كتب أواب المصري: الأرقام تقول إن المقاعد التي نالتها حركة النهضة
التونسية في
الانتخابات التشريعية الأخيرة أقل بعشرين مقعداً عما نالته في الانتخابات التي أعقبت الثورة.
بعيداً عن محاولات بعض الإسلاميين التخفيف من وقع هذه الأرقام، ومحاولات البعض الآخر تصوير ما حصل بأنه انتصار لحركة النهضة من خلال الأداء الراقي والديمقراطي الذي قدمته والذي لا يقر به الجميع، لكن أحداً لا يستطيع إنكار أن النتائج التي أفرزتها هذه الانتخابات كشفت عن تراجع واضح للتيار الإسلامي في تونس.
كثيرة هي المبررات والأسباب المنطقية التي يمكن تقديمها لتبرير هذا التراجع، لكن البعض يصر على إنكار الحقيقة والتمسك بأفكار لا علاقة لها بالمنطق والواقع والعمل السياسي. إحدى هذه الأفكار أن حركة النهضة كان بإمكانها تصدر الانتخابات والفوز بالمركز الأول، لكنها تعمّدت التراجع رغبة منها في إفساح الطريق أمام القوى التونسية الأخرى، وتجنباً للكأس المر الذي سبق لجماعة الإخوان المسلمين في
مصر أن تجرعته بعد وصولها للحكم.
المؤامرة كبيرة، والمتآمرون كثر، والمترصدون بالمشروع الإسلامي (الذي بات يُعرف بالإسلام السياسي) يدهم طويلة وإمكانياتهم كبيرة. وقد بيّنت أحداث الأشهر الأخيرة أن خصوم حركات
الإسلام السياسي مستعدون للتحالف مع الشيطان مقابل إفشال تجارب الإسلاميين في الحكم. كل هذا صحيح، ويجب أن يكون متوقعاً، وهو بكل الأحوال ليس جديداً وإن بات التعبير عنه أكثر وقاحة ووضوحاً. إلا أن سبباً يتيماً لا يقربه الإسلاميون ولا يخطر في بالهم، ويرفضون الاعتراف بإمكانيته أو النقاش فيه، وهو أن الشعوب العربية إذا تُركت لها الحرية بعيداً عن أي ضغوط أمنية أو اقتصادية أو اجتماعية فإنها –ربما- لا ترغب في أن تحكمها قوى تحمل مشروعاً إسلامياً. فالنتائج التي أسفرت عنها الانتخابات التونسية تشير إلى أن التونسيين يريدون للإسلاميين أن يكونوا موجودين في الحكم، لكن ليس على رأسه.
يريدون أن يكون موقفهم مسموع ونافذ ومؤثر في اتخاذ القرار، لكنهم لا يريدون أن يكون للإسلاميين الكلمة العليا والنهائية، وأن يتمكنوا من فرض ما يشاؤون بمعزل عن إرادة القوى التونسية الأخرى.
"الشعوب العربية لا تريد أن يحكمها إسلاميون".. فكرة لم يهيئ الإسلاميون أنفسهم لسماعها. فلطالما كانوا يعتقدون أن الشعوب العربية ما أن تنال حريتها وكرامتها فإنها ستسارع لتأييد المشروع الإسلامي وتلتف حوله، وأن معارضي المشروع الإسلامي هم عبارة عن طبقة فاسدة كانت مستفيدة من الأنظمة السابقة.
يرفض الإسلاميون تصديق أن الثقة الكبيرة التي نالوها في الانتخابات التي أعقبت ثورات الربيع العربي ربما يكون سببها الأوضاع الصعبة وغير المستقرة التي جرت في ظلها الانتخابات. وأن إجراء هذه الانتخابات كان ضرورياً لمنح الشرعية الدستورية للثورات في مواجهة الأنظمة البائدة، وأن الشعوب كانت حريصة على الانتقام من الطبقة السياسية الفاسدة التي ثاروا عليها، فلما بحثوا عن بديل لم يجدوا أمامهم سوى قوى "الإسلام السياسي" الذين رغم التضييق والاعتقال والحصار نجحوا في تشكيل حيثية شعبية حقيقية عجزت الأنظمة عن استئصالها. فانصبت أصوات شعوب دول الربيع العربي للإسلاميين، ليس بالضرورة قناعة بمشروعهم السياسي، بل إيماناً بأنهم مازالوا بمنأى عن الفساد الذي أصاب الدولة التي ثاروا عليها.
الأمر الذي يجب الوقوف عنده، هو أن حلول الإسلاميين في المركز الثاني ليس نقيصة أو ضعفاً، بل يجب أن يكون هدفاً يسعون إليه. ليس تعففاً منهم، بل لأن مصلحتهم تقتضي ذلك. فإيجابيات المركز الثاني والصفوف الخلفية في المرحلة الحالية أكبر بكثير من إيجابيات المركز الأول وصدارة المشهد.
فالتجربة المصرية كشفت أن العمل السياسي والوصول لسدة الحكم ليس نزهة، ولا يكفي أن يكون المرء عفيفاً شريفاً مقيم الصلاة صائماً لرمضان حريصاً على حج بيت الله الحرام كل عام حتى يكون صالحاً ليكون سياسياً حاكماً. الحكم حرفة تحتاج لتعلّم وخبرة وحنكة لم يتقنها الكثير من الإسلاميين، لا لضعف فيهم، بل لأنه لم تسنح لهم الفرصة لجمع هذه الخبرة وتعلّم دهاليزها. فهم طوال العقود الماضية، كانوا إما معتقلين أو ملاحقين، مما جعلهم مناضلين ومجاهدين، لكن ذلك لا يؤهلهم للجلوس على كراسي الصفوف الأولى، وقيادة البلاد والعباد.
ربما يعتبر الإسلاميون أن عدم وصولهم إلى المركز الأول سيتيح لخصومهم الإطاحة بهم واستمرار التضييق عليهم. لكن التجربة التي شهدناها في مصر تشير إلى أن الوصول إلى سدة الحكم دون وجود بنية تحتية متماسكة تستند إليها لا فائدة منه، بل على العكس، حوّلهم هدفاً يسهل التصويب عليهم والإساءة إليهم، وتشويه صورتهم وتسخيف إنجازاتهم وتضخيم أخطائهم، وتحميلهم أوزار عقود من الأزمات والفساد والترهل.
على الإسلاميين الكثير من العمل والجهد والتعب والمثابرة والسهر، لاكتساب الخبرة والمعرفة بتفاصيل السياسة والأنظمة والإدارة. عليهم تقديم نماذج جديدة للشعوب العربية في السياسة والاقتصاد والأمن والتربية والتعليم يقودها خبراء شرفاء وأكفاء. حينها يمكن للشعوب العربية أن تلتف حول الإسلاميين وتمنحهم ثقتهم المطلقة.
على الإسلاميين أن يسعوا إلى الصفوف الخلفية وأن يتجاهلوا بريق الصف الأول مع ما تحمله هذه المهمة من صعوبة وصراع مع الطبيعة البشرية التوّاقة للفوز والانتصار. عليهم أن يدركوا أن سلامتهم ونجاح مشروعهم لا يكون إلا بصعود السلم درجة درجة.
(الشرق)