إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
"كلمات قالها الشاعر
التونسي أبو القاسم الشابي، لكن معانيها لم تتحقق على أرض الواقع إلا يوم 14 جانفي (كانون الثاني/ يناير) 2011، يوم أراد الشعب وقال كلمته الشهيرة "Dégage" وبعث برسالة إلى العالم مفادها أن
الديمقراطية ممكنة عربيا، خاصة عندما توجّه التونسيون إلى صندوق الاقتراع في أكثر من مناسبة وعبّروا بحرية عن اختياراتهم. وفي لحظة استثنائية من تاريخ تونس، انتهت فترة الانتقال الديمقراطي التي دامت نحو أربع سنوات، وأُعلنت بداية مرحلة جديدة في تاريخها الحديث.
اليوم تحلّ الذكرى الرابعة لقيام
الثورة التونسية مهد الربيع العربي في ظل تعثّر باقي الثورات العربية، ذكرى اندلاع شرارة الثورة من عمق المناطق الداخلية ومن داخل الأحياء المعدمة. هذه الثورة التي شارك فيها العاطلون عن العمل والمهمّشون، نتيجة سياسة الإقصاء والتهميش التي انتهجها المخلوع وعصابته التي تعسّفت على غالبية الشعب، وخصوصا الفئات الضعيفة، ولم يبخل الشعب بالتضحيات في سبيل تحقيق الحرية والكرامة، حيث دفع عدد من شباب هذا الوطن حياتهم أملا في أن تنعم الأجيال الآتية بالعيش حرّة كريمة، وباستغلال خيرات البلاد التي اصطفتها العائلة الحاكمة قبل الثورة لنفسها، فيما كان أغلب التونسيين يتخبطون في براثن الفقر والحرمان. ولكن في غضون أربع سنوات من الثورة، هل تحققت كل هذه المطالب وكل هذه المعاني؟
أربع سنوات مرّت على اندلاع أوّل ثورة خلال القرن الـ21، ولعلّ النتيجة التي بلغتها تونس هي التي جعلت البعض يصرّح بأن الثورة لم تنجح في تحقيق الآمال المنشودة، وآخرون يعتبرون أنّ الثورة لم تحدث أساسا، فيما صرّح البعض الآخر بأن الثورة حدثت فعلا، ولكن السياسيين اختطفوها وحوّلوا وجهتها لصالحهم.
أربع سنوات مضت، ولكن المتأمل في الوضع في تونس يرى أنه لايزال كما هو قبل الثورة، فالمهمشون لا يزالون مهمشين، ولازالت الفئات الميسورة تتمتّع بامتيازات كثيرة تضمنها لهم القوانين الجارية. فرغم أن الثورة أشعل لهيبها العاطلون عن العمل، لايزال أغلب العاطلين دون شغل.
وفي المقابل انتفض الأطباء والقضاة وغيرهم لأجل توفير المنح والزيادات في أجورهم، وخير دليل على ذلك الاضراب المفاجئ لأعوان النقل الذي انطلق منذ مساء الاثنين الماضي، وبالتالي فإن تحقيق العدالة الاجتماعية وعدالة توزيع الثروات وعدالة توزيع الخدمات يتطلب وقتا وجهدا وتضحيات جديدة من الشعب، وعلى المواطنين أن يتحلّوا بالكثير من الصبر والمثابرة لقطع الطريق أمام عودة الاستبداد والحرمان والمركزية المقيتة.
فالثورة استقبلها الحريصون على تونس كعامل إضافة وتجلٍّ لكل المشاعر الصادقة تجاه تونس وأهلها، بينما استقبلها آخرون على أنها فرصة لجمع "البزنس" والبيع والشراء في الوطن والضمائر. والفارق شاسع بين أخلاق الحريّة وأخلاق الاستبداد.
وبخلاف باقي الدول التي طالتها "عواصف التغييرات الربيعية" لم تكن سنة 2014 قاسية جدا على تونس التي عرفت أحداثا هامة انطلقت بإعلان دستور الجمهورية الثانية وانتهت بإجراء انتخابات برلمانية فاز فيها حزب "حركة نداء تونس" بزعامة الباجي قائد السبسي، سادس ساكن قرطاج منذ الاستقلال لولاية رئاسية لمدّة خمس سنوات حسب الدستور التونسي.
ولكن إنجازات الشعب التونسي هذه، نغصتها في كلّ مرّة عمليات إرهابية، حيث خيم حدث تبني تنظيم الدولة الإسلامية لواقعة اغتيال السياسيين التونسيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي على جمله الأحداث المتعلقة بالإرهاب في تونس، ففي 18 ديسمبر، أعلنت عناصر تنتمي لتنظيم "داعش" في شريط فيديو نشر على الإنترنت مسؤوليتها عن اغتيال بلعيد والبراهمي. جاء ذلك بعد فترة عرفت فيها تونس مجموعة من الأحداث الأمنية التي أجبرت الحكومة على رفع درجة التأهب الأمني في جميع الأراضي التونسية مع التركيز على المناطق الحدودية، ورصد عمليات تهريب الأسلحة وتسرّب المجموعات الإرهابية.
ورغم النجاح الذي حققته قوات الأمن والجيش في التعامل مع هذه الوقائع، حيث قتلت العديد من العناصر الإرهابية، فضلا عن إلقاء القبض عن آخرين، إلا أن ذلك النجاح يبقى نسبيا بالنظر إلى الخسائر البشرية والمادية التي تكبدتها السلطات التونسية خلال العمليات التي يشنها المسلحون.
تحلّ هذه الذكرى والبلاد تعيش ظرفا دقيقا على المستوى الخارجي، فالجارة ليبيا، حدّث عن الفوضى فيها ولا حرج. والوضع الأمني على الحدود الليبية التونسية لم يختلف عن سابق عهده في السنوات الماضية، حيث تميّز بعدم الاستقرار، خاصة في ظل الأحداث التي تشهدها ليبيا منذ إعلان اللواء في الجيش خليفة حفتر شنّه حربا على ميليشيات "فجر ليبيا" والتنظيمات المتحالفة معها بدعم من البرلمان السابق "المؤتمر الوطني العام".
وفي الأشهر الأخيرة من عام 2014 ارتفعت وتيرة المعارك قرب معبر رأس جدير الحدودي وسط القصف من طرف الجيش النظامي وقوات اللواء خليفة حفتر لمواقع المجموعات المسلحة في المناطق الغربية والقريبة من الحدود التونسية. ولا ننسى أيضا حادثة اختطاف الصحفيين التونسيين في ليبيا سفيان الشورابي ونذير القطاري ومصيرهما المجهول.
وعموما، الثورة التونسية كانت ولاتزال عظيمة، وعلى الشعب التونسي أن يفخر بها، فقد نقشت على صفحات التاريخ بدماء شهداء ضحوا بحياتهم من أجل حرية وكرامة شعوب بأكملها، ولكن لاتزال الثورة التونسية تواجه تحديات كبيرة، والجميع مسؤول أمام التاريخ وأمام الأجيال المقبلة. وعلى أهل الحكم أن يستخلصوا العبر من أخطاء الماضي وما مرّ على البلد من مصائب، ليردّوا الحقوق إلى أصحابها ويستثمروا في بناء الإنسان، لا أن يشتروا سكوت الشعب بأموال قذرة.
كما أنه على الشعب مسؤولية كبرى، وهي أن يتعلّم هو الآخر من أخطاء الماضي فيشمّر على سواعده، لا أن ينتظر مائدة تنزل من السماء، لأن زمن المعجزات قد ولّى وانتهى.