كتاب عربي 21

أنا ملحد على فكرة

1300x600
أجمل ما في فيلم "أنا ملحد" أنه يكسر تابو آخر جرى اعتماده يقينا معرفيا وعقديا في الأوساط الثقافية، أو بالأحرى المتثاقفة، من شأنه أن يتهم كل من يمس ملحدا بالنقد أو التحليل بوصفه متدينا متعصبا لا يؤمن بالرأي والرأي الآخر، لا يحترم حرية العقيدة، لا يتمتع بسعة الأفق، إلى آخر ما يجود به خيال المظلومية اللادينية في مجتمعاتنا.

سبق أن كتبت مقالا بعنوان "ملحدون لهم الجنة" أقرر فيه بوضوح حق الملحدين في مجتمع يدعي التدين أن يكون لهم وجود ورأي وصوت وحياة طبيعية دون تدخل أو مضايقات أو قوانين تعيقهم، وليس في الأمر أي نوع من الاستعلاء على اختيارات الآخرين، وما أراه أن المجتمع المؤمن هو ذلك الذي يفسح المجال لحرية الكفر بنفس الدرجة التي يفسحها لحرية الإيمان، وفي رأيي أنه لا معنى لإيمان دون كفر، كما أنه لا معنى لأبيض دون أسود، ولا يتميز الشيء إلا بضده، ووجود الملحدين واللا دينيين في اعتقادي من علامات صحة المجتمع المؤمن، وقوته، وقدرته على أن يطرح نفسه في مناخ يقبل هذا وذاك فيختار الناس بإرادتهم الحرة بين متباينين، دون أن يضطر أحدهم لإيمان حتمي لا بديل عنه ولا مفر.

الأزمة التي يعالجها الفيلم والتي أتحمس لها ليست في حق المواطن في أن يعتقد ما يشاء، إنما في هوسه الزائد في الإفصاح عن معتقده، ورغبته المحمومة في جر "شكل" الجميع، ومحاولة لفت أنظارهم، واستفزازهم، والسخرية من معتقداتهم، والتسفيه من طريقة تفكيرهم، واختراع مشكلات شديدة الرفاهية في مجتمع يعيش أكثر من نصفه تحت خط الفقر، بالقرب من الجوع وقلة المياه، وانعدام الخدمات الأساسية، فإذا كان بعض أصحاب الأديان خارج الزمن بقراءاتهم وتأويلاتهم وتصوراتهم عن الدين والواقع ، فنحن أمام ملاحدة أكثر تطرفا، وعنفا، وفاشية، و"داعشية" من نظرائهم المؤمنين، وأكثر سلفية في المنهج والسلوك، وأكثر رغبة في احتكار الحقيقة واحتقار ما لدى الآخرين، ومحاولة إقناعهم ولو بقوة الإلحاح والسماجة والمزايدات الرخيصة، والاستموات بأن "الإلحاد هو الحل"، وبأنه من المعلوم من الإنسانية بالضرورة، وهنا يسأل الملحد في فيلم أشرف حمدي محدثه باستنكارعلى طريقة أحد شيوخ السلفية: أنت ما بتلحدش ليه؟ 

في الفيلم المشار إليه يقف شاب على محطة أتوبيس وينادي آخر ويخبره بأنه ملحد، أنا ملحد على فكرة، يظل يكررها، ويضغط على حروف كلماته دون داع، ليلفت النظر، وحين يظهر الآخر عدم الاهتمام، يزداد الملحد إصرارا على لفت النظر، بالخمر، بالحشيش، بالصور العارية، بمحاولة تقبيل الآخر في فمه لكسر التابوه!، وفي النهاية يحدث الاشتباك ويضربه الآخر، وهو الاشتباك الذي يحدث على صفحات التواصل الاجتماعي هذه الأيام من جراء ممارسات لادينية مشابهة وما إن يحدث حتى يتهم الملحد نظيره الذي قد يكون أبعد شخص على وصف المتدين بأنه إرهابي ومتطرف ولا يحترم حرية العقيدة ....إلخ.

أشرف حمدي يفكك هذه الأوهام ببساطة لا تخلو من عمق في فيلم كارتون لا يتجاوزعدة دقائق، ولا حاجة لي أن أذكرك أن المخرج هو أحد خصوم الإسلاميين وواحد من أكثر من شاركوا في السخرية منهم، وليس لديه أي مبرر أيديولوجي، أو مصلحي في الهجوم على الملحدين من وجهة نظر دينية، بل هو الهوس الذي يرفضه ضمير الفنان أيا كانت وجهته: هوس ديني، هوس لا ديني، هوس رياضي، هوس فني، هوس جنسي (ربما لا يرفض أشرف هذا الأخير؟ لا أعرف).

الحاصل: لقد تعود أصدقائنا من الملحدين على أن أغلب خصومهم من خارج دائرة النضال بالفن، والنقد بالأفلام الساخرة، والكوميكس، وبرامج السخرية، وهو ما جعل من رد الفعل حول فيلم "حمدي" لدى بعضهم غريبا وشاذا وغير مفهوم، حيث تعامل بعضهم مع الفيلم بوصفه مؤامرة، ومحاولة لاسترضاء الإسلاميين، وفوجئنا على مواقع التواصل بتعليقات من نوعية بل الإسلاميون هم من يفعلون كذا وكذا، وكأن الفيلم يحمل وجهة نظر إسلاموية، أو المخرج ينحاز بشكل أيديولوجي إلى الإسلاميين، وهم يعلمون تماما أنه لا الفيلم ولا مخرجه على ما يدعون، لكنه الهوس الذي طال كل شيء، وشوه كل شيء، ويوشك أن يدمر كل شيء.

فيلم الملحد ليس رسالة للملحدين فحسب لكنه رسالة لمجتمع يحتاج دائما أن يراجع مواقفه وأن ينظر إلى مراياه، وأن يعيد النظر، ملحد "أشرف" هو مؤمن "منصة رابعة" هو ضابط الفض الذي قتل بدم بارد، هو عسكري بلا ضمير باع دينه ودنياه وشرفه العسكري وقتل النساء والأطفال من أجل طموحه السياسي، هو شاب يتحرش بفتاة في وسيلة مواصلات عامة، هو كل الساكتين عن هذا الشاب، هو بؤس هذا المجتمع بشتى أطيافه، وفشله وعجزه الذي لا يجد عزاء سوى في المزيد من إيذاء النفس والآخر، لعله يجد الاهتمام أو الخلاص.

وكما يجلد الناقد ظهر الهوس الديني لن يعجز على أن يقيم حد الفن الراقي المتميز أيضا على الهوس اللاديني، نحتاج إلى هذه النوعية من الأفلام، نحتاج إلى دعمها، ومناقشتها، بدلا من الغضب، والمراهقة، و"القمص" والهجوم المجاني، والمبادرة بالاتهام والتخوين وإلحاق كل النقاص بالآخرين، الجحيم ليس الآخرين، الجحيم هو أن نعيش في واقعنا الخاص، ونصدق أن العالم يُسبح بحمد عبقريتنا ويُقدس لنا، فيما يلعن الآخرين ويتوعدهم لأنهم لم ينجحوا في أن يكونوا "نحن" ... هذا هو الجحيم، جحيم الإجابات الجاهزة، والنهائية. 


شوف الفيلم: