اندفع بسلاحه ليقترف المذبحة، سقط الأبرياء مضرجين بدمائهم. كانوا أطفالاً في مدرستهم الابتدائية، ولم يعودوا إلى بيوتهم من يومها.
حدث ذلك سنة 1996 في بلدة اسكتلندية هادئة اسمها دنبلين، عندما اقترف توماس هاميلتون جريمته المروِّعة، فقتل بالرصاص ستة عشر تلميذاً ومعلمتهم. من زاروا دنبلين بعد أسابيع فقط من الحدث المروِّع، أبهرهم نجاحها في تجاوز محنتها، وإن بقي صغارها محفورين في ذاكرتها كأسمائهم المنقوشة على ألواح رخامية. أمّا الجاني فلم تعد تذكره سوى سجلات الإجرام.
هي قصة شهدت مثيلاتها مدن وبلدات في
أوروبا والعالم، وفي كلّ منها أسفر الشرّ عن وجه جديد له، وكان وجهاً واحداً تقريباً في كلّ جولة.
ماذا لو كان اسم الفاعل محمداً أو سعيداً مثلاً؟ وماذا لو كانت امرأة مسلّحة واختارت ستر شعرها؟ لا مجال للتردّد. فالتقليد المتكرِّس يقضي في هذه الحالة بالبحث عن سياقات دينية وثقافية لتفسير الواقعة الجنائية أو العمل الإرهابي من خلالها، ومن المستبعد أن يُكتفى بالقول إنّ الجاني مضطرب نفسياً أو أنه عانى الاكتئاب لانفصال صديقته عنه، أو ربما ضاقت عليه الأرض بما رحبت بعد تسريحه من العمل.
في حالة محمد أو سعيد أو فاطمة، سيتجه التناول والنقاش فوراً إلى خلفيات ثقافية للواقعة، وستتعقّب صحافة التحقيقات المشبّعة بالإثارة خيوط الجريمة في أحياء سكنية تبعث على الريبة. ستتطوّر القضية مع التحرِّي عن المسجد الذي كان يصلي فيه الجاني، وسيُوضع خطيب الجمعة في دائرة الشكّ، وسيكون على المسلمين وتجمّعاتهم ومؤسساتهم أن يعلنوا براءتهم ممّا جرى "باسم دينهم"، وأن يتنصّلوا من المسؤولية عن الفظائع بسيل جارف من البيانات والتصريحات.
تحفل الجرائم والاعتداءات المدفوعة بخلفية جنائية أو سياسية بفنون الترويع، ولكنّ التعامل معها يفترق عادة بالنظر إلى مقترفيها. فما معنى عزل الجرائم والاعتداءات في نطاق مرتكبيها ومعاونيهم فقط، مقابل التقليد المتكرِّس في البحث التعسفي عن سياقات ثقافية ودينية إذا ما كان أحدهم محمدًا أو سعيدًا أو فاطمة؟
صحيح أنّ بعضهم يقترف الفظائع وهو يرفع لافتة "إسلامية"، لكنّ آخرين عمدوا أيضاً إلى فعل الاجتزاء النصِّي من مقولات دينية وثقافية وتاريخية يرون أنها تخصّهم، واستعملوها كما يطيب لهم لتسويغ الممارسات الشائنة.
كان ما اقترفه أندرس بريفيك في أوسلو وضواحيها من أشنع المذابح الجماعية في أوروبا الغربية، لكنّ القضية لم تتعدّه إلى غيره تقريباً، رغم أنّ خلفيات ما وقع في صيف 2011 كانت مشبّعة بالأيديولوجيا، ورغم أنّ آراءه نضجت ضمن أوساط يمينية متطرفة يتطلّع بعضها إلى حكم النرويج، وحتى مع مرافعاته "الثقافية" في المحكمة، بقي بريفيك وحده في الصورة، بكامل عتاده. لقد عمّ الشكّ باضطراب شخصيته، ولم تكترث التغطيات بسياقات دينية وثقافية مفترضة دفعت إلى أعمال التفجير والمذبحة التي خلّفت سبعة وسبعين ضحية في نهار واحد.
يحدث مثل هذا مع قتلة يفتِكون بضحاياهم واحداً تلو الآخر، أو تبلغ بهم الفظاعة في الانتهاكات مبلغها. كان أحدهم ذلك النمساوي يوزيف فريتزل، الذي اقترف في نطاق أسرته على مدار ربع قرن ما لم يأت في أفظع أفلام الرعب. واستحال ذلك الوحش البشري إلى أحد رموز الشر في القرن الحادي والعشرين، لكنّ صنيعه لم يحفِّز أي بحث عن سياقات ثقافية وقيمية معينة يمكن افتراضها، ولم يأتِ الشكّ على المجتمع الذي أنبت هذه التجربة المشينة، فبقي وحده في دائرة المساءلة، ولم تُسمَع مقولات من قبيل أنّ "الجرائم والاعتداءات لا تهبط من كوكب آخر، وإنما هي وقائع تتفتق عنها مجتمعات البشر".
ماذا لو كان مسلماً؟ هل كان الأمر سيمضي دون التحرِّي عن السياقات الثقافية والموروث الديني ومكانة المرأة مثلاً؟ وكيف ستبدو رسوم الكاريكاتير وقتها في زمن حرية التعبير؟
في المسألة وفرة من التعقيدات، ذلك أنّ التأويل الثقافي أو الديني للجريمة أو الاعتداء لا يأتي مباشراً دوماً، إذ يكفي أن تتناول وسائل الإعلام شؤون المسلمين بصفة استثنائية في سياق التطوّرات الصادمة فقط، يُنشئ هذا ربطاً ساذجاً في الوعي الجمعي بين الإسلام والمسلمين من جانب، ودواعي الفزع والريبة من جانب آخر. ومنذ الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 بات استدعاء المتحدثين المسلمين يتمّ بكثافة على الشاشات الأوروبية في ظلال الوقائع المرعبة. وفي أعقاب واقعة "شارلي" استضافت المحطات الأوروبية من المسلمين في أيام معدودة أضعاف من استضافتهم خلال شهور مديدة. هم مطلوبون للاستجواب الإعلامي في مواسم الأهوال والفزع، لا في مواسم الأعياد والفرحة.
لا يبتعد هذا المسلك عن التقليد الذي ظلّ متّبعاً حتى وقت قريب في تناول صحافة الرصيف الأوروبية الجرائم والجنح اليومية، فقد دأب كثير من تلك الصحف الرخيصة على الإشارة إلى الانتماء الاثني لفاعليها، فقط إن لم يكونوا من المواطنين الأصليين، ومن شأن هذا الأسلوب الانتقائي في التناول أن ينشئ ربطاً ذهنياً بين التجاوزات المُستقبَحة وانتماءات اثنية يرى بعضهم أنها دخيلة على المجتمع، وقد أسعف ذلك أقصى اليمين السياسي في الاحتجاج بعناوين كهذه، وإبراز قصاصاتها ضمن مواده الدعائية المناهضة لمنطق التعايش والاحترام المتبادل.
يجري هذا التقليد بحجة محاولة فهم الوقائع والتعرّف على خلفياتها، لكنّ مسلك الانتقائية والاستثناء لا يُفضي سوى إلى استنتاجات تعسفية، يشبه الأمر حال متابعي المسلسلات التلفزيونية في أوروبا، إذ يميلون إلى تضخيم نسبة الأطباء ورجال الشرطة في مجتمعهم بتأثير تفضيلاتهم في المشاهدة. وبالمثل فإنّ وصمة العنف والإرهاب في أوروبا باتت تلتصق بالمسلمين، ويجري تفسيرها غالباً من خلال خصوصياتهم الدينية والثقافية. لم يعد الجمهور قادراً على رؤية ما يتعدّى العناوين "الإسلامية" ضمن وفرة المنظمات والعصابات الأوروبية التي تؤمن بالعنف والترويع، وهي منظمات تتحرّك في دول عدّة بشعارات ورايات تتذرّع بمرجعيات قومية ودينية وثقافية وتاريخية وأيديولوجية، وتقترف هجمات وأعمال قتل بدوافع شتى. ويكفي أنّ محرك البحث غوغل يقترح على متصفحيه كلمات مفتاحية ذات صلة بالإسلام والمسلمين لدى التنقيب عن مفردات الإرهاب والعنف.
كثيرة هي الوقائع التي لم تحظَ بأي اكتراث، ثمّ تكشّفت ذيولها بعد فوات الأوان. لقد ظلّت سلسلة من الهجمات الإرهابية وأعمال القتل تتواصل في ألمانيا دون التعرّف إلى وجود منظمة يمينية متطرفة تدبِّر ذلك على مدى عقدين من الزمن، حتى كشف النقاب عنها في خريف 2011.
ما يقتضي التحذير، أنّ البحث عن دوافع ومحفزات إسلامية لأفعال منبوذة، يؤدِّي في المحصلة إلى إسقاط نظرة اتهامية جائرة على المسلمين، وهم يناهزون في باريس وحدها المليونين ونصف المليون نسمة حسب التقديرات. ولذا، كان الموقف عسيراً على النساء والفتيات المسلمات في بعض المدن الأوروبية بعد واقعة شارلي، إذ لاحقت بعضهن نظرات الريبة كأنهنّ التعبير المحلي المباشر عن العنف والإرهاب. إنّها حالة تضغط على الأجيال المسلمة الصاعدة وترتدّ بعض انعكاساتها على المجتمع في صورة نزعاتٍ متطرفة.
أثمان فادحة دفعها مسلمو أوروبا منذ مطلع القرن الحادي والعشرين. فقراءة الجرائم والاعتداءات ضمن سياقات ثقافية أو دينية ألقى بهم في دائرة المساءلة بعد كل حلقة من سلسلة الأحداث الصادمة والتطوّرات الحادّة التي عرفتها بلدان أوروبا. وما إن يظهر أنّ الفاعل مسلم، حتى يتوجّب على المسلمين جميعاً وتجمعاتهم وهيئاتهم الانخراط في حلقة جديدة من سلسلة الإدانات، التي تستبطن في بعض صياغاتها الاعتذار عن فظائع لم يقترفوها.
لقد تمّ في ظلال الهجمات الدامية والأزمات الداهمة عبر السنين المتلاحقة، ترتيب جدول الأعمال في الاهتمامات العامّة، وإطلاق مواسم من النقاش الساخن جاء الإسلام والمسلمون في صميمه. إنها مواسم الجدل التي تشغل الجمهور وتُفاقم الشكوك، وتتمخّض عنها تعديلات في الوجهة السياسية والأنظمة القانونية، أو تُفضي إلى تحوّلات نسبية في ثقافة المجتمع والحياة العامّة. وفي أجواء كهذه، قرّرت الحكومة النمساوية تغيير "قانون الإسلام" الصادر سنة 1912 واقترحت قانوناً جديداً يقوِّض مكتسبات النموذج النمساوي التاريخي في إدارة علاقة منفتحة مع الطائفة المسلمة.
لقد برزت مع كل جولة من الهجمات، مصطلحات جديدة مشحونة بحمولات شديدة الوطأة على المسلمين. كان معظم ما جرى من نقاش حديثاً عن المسلمين وليس معهم، وما أشقّ أن تكون الأقلية موضوعاً لجدل محفوف بالقلق في مجتمعها.
ما ينبغي قوله إنّ الكلفة ستتفاقم إن استمرّ النظر إلى المكوِّن المسلم على أنه استثناء عن المجتمع. تعلِّمنا تجارب التاريخ أنّ النظر إلى مجموعة من البشر على أنهم استثناء، ليس سوى المقدمة التي تتأسس عليها العنصرية الانتقائية، وهي إن واصلت طريقها دون اعتراضات .. قد تجرف المجتمع والقيم والمواثيق في طريقها.