كتاب عربي 21

سباق الشهداء وشهود الأحياء

1300x600
تأتي حوادث الأيام وترى مواقف الناس فتكون هذه الأحداث فارقة كاشفة، ويكون في تلك الأيام من المفارقات العجيبة الجامعة في المشهد الواحد؛ بين سماء العزة ورقيها وسفول الخسة ودناءتها، بين صفاء الإنسانية المستعدة لفداء الوطن والدين والأهل بالنفس والنفيس، ودمامة الوحشية التي تستعرض قبحها بالإفك والفحش وكل سلوك خسيس.. لكن مع هذا فإن رقي الإباء وجمال الشموخ وروعة الإنسانية الصامدة لا تطاولها ولا تدانيها قدرا وقيمة وأثرا وبقاء مساحات التفاهة والسفاهة والحمق.

يوما ما كتب أستاذنا د.حامد ربيع ينادي: أمتي أمة القيم، كان يريد أن ينفخ في الرماد حرارة الحياة، وأن يجدد جذوة الشعور بالانتماء، والاعتزاز بالذات، والقيام على القيم بما هي أهله.. كان يميز الأمة بميزتها الكبرى في عالم اجتاحته المادة، ونقلته مما سقط فيها من قبل من حفرة البهيمية إلى هاوية المادية والتشيؤ والتسلع والجمادية. نعم: أمتنا أمة القيمة، الأمة القيّمة، أمة الاستقامة ، أمة المقاومة، أمة الفداء، أمة الشهادة والشهداء.. 

وها هي أيام المحنة تجلي معدن هذه الأمة، وتفتح ساحة سباق يتبارى فيه الأبناء الأوفياء في ذروة سنام الأمة، يتنافسون على بلوغ القمة، يعلنون للقاصي والداني أن إيمانهم ويقينهم وعقيدتهم تطرد عقلية الوهن وترفض نفسية العبيد، ليروا حياة الذلة شيئا أسوأ من الموت، وموت العزة أمرا أفضل من الحياة، ينزعون من القلوب الوهن (حب الدنيا وكراهية الموت)، وينفون عن الأمة حالة الغثاء والغثائية، ويصدون بصمودهم تداعي الأمم على قصعتها.

نعيش اليوم سباق الشهداء، حاملي راية الأمة إلى ذرى العزة، نرى بأعيننا ونسمع بآذاننا ونعي بقلوبنا وعقولنا، كيف يتنافس البنات والشباب، والنساء والرجال، بل الشيوخ والأطفال لنيل الشرف الأشرف، والوسام الأرفع، وارتقاء المقعد الأعلى (مقعد صدق عند مليك مقتدر). هؤلاء الذين يطهرون بالدماء ما دنسه الخائنون عبر تاريخنا، ويحررون بأرواحهم ما ضيعه المنهزمون من أرضنا وعرضنا، ويعبرون ببطولاتهم إلى مستقبلنا ومصيرنا الحر الكريم اللائق بخير أمة أخرجت للناس، وعلمت الناس، وأنارت للناس، واحتضنت الناس، من كل الأديان والمذاهب والأرجاء والأجناس.

لم تبدأ تلك المسيرة الجليلة منذ اليوم، فهي مسيرة لم تنقطع ولم تتوقف يوما ما... منذ افتتحتها سمية بين زوجها ياسر وولدها عمار، وتقدم موكبها سيد الشهداء حمزة أسد الله، فسيد الشباب الحسين سبط الرسول، فالسادة الكرام، فعمر المختار والقسام، فالآلاف بل الملايين،.. أنسيت أن بين بلادنا بلد المليون شهيد؟ أنسيت أن مصر قد استعادت أرضها بهم؟ وأن بلاد العرب والمسلمين لم تزل تقدم منهم قربان الحرية والاستقلال واستحقاق الكرامة؟ وأن قلب الأمة النابض بعزها القابض على الجمر حماية لحياضها وأرضها، قد شق نهر دمائهم يفيض ولا يغيض، أمام أسوأ مخطط سرطاني في هذا العصر؟ حتى صارت فلسطين علامة في جبين العصر والعالم بشهدائها: أطفال الحجارة، ومحمد الدرة، والشيخ ياسين المقعد المحرك للمقاومة والمثبت للصامدين، فكان معجزا بخطابه وفعله لا عاجزا وغيرهم ممن لا تحصيهم سجلات الأرض بينما تتزين بطيرهم جنات السماء.

شهداء الثورات على الاستبداد والاستعباد وتضييع البلاد والعباد، شهداء ربيع الورد والزهرات التي تفتحت في حدائقنا.. الذين اغتالتهم يد الغدر والخيانة، ينضمون اليوم ومنذ فاح الياسمين بأرجاء تونس، وتخضبت بالدم الزكي أرض ميدان التحرير، وتواكبت في ليبيا وسوريا واليمن وغيرها.. ينضمون إلى موكب شهداء المقاومة، ويصلون ما أمر الله به أن يوصل من التحرر في الداخل والخارج، من قراءة كتاب الحرية والعزة والكرامة كالجملة الواحدة، وفي صف واحد كالبنيان المرصوص.. اليوم تستعيد أرواح الشهداء المتواصلة في توادهم وتعاطفهم وترادفهم وتراحمهم: أمة الجسد الواحد، إذا تداعي منها عضو تداعى له الأوفياء الأنقياء بالسهر والحمى والنصرة والشهادة.

صورة شهداء التحرير ومن دهستهم عربات العسكر في ماسبيرو ومن صفت أعينهم ورءوسهم رصاصات الشرطة في محمد محمود ومجلس الوزراء وبورسعيد، تتقدم مسيرة شهداء ارتقوا كالحمام الطائر بين السماء والأرض، حين سقطت أجسادهم النحيلة ممزقة ومحرقة ومخنقة عند الحرس الجمهوري، وأمام المنصة، وفي ربوع مصر، حتى مجزرة رابعة الكبرى، وأخواتها وتوابعها من مجازر العسكر ومستبيحي أرواح البشر بلا أدنى مبالاة ولا وخزة ضمير حي. هذه المسيرة وتلك الصور تتصل اليوم بعروة وثقى وميثاق غليظ مع شهداء غزة.. يتسابقون صعودا إلى السماء: أيهم أسرع إليها وصولا، وأحرص عليها إقبالا وأمضى قبولا.

قد ينتشي الوحش حين يوقع فريسة من فرائسه، ويغريه الدم بمزيد من الدم، قد ترى مشهد القاتل وهو يضحك حين يقنص إنسانا ويسقط جسده أرضا، كما رأينا في قناص العيون وهو يتباهى بتصويبه وإصاباته عيون الشباب، وكما رأينا من يقول: اضرب في القلب، ومن ولغوا فى الدماء فى رابعة قتلا وقنصا وحرقا، ومن يقول للقتلة إنهم لن يساءلوا عن قتل المصريين بعد الانقلاب، قد يشمت بعضهم في قتل أبناء قيادات الإخوان، كما يعلن الصهاينة فرحهم بمقتل زوجة محمد الضيف وابنه، واغتيالهم أبو شمالة والعطار وبرهوم.. وهذا لأنهم لا يفقهون ولن يفقهوا ما تفعل الشهادة في الشعوب، وما تجدد من طاقات الأمة ،قال هؤلاء إن شهداء القسام لم ولن يكون نهاية لحماس بل هم ميلاد جديد.

هذا عن الشهداء الأحياء عند ربهم يرزقون، فماذا عن مقامهم لدى الشهود الأحياء؛ إن شهود الأحياء لا يمكن أن يكون إلا بقيام هؤلاء بالشهادة الحق والشهود المحق، لإحياء هؤلاء الشهداء الأحياء في ذاكرتهم وذاكرة الناس بما يمثلون من طاقة حقيقية تحفز حياة المجتمع والأمة بعزة وكرامة، وقدرة ومكانة، ومن مقام هذا الشهود أن يتحدثوا عن هؤلاء الشهداء شهادة جامعة قاطعة عادلة فاعلة ناجزة تؤكد على ضرورة أن يقتصوا لهم قصاصا يشفي الصدور من هؤلاء المستهنين بالنفوس وحرمتها وعزتها وكرامتها، ويحقق معنى الحياة في الأمة والمجتمع (ولكم في القصاص حياة) فيعبرون بذلك عن شهود حقيقي يجعل من ذاكرة الشهداء في الأحياء عملا يؤكد على حرمة النفس وحرمات المجتمع، والمسئولية الكيانية الجماعية لحماية النفس وحفظها (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) ،إن شهداء الثورة وشهداء العزة في غزة في مواجهة الغاصب المحتل إنما يشكلون بحق طاقة الشهداء حينما تلتحم بشهود الأحياء باستمراريتهم في عمل الاحتجاج والثورة وهمة المقاومة والعزة. 

إن سباق الشهداء الذين أقبلوا ولم يدبروا، وتقدموا ولم يتقهقروا، وصمدوا ولم ينكصوا، وواجهوا ولم يخافوا كما يفعل الجبناء من أعدائهم.. هذا السباق إلى الشهادة في مصر وغزة وغيرها من مواطن العزة إنما يؤشر على أن نهضة كبرى تتجدد في جنبات هذه الأمة وأبنائها وبناتها، وأن جيلا جديدا ينبت، ووعيا جديدا يتشكل، وروحا جديدا تسري، وأمرا يراد لنا ومنا.. إنها السنن كما نؤكد في كل مرة التي تؤشر عليها البشائر والخمائر لنصر كبير قادم في سباق الشهداء وشهود الأحياء.