طبقا لأحدث صيحة في خطاب
الشيطنة؛ فإن كل مختلف صار «داعشيا».. ذلك أن جماعة «الدولة الإسلامية» لم يقصروا في تقديم أنفسهم بحسبانهم نموذجا لأعلى درجات القسوة والوحشية، حتى باتوا يحتلون في الوجدان العام موقعا متقدما على مرتبة الشيطان الأكبر.. إذا استخدمنا مصطلح بدايات الثورة الإيرانية الذي نعتت به الولايات المتحدة. وهو ما سوغ للبعض أن يكتفوا برمي من لا يحبون بأنهم من الدواعش، لكي يكون ذلك مبررا كافيا للشروع في الإجهاز عليهم بهدف إبادتهم وتطهيرا للوطن من الطاعون الذي يمثلونه.
هذا التوظيف لمصطلح وسمعة الدواعش بات شائعا في أجواء الصراع السياسي والفكري المخيمة، وقد صار ذلك أكثر شيوعا في مصر، التي تشهد صراعا محتدما بين السلطة والإخوان.. سعى البعض إلى توسيع نطاقه ليشمل مختلف الاتجاهات الإسلامية، وقد تشجع هؤلاء في الذهاب إلى ذلك المدى بعدما دعا الرئيس عبدالفتاح السيسي في خطبة له إلى ما أسماه الثورة الدينية، ورغم أنه كان يقصد الفكر الديني فإن بعض الغلاة تلقفوا الرسالة وقاموا بتأويلها كي تصبح ثورة على الدين ذاته. لذلك تواترت الإشارة في كتاباتهم وأحاديثهم إلى الادعاء بأن كل النشطاء الإسلاميين دواعش.
وللأسف فإن بعض المنتسبين إلى المؤسسة الدينية في مصر، منهم وزير الأوقاف انزلق في ذلك الاتجاه، ونقل عنه تصريح بهذا المعنى نقلته بعض وسائل الإعلام يوم 6 فبراير الحالي.
ليس عندي دفاع عن الجماعات التي شملها التعميم، كما أن لي على بعضها تحفظات وانتقادات عدة، لكنني أعتبرهم مخطئين وليسوا مجرمين. وأزعم في هذا الصدد بأنه ليس كل الغلاة من الدواعش، ولكن "
داعش" ذاتها تمثل أعلى درجات الغلو الذي يشوه الدين ويهينه ولا يتشدد في تعاليمه فقط.
ومن المفارقات في هذا الصدد أنه في حين لا يكف الناقدون لجماعات الإسلام السياسي عن وصف خصومهم بأنهم دواعش، فإن داعش ذاتها تتهم أغلب تلك الجماعات بأنهم مرتدون وكفار. وفي
حدود علمي فإن السلفية الجهادية وأنصار الشريعة وبدرجة أخرى جبهة النصرة، هذه الجماعات وحدها نجت من التكفير والاتهام بالردة.
بهذه المناسبة، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ذهب إلى ذات المدى في شيطنة حركة حماس.. التي يعتبرها عدو إسرائيل الأول.. حين قال إنه لا فرق بينها وبين جماعة داعش. ولكن بعض الإسرائيليين انتقدوه. وانطلقوا في ذلك من التسليم بأن حماس مجموعة «تخريبية» ولكنها مختلفة عن داعش.. وكانت حجتهم في ذلك أنها تؤمن بفكرة الدولة الوطنية فضلا على أنه يمكن التفاهم معها، كما أن تعاملها مع معارضيها وخصومها يختلف بصورة كلية عن النهج الذي اتبعته داعش مع مخالفيها. ولم يكن ذلك دفاعا عن حماس بطبيعة الحال، ولكنه كان بمثابة دعوة إلى إعطائها حجمها الحقيقي إعمالا لشعار «اعرف عدوك».
وقد عرضت لتلك الخلفية في مقالة الثلاثاء الماضي (10/2). وأشرت فيها إلى اشتباك حماس مع جماعة السلفية الجهادية في غزة عام 2009، حين أعلنوا إمارة إسلامية وقتذاك، وأسفر الاشتباك عن مقتل 21 عضوا من أنصارهم بينهم قائدهم الذي تسمى باسم "أبوالنور المقدسي".
وضع الجميع مع داعش في سلة واحدة خطأ جسيم من الناحية المعرفية، وموقف خطير من الناحية
العملية. وقد أشرت توا إلى أنه ليس كل الغلاة دواعش.. على الأقل من حيث إنهم من الناحية النظرية لا يعتبرون مخالفيهم مرتدين وكفارا، من ثم فإنهم يقبلون بالتعايش معهم على «علاّتهم».. أما تعميم الاتهام على الجميع، خصوصا في ظل الحرب الدائرة الآن ضدهم بواسطة التحالف الدولي، فإنه يعنى توسيع نطاق الحرب بحيث يشمل العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه. وهو خيار عبثي غير مقبول أو معقول.
الخطورة تتضاعف على الصعيد المحلي. ذلك أن اعتبار الآخرين دواعش في بلد كمصر يعني أن التعايش يصبح مهددا إن لم يكن مستحيلا. كما يعني فتح الأبواب واسعة أمام الحرب الأهلية التي سيكون الوطن ضحيتها الأولى. وإذا جاز لنا أن نحتمل سقطة يقع فيها أحد الإعلاميين المهيجين والمحرضين حين يردد في أحد برامجه عبارة "إما نحن وإما هم"، في دعوة صريحة إلى إبادة الآخر. فإن الأمر أن يختلف في خطاب النخبة وأهل العلم. على الأقل فإنهم مطالبون بإدراك الفوارق والوعي بعواقب التعميم ومحاذيره.
إن السؤال الجوهري الذي تستدعيه بقوة هذه الخلفية هو: هل نحن حريصون على التعايش تحت سماء الوطن الواحد أم لا؟ وإذا اتفقنا على أنه ليس أمامنا سوى خيار التعايش، إذا أردنا للبلد استقرارا ونهوضا، وإذا انطلقنا من أن الوطن ملك للجميع وليس ملكا لجماعة أو فئة مهما بلغت قوتها، فإن خطاب الإبادة يجب أن يتوقف. كما أن لغة القهر والقمع يجب أن تختفي، وعلى المخلصين للوطن باختلاف أطيافهم أن يتقدموا الصفوف لكي يستخلصوا المشترك الذي ينبغي أن يقوم عليه التعايش والمبادئ والشروط اللازمة لاستمراره. وما لم يحدث، ذلك فإن البدائل تفتح الأبواب لشرور لا حصر لها ولن يسلم من حرائقها أحد.
(نقلا عن صحيفة بوابة الشرق)