرجت من شرائح المتعصبين وأنصاف الأميين أسوأ ما فيهم لكي يشوهوا أعز ما عندنا.
(نقلا عن صحيفة بوابة الشرق)