كتب
مهنا الحبيل: اختتمت بالأمس قمة مجلس
التعاون الخليجي في الدوحة، وهذا المقال يُكتب قبل جلسات
القمة وبيانها الختامي، لكنه يطرح رؤية في ملف مهم جداً لدول الخليج العربي وهو العلاقة مع المحور الإقليمي القوي في الشرق الإسلامي والمشرق العربي وهو
تركيا، الدولة الصاعدة وتركيا الأمة الناطقة بلغتها التي تستعيد اليوم حضورها في آسيا الوسطى والبلقان وغيرهما.
ولذلك يجدر بنا أن نقرأ هذا الصعود التركي الجديد والمتماسك قبل الاستطراد في مصالح الخليج العربي المشتركة أو المتقاطعة من أنقرة. وهو يطرح اليوم في هذا المنظور السياسي الإقليمي المهم جداً للخليج العربي، في ظل عواصف وتغيرات كبيرة تعيشها المنطقة وتداخلات الحدود والصراعات.
كما أن هذه الرؤية تأتي في ظل ما يُطرح من أطراف خليجية إعلامية أو تلميحات وتصريحات سياسية، بأن على دول الخليج العربي التقدم نحو جسور
علاقات مكثفة مع إيران ومناهضة تركيا، باعتبار أن طهران مؤتمنة ومتحفزة لعلاقات شراكة مع الخليج العربي خلافاً لتركيا، فهل هذا الميزان صحيح ودقيق؟
والحقيقة أن التحمّس العاطفي نحو طهران لتقديم تنازلات لها على الساحة الخليجية، والتجاوب معها فيما تصيغه مع واشنطن لمستقبل سوريا والعراق أو لبنان، كمناكفة لأنقرة أو متابعة لرغبة واشنطن في احتواء دول الخليج العربي مع طهران لتسوية الملفات الإقليمية، فيه طفولية وسطحية كبيرة لا تتماشى مع منظور المصالح الاستراتيجية المطلوب اعتمادها وليس العاطفة مع طهران أو أنقرة.
وهذا لا يعني أن أبواب التفاوض والحوار مع إيران ممنوعة، فهذا يخالف أصل المسار الدبلوماسي وسياساته، لكن المقصود أن طهران اليوم والأمس متمكنة من مفاصل حسّاسة في المنطقة وتضغط باتجاه يُقلّص الحضور العربي وحقوق الشعوب مقابل قوة نفوذها واستمرارها في ضخ التكييف للاحتقان الطائفي، والذي تعيشه عدة دول وترى فيه طهران حصان طروادة ولن تتخلّى عنه.
إن إعادة كشف الحساب لآخر الملفات بين طهران والخليج العربي في اليمن أظهر لدول الخليج العربي وخاصة السعودية التي غيّرت من تعاطيها مع المشهد الأخير، حجم ما يُمكن أن تحققه جماعات إيران السياسية الطائفية في توازنات اليمن وعلاقته بالعمق العربي الإسلامي والوطني الاجتماعي في الخليج العربي، والملف متعدد في هذا الاتجاه، الذي يؤكد أن قدرات الخليج العربي معدومة تفاوضياً لأنها فاقدة لبطاقات النفوذ مع طهران، والمراهنة على حرب الأسعار مشروع موسمي سيسقط سريعا.
وهو ما يثير علامات استفهام كبيرة عن برنامج التنازلات المقترح لطهران، في مقابل ذلك فالملف الخلافي الكبير مع تركيا كان لموقفها من الربيع العربي ودعم تطلعات شعوبه حين الانتفاضات السابقة وتثبيت موقفها في إطار مبدئي وإنساني وإن كان اليوم لا يُمارس في أي صورة سياسية تنفيذية فمجريات أحداث إسقاط الربيع العربي تتواصل دمويا وسياسياً في كل أقطاره، وليس هناك عمل سياسي لتركيا يتداخل مع هذه الدول، لكن موقفها المبدئي والاعلامي هو ما سبب هذا الاحتقان.
كما أن العجز عن إسقاط حكم حزب العدالة بعد الحسم في الانتخابات البلدية والرئاسية، وقوة بنائه السياسي والالتفاف الشعبي معه، يعطي مؤشر على أن هذا الثبات السياسي في تركيا سيأخذ مداراً مستقراً لسنوات أمام عواصف المنطقة ولديه قدرات بأن يواجه أزماته الداخلية ومحاولات أي محاور لزج تركيا الى منطقة صراع خارج قرار سياستها السيادية.
وهو ما يعني للمجلس الخليجي قضية مهمة في أعراف التعامل الدبلوماسي، وهو أن هذا الوضع المستقر في تركيا يتطلب الاعتراف به والتعامل معه في إطار مصلحي، وأي مراقب يُدرك أن البراغماتية حاضرة في سياسة انقرة بل وتتعزز في ظل امساك منظر العهد الجديد أحمد اوغلو بالبرنامج الحكومي الشامل ودعمه من الرئيس أردوغان.
وهو ما تتعاطى معه أوروبا وأميركا وروسيا كما وضح في زيارة بوتين الأخيرة لتركيا، فلماذا يُطلب من دول الخليج أن تنزع لمواجهة أو تصعيد مع أنقرة؟
إن المواقف المبدئية لتركيا التي تُلاقي مشاعر الرأي العام العربي سواء في فلسطين أو سوريا وغيرهما أو نجاح الديمقراطية التركية، لا علاقة لها بجدول الدول التي تسعى لتحقيق مصالحها وتختلف مع انقرة في هذه الملفات، واختيار الحزب ذي الأصول الإسلامية هو ضمن تحولات كبرى شهدتها تركيا منذ سقوط الدولة العثمانية وعزل سلاطينها سبق الربيع العربي بعقود.
فيما متطلبات المرحلة لدول الخليج العربي هي من يحتاج الى محور رديف أو داعم أو صديق في ظل هذه التحولات الكبرى، ولذلك يتم البناء على امكانياته وعلاقاته وجسوره المتاحة في الجوار وليس نقضها، إن طبيعة القاعدة الاجتماعية السياسية في تركيا اليوم منفصل تماما عن أي استقطاب طائفي أو قومي أو عرقي مع دول الخليج العربي، بمعنى غياب أي مهددات تدخل سلبية مع الخليج العربي، وقصة عودة السلطنة هي اليوم مناكفات إعلامية ساخرة لا أكثر، فتركيا اليوم تُصنع دستوريا بدولة حديثة وبرلمان لا فرمانات سلطانية.
بل إن علاقة تركيا الداخلية بطوائفها قوية ومستقرة حقوقيا وسياسيا، واتباع المذهب الاثنا عشري الشيعي لهم كافة الحقوق الوطنية الدستورية وينالون اعتناء في مناسباتهم الدينية منظمة قانونيا، وليس لديهم صدامات مع حزب العدالة في ذات الوقت الذي تُخالف فيه أنقرة سياسات إيران التوسعية في المنطقة فتُدير صراعها السياسي معها في معزل عن أي ضغط على أبناء الطائفة رغم تداخل البعد الثقافي والأيدلوجي.
هنا ستقفز العديد من الملفات لمصالح الخليج العربي مع أنقرة لتستدعي إقامة حوار استراتيجي وتنسيق المواقف، في عدة ملفات ستحصد فيه دول الخليج العربي فوائد كبيرة خاصة في حجم دولة مركزية عربية مهمة كالسعودية، فما يمكن أن يُطلق عليه الاحتواء المزدوج لداعش وإيران بالإمكان تحقيقه عبر شراكة تركية خليجية، لا يُقصد منها مواجهة عسكرية مع إيران ولا احتقان طائفي، ولكنه حقيبة ملفات من العراق الى اليمن وصولاً الى تأمين أمن استراتيجي في البحرين عبر هذه الترويكا المهمة والحيوية للجانبين التركي والخليجي العربي.
ومن المهم هنا في خاتمة المقال أن نُذكّر بأن قاعدة الاستقطاب الدبلوماسي للمصالح مسار مهم جدا لدول الخليج العربي التي بحاجة اليوم بعد معالجة أزمة انقسام المجلس ألا تخسر بعداً إقليمياً مهماً كتركيا بفنتازيا إعلامية صاخبة، فأخطاء اليوم تفقدك الدعم لكوارث الغد.
(صحيفة الوطن القطرية)