يسألونني: لماذا مافيشستان ثم عاوزستان؟ والجواب بكل بساطة: بسبب الفسادستان.
في بلادنا، ومنذ زمن ليس بالقليل، اقترن المال بالسلطان اقترانات معبرة عن خلل عميق. فالاستبداد والفساد قرينان، والاستعباد والنهب صنوان، والقهر والفقر زوجان، والتركيع والتجويع خطان دائمان، ومواطنة الغَنَم والغنيمة حال لا تحتاج إلى بيان ولا برهان.. أهلا بك في بلاد الفسادستان!!
لقد قامت ثورتنا المجيدة للقضاء على
الفساد بإسقاط نظام
الاستبداد، وإذا كنا قد عرينا منظومة الاستبداد وفضحنا دولتها التي لم تعد عميقة فإن شبكة الفساد ومص دماء
المصريين لم تمس، إنما كمنت بحسها الجبان، حتى إذا لاح نجم الثورة المضادة وأبرق الانقلاب انتعشت مرة أخرى، وقامت بفعل فاعل لتستعيد نشاطها الأثيم، وكله بالقانون: قانون الفسادستان.
فمنذ تعطيل العسكر والمتعسكرين لعمل المجلس التشريعي المنتخب شعبيا سواء مجلس الشعب بلعبة العسكر والقضاتية، أو مجلس الشورى بأمر الانقلاب مباشرة، وسلطة التشريع بيد معين مؤقت أو بيد عسكر مغتصب، يفعل فيها ما يشاء ويحكم فيها ما يريد، يجدد بها دولة الفسادستان من كل باب وفي كل مقام وبكل تبجح وفجور. لقد بدأوا دولتهم بدستورهم الخائب الذي آلى على نفسه أن يحذف من الدستور المستفتى عليه مادة تقول: (م204/2012: تختص المفوضية الوطنية لمكافحة الفساد بالعمل على محاربة الفساد، ومعالجة تضارب المصالح، ونشر قيم النزاهة والشفافية وتحديد معاييرها، ووضع الاستراتيجية الوطنية الخاصة بذلك كله، وضمان تنفيذها بالتنسيق مع الهيئات المستقلة الأخرى، والإشراف على الأجهزة المعنية التي يحددها القانون). والسؤال المدرسي البديهي يا ثوار الثورة الزائفة: لماذا رفضوا إقامة (مفوضية وطنية لمكافحة الفساد) بهذه المهام، وبالمستوى الدستوري، بينما وضعوا موادا عن مراقبة سير المعلومات والفضاء المعلوماتي؟
لا تنتظر من الانقلاب صلاحا ولا إصلاحا، إنهم يجتاحون المؤسسات الباقية بالفساد والمفسدين، فيقال رؤساء جامعات وعمداء كليات وينقل رؤساء محاكم وسفراء ودبلوماسيون وموظفون تكنوقراط ويعين آخرون بلا معايير سوى الأيديولوجيا الانقلابية، وتجرى انقلابات تحتية في النقابات، ويحال الشرفاء إلى المحاكمات الضالة، ويعين المحاسيب والمناديب في مواقع لا يستحقونها، وما أمر النيابة العامة والإدارية منا ببعيد. إن عزل نوابغ من مناصبهم المستحقة عن جدارة لأن آباءهم أميون لهو الفعل الحقير! ولا تسأل على من ترسو العطاءات والمناقصات، وقم ناد ببغاوات حديث الصفقات، أين هم في عهد الصفاقة كلها؟ ماذا يفعل الجيش في الاقتصاد؟ وماذا تفعل الدولة مع رجال الأعمال؟ وما قانونية هذه الصناديق التي تظهر وتختفي، ولا يعرف أحد بكم تمتلئ ولا لمن يتم تفريغها.. (على جنب كده)؟
ومن المؤسسات تأتي القوانين والقرارات التي تؤسس للإفساد بالقانون، وتتجاوز كل ما عرفناه من قوانين الفساد، ونماذج الفسادستان.
ذات يوم خرج علينا متحدث المؤقت بأنه أصدر قرارا بقانون لمنع تعارض مصالح المسئولين بالدولة (نوفمبر 2013)، في إطار مكافحة الفساد والوقاية منه، وذلك باعتبار أن تفشى ظاهرة الفساد بين بعض كبار المسئولين الحكوميين كان ضمن أسباب قيام ثورة 25 يناير، .........الخ.. ونص القانون على إنشاء لجنة للوقاية من الفساد يُعهد إليها بتطبيق أحكام هذا القانون. فهل سمعتم عنها وهل إذا وجدت في ظل هذا الاستبداد يمكن أن تتوقع منها غير تنظيم العمل في دولة الفسادستان؟
ثم لماذا أصدر المؤقت في الشهر التالي على ذاك الكذب (ديسمبر 2013) قراراً جمهورياً بقانون جديد يجيز التصالح في المنازعات القائمة بين مصلحة الضرائب والممولين، وذلك بالنسبة للدعاوى القضائية المقيدة حتى اليوم أمام جميع المحاكم، بما في ذلك محكمة النقض؛ سواء الذين طعنوا على قرارات إلزامهم بدفع مبالغ مالية ضريبية، أو المتهمين بـ (التهرب الضريبي) ؟! ولماذا يصدر في أبريل 2014 قرارا يقيد (الطعن ببطلان العقود التي يكون أحد أطرافها الدولة أو أحد أجهزتها من وزارات ومصالح، وأجهزة لها موازنات خاصة، ووحدات الإدارة المحلية، والهيئات والمؤسسات العامة، والشركات التي تمتلكها الدولة أو تساهم فيها، أو الطعن بإلغاء القرارات أو الإجراءات التي أبرمت هذه العقود استنادا لها، وكذلك قرارات تخصيص العقارات من أطراف التعاقد دون غيرهم.." قاصرا على الدولة نفسها، دون المواطنين؟! ولماذا حرص قبل رحيله غير مأسوف عليه بيوم واحد (7يونيو 2014) قرارا بتعديل بعض أحكام قانون المناقصات والمزايدات، ليسمح بأن يتم التعاقد بطريق الاتفاق المباشر، بناء على ترخيص من الوزير أو المسؤول المختص؟ وفيه فقرة أخيرة: "وتسري أحكام هذه المادة على الهيئة العربية للتصنيع"؟!
وعلى منواله يكمل المنقلب بسلة من القرارات والقوانين والسياسات التي تتحكم في مقدرات الشعب وممتلكات الدولة وكأنها مملكة خاصة بالمتوج. فيخصص أراضي للقوات المسلحة وأخرى لهيئة استصلاح وثالثة لشركات ومشروعات لا يعرف الشعب عنها شيئا، ويعقد اتفاقات للقروض أكثر منها المؤقت قبل رحيله مباشرة، واتفاقات أخرى لاستغلال الثروة المعدنية والتنقيب عن الغاز والبترول حتى كانت آخرها كارثة الاتفاق مع قبرص الذي لا يدري أكثر الناس كم يجلب على مصر من الويلات وكم يضيع عليها من الحقوق.. لأي شيء يجري هذا؟ لأنها الفسادستان.
الانقلابيون لا يمكنهم مقاومة فساد ولا يمكنهم مكافحة المفسدين، لا السابقين ولا اللاحقين؛ لسبب بسيط؛ لأن الانقلاب قطعة من منظومة الفساد وقائم على استبداد الفساد وحماية شبكة المصالح والتحالفات لدولة الفساد العميقة. إن الكذب يتراءى لك من كل وجه، وعلى كل لسان، وفي كل مكان.. حديث النزاهة والشفافية وسيادة القانون صار مكشوف البهتان، لا تسخن منه آذان. في ظلال الانقلاب الميمون تنتقل مصر من فساد الإدارة الذي قامت عليه ثورة يناير إلى نموذج جديد من الإدارة بالفساد؛ وهي تعني أن البلاد لا يمكن أن تتقدم إلا بمخالفة القوانين وبيع البلاد لقاء إسعافات مالية مؤقتة لملء الصناديق.
كما ذكرنا آنفا حينما يتحدث من أفسد عن الإصلاح وهو في دولاب السلطة فإن ذلك شهادة عليه وليست له، بل هي أكثر من ذلك شهادة على أنه أفسد ودولة الانقلاب "انقلابستان" التي وضعت سياسات تحافظ على دولة الفساد العميقة شبكة ومؤسسات لا يمكنها لأي حال من الأحوال أن تصلح استبداد أو تكافح فساد، وغاية الأمر في ذلك أنها تدفع بخطاب مفيشستان، وعاوزستان على قاعدة من تغطية الفساد بل وتبنيه ومهادنته في محاولة لتبريره وتمريره وكم من مرة قد أعلن رأس الانقلاب أن الدعم والابقاء عليه هو الفساد بعينه، ومن ثم هو يقلب الأمور ويحاول أن يضع تحت بند الفساد ما ليس فيه ليسمي عمله الزائف والمزور إصلاحا ،" وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ،ألا أنهم هم المفسدون".
هل حقا مصر تعيش حالة (ما فيش)؟ كيف وهي أم الدنيا المليئة بالخيرات والكفاءات؟ وهل ستصبح مصر قد الدنيا بسياسات (عاوز.. هاتدفع.. هاتكلو مصر ولا إيه؟)، أم أنه لا مستقبل لبلادنا إلا بالتخلص من عصابة الفسادستان؟!، "إن الله لا يصلح عمل المفسدين".