يبدو التعاون الروسي
الإيراني في الملفين السوري واليمني مؤشراً واضحاً على الخارطة الجديدة للمنطقة العربية. فالروس الذين يؤيدون –حتى العظم- النظام السوري، ويعتبرون كل من قام ضده إرهابياً، نراهم يعطون الشرعية لمن انقلب على أنظمة وصلت الحكم باللعبة الديمقراطية في أوكرانيا ومصر واليمن مؤخراً، وهو ما يؤكد أن الروس يبحثون عن مصالحهم في الفراغ الذي تركه انحسار نفوذ أمريكا (أو تآمرها مع روسيا وإيران) بالمنطقة.
فما يجري بالمنطقة يبشر بولادة تحالف استراتيجي فاروسي "فارسي روسي" للهيمنة على المنطقة، وبالطبع سيكون العرب عموماً والخليج خصوصاً ضحية هذا الحلف الشيطاني الأسود، فقد تمكنت روسيا من تسجيل نقاط عدة سواء في أوكرانيا أو المنطقة العربية، وأثبتت عودتها للساحة الدولية كلاعب قوي، فيما سيطرت إيران على القرار السياسي في أربع عواصم عربية، وفرضت طوقاً شبه محكم على
الخليج العربي، وكما قال الباحث الكويتي ناصر الدويلة: "إيران قررت تركيع السعودية والخليج عبر زخم عمليات في جميع الجبهات"، واستطاعت بمعاونة الروس تحييد قوى عربية أخرى مثل مصر.
وتستخدم إيران الملف النووي للحفاظ على المكاسب التي حصلت عليها في هذه العواصم، ويبدو أنّها حتى الآن- تنجح في هذا المسعى، إذ سمحت أمريكا لإيران بالسيطرة على العراق، وغضت الطرف عنها في سوريا وأعطت الضوء الأخضر للحوثي باليمن، ولاسيما أنّ شعار الموت لأمريكا الذي رفعه الحوثي تحول لتعاون أمني بين الطرفين ضد ما يسمى "الإرهاب السني"، ولا يمكن أن يكون هذا التعاون إلا جزءاً من التعاون الأمريكي الإيراني على الأقل ريثما تنتهي مفاوضات النووي، فكما قال رئيس الائتلاف السوري خالد خوجة: الولايات المتحدة تتفاهم مع إيران على حساب سوريا، وأن مباحثات الملف النووي الإيراني لها علاقة وطيدة باستمرار النظام الحالي في سوريا.
أمام سلسلة التنازلات أو (الاتفاقات) التي تقدمها أمريكا، وأمام الدعم الروسي اللامحدود لإيران ونفوذها في المنطقة الذي يعتبره الروس امتداداً لنفوذهم،( وفي هذا السياق تُفهم صفقة صواريخ S300 بين إيران وروسيا)، أمام كل ذلك ماذا بوسع الخليج أن يفعل أمام رفع أمريكا بقيادة أوباما الغطاء عن أمنهم الاستراتيجي في الخليج العربي، الذي تسعى إيران لتحويله لخليج فارسي مدعومة بالدب الروسي؟
تهديد الأمن الخليجي الخارجي، والداخلي لاحقاً إن استمرت السياسة الخليجية في الإطار نفسه، لم يُبنَ على الذكاء الفارسي الروسي، والتغاضي الأمريكي فحسب بل بُني على أخطاء السياسة الخارجية لدول الخليج العربي، فالأخطاء الاستراتيجية أوصلت المنطقة لهذه النقطة، وأهم هذه الأخطاء:
أولاً: تخلي الخليج عن المكون السني (تصنيف كمكون سياسي لا طائفي) في العراق منذ الغزو الأمريكي، والسماح بتمدد السرطان الفارسي الطائفي الذي مسخ هوية بغداد العربية، مما مهد لولادة (تنظيم الدولة) الذي سيشكل إضافة للمسخ الطائفي، الذي تشكل ببغداد خطراً على أمن الخليج الداخلي، فالظروف مواتية لنمو سرطان الطائفية، والتطرف.
ثانياً: دعم الثورة السورية إعلامياً وسياسياً والإحجام عن دعمها عسكرياً بما يقلب الموازين على الأرض، في وقت قدمت إيران وروسيا دعماً غير محدود لنظام الأسد بالسلاح والخبراء والرجال الذين يقودون المعارك في الشمال والجنوب السوري إضافة للغطاء السياسي، مما يعني أن مراهنة الخليج على المجتمع الدولي أدى لتدمير سوريا على يد الأسد، وتنظيم الدولة.
ثالثاً: دعم الانقلابيين على الشرعية في مصر، مما يُمهد لفتنة ولصراع داخلي يتهدد الشقيقة الكبرى، التي بدأ الانقلابيون فيها ينهجون نهجاً سياسياً لا يتلاءم مع مصالح الخليج الاستراتيجية، وما زيارة بوتين حليف إيران والأسد لمصر، وموقف السيسي من الثورة السورية، ومحاولته إعادة إنتاج الأسد، إلا بداية سوداء تنتظر الخليجيين من حكومة الانقلاب، وبذلك خسر الخليج حكومة شرعية كان بإمكانها تحقيق الاستقرار لمصر، وحفظ الأمن العربي.
رابعاً: معاداة تركيا، والتنافس معها على زعامة وهمية، مما مكن إيران اللعب على وتر الخلافات الخليجية التركية، وتحقيق مكاسب على الأرض، وتناسى الخليج أنّ التوسع التركي في المنطقة يختلف عن السرطان الفارسي، فتركيا تسعى لمكاسب اقتصادية وسياسية لا تستهدف الهوية العربية، ولا تسعى لقلب أنظمة الحكم.
لم يبق إلا شعرة واحدة لضرب الأمن الخليجي الداخلي، وخلق فتن داخلية على غرار الحوثي في اليمن، أو خلق صراع أهلي يمثله تمدد تنظيم الدولة به، بدعوى تخلي أنظمة هذه الدول عن المكون السني، وتسليم البلاد لإيران.
فهل يعيد الخليج العربي ترتيب أوراقه، ويبني مصالحه دون الاعتماد على الأمريكي، الذي يقدم أمن
إسرائيل ونزع النووي الإيراني على حلفائه الخليجيين والأتراك؟
لا يزال بإمكان الخليج الحفاظ على مصر وتحقيق المصالحة بين المصريين؛ لأنّ الانقلابيين ما زالوا حتى الآن بحاجتهم، وبإمكانهم بناء تحالف عربي تركي ينصر الثورة السورية، ويضع حداً للهيمنة الفارسية، ومؤشرات التقارب السعودي التركي الأخير تدلل على وعي الخليجيين لخطورة المرحلة المقبلة، ولا شكّ أنّ عودة مصر وسوريا للحضن العربي سيحجم دور إيران، بقدر ما يعيد لبغداد وجهها العربي.