كتاب عربي 21

الاحتلال والانقلاب ضد إنسانية الإنسان

1300x600
إنسانية الإنسان مبنية على حقائق، وشعور بهذه الحقائق؛ أولها حريته وانطلاقه في الأرض بغير قيود ولا حدود إلا حدود الله تعالى، ثم كرامة الإنسان ومكانه من الكون والمجتمع والحياة؛ ألا يقع موقع مهانة؛ لا في مساحاته المادية ولا المعنوية، ومنها شعوره بالعدالة، وأنه غير مهضوم الحق، أو منقوص الحق بغير حق، بينما غيره ينال فوق ما يستحق من خيرات، أو يخفف عنه الأعباء تمييزا ومحاباة.

إنسانية الإنسان يحيا بها خليفة في الأرض وعامرا لها، حاملا للأمانة، مسخرا له ما في السماوات والأرض من الله تعالى، تقوم على حقوق أصيلة، وحريات واسعة: حق الحياة، ثم حق التوطن والاستقرار، والأمن في المكان والزمان اللذين يحيا فيهما، ثم حرية التنقل وحرية الكلام والتعبير عن نفسه ورأيه وعن اعتقاده، وحرية الالتقاء بمن هم على شاكلته، وحرية الاجتماع أو التفرد، وحرية العمل الجماعي أو الفردي، وحق المنافسة في سوق الأفكار والأموال والمكانات، وحق التنقل والارتحال والتجوال والسياحة في الأرض.

إنسانية الإنسان كذلك رسالة ومسئولية وواجب إنساني واسع الأطراف منفتح الآفاق: أن يشارك في الشأن العام، وأن يساند قوى الخير والإصلاح، وأن يشارك في الأعباء وتوفير الموارد للمجتمع، وأن يعين من يحتاج عونه، وأن يعلم الجاهل، ويعطي المفتقر، ويشد من أزر الضعيف، وأن يجاهد مع المجاهدين ويناضل مع أهل الكفاح والنضال، ويقول الحق ولو كان مرا، ويسعي في مصالح الخلق. تكتمل إنسانيته الخاصة بإنسانيته العامة، حتى يصير "إنسانا-أمة" و"إنسان-أمة".

الانقلاب والاحتلال - وكلاهما ظاهرة عسكرية- على النقيض والنقض من هذا المعنى للإنسانية. نظرية كل منهما قائمة على أسس غير إنسانية، وعلى اقتطاع وصف الإنسانية بحيث لا يليق بالجماهير الغفيرة من الشعب المحتل من قبل الأجنبي أو المختطف من قبل أبناء جلدتنا ومن يتكلمون بألسنتنا. ثم ممارسات وسياسات كل من المحتل والمنقلب لا تكون إلا على حساب فطرة الإنسان وحقوقه الأصيلة وطبيعته الكريمة ومكانته الرفيعة. ولعل في سياسات القتل المستباح، والقمع الدائم، والحصار والاعتقال، والتجويع للتركيع، وإفساد الذمم وتسميم العقول، والارتباط بمنطق القوة خارج دائرة الشعب، والالتحاف بقوة أكبر قادرة على حمايته أو إزالته، ما يدل على أن الانقلاب والاحتلال لا يمكن المصالحة مع أي منهما، ولا يمكن فهمهما إلا باعتبارهما وجهين لعملة واحدة.

دأب الاحتلال الفلسطيني على سياسة الذبح وإقامة المجازر والمحارق في أنحاء فلسطين عبر مكانها وزمانها وإنسانها. مذابح لا تعد ولا يذكرها إلا القليلون لكثرتها، لكنها نمط واحد: استفراد بشعب أعزل ومجموعات مستضعفة، وحصرها وحصارها، ثم فتح النار عليها بمختلف الأسلحة، وبأسفل الأساليب، وبلا أدنى رحمة أو معنى للآدمية. يسبق ذلك عملية شيطنة تبرر القتل والتوسع فيه، وتعتبر دماء المقتولين قربى إلى الله تعالى رب الجنود في تلمود اليهود، ورب خير الأجناد في سفر مفتي العسكر. عسكر الانقلاب لم يخالفوا أسوتهم ولم يختلفوا عن قدوتهم: الصهاينة. فنصبوا المذابح، وأحرقوا الشباب في وضح النهار، وطاحوا في البلاد تقتيلا، ولم تطرف لجنديهم عين، ولم يكف قائدهم وإعلامه عن الكذب والتدليس. وبكل برود يقول وزيرهم: وما المشكلة في قتل ألف، ألم يقتل الأمريكان الآلاف في فيتنام؟ وكما قال قائلهم عن حماس إنها من تعرض الفلسطينيين للقتل بمقاومتها للمحتل الصهيوني وصواريخها الهشة، يقول أخو الانقلاب فيمن قتل وحرق: قتلهم من أخرجهم.. قتلهم من اعتصم معهم!.

في سفر الاحتلال وإصحاح الانقلاب: لا ثمن للدماء، بل الدماء هي ثمن البقاء؛ وما قتلناهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.

الاحتلال هو شغل مساحات حرية المواطن، وتحويل الوطن إلى سجن كبير. القمع هو السياسة الثابتة التي يعيشها المحتلة أرضهم: لا تجمع، لا اجتماع، لا عمل جماعي، لا مشاركة، لا اعتراض، لا حرية صحافة، ولا حرية أي لون من ألوان التعبير، لا حرية بناء منازل ولا حرمة لها، ولا حرية تنقل وسفر إلا بإجازة من المحتل، ولا حرية بيع وشراء إلا في سوق الاحتلال، وبإذن منه. وهكذا.. لكن هل ترى الانقلاب في مصر فعل أقل من ذلك: ألم يمنع التجمعات والمواكب والتظاهرات في حين يدعي دستوره أن مصر شهدت ميلادا جديدا بتظاهرات يناير التي أصبحت خساير ثم يونيو التي أبهرت العالم؟ وهل فعل غير غلق الأحزاب ومصادرة النقابات وإعلان التنظيمات والحركات كيانات إرهابية ومحظورة، وإغلاق المساجد والمدارس والجمعيات الأهلية ومحاصرة الجميع باسم القانون؟ وهل فعل غير غلق القنوات والصحف وحبس الصحفيين وطردهم من الصحف ومطاردة البرامج التليفزيونية المعارضة، ومحاربة قناة فضائية هنا أو هناك لأنها تكشف حقيقته، وهل يفعل الاحتلال غير هدم البيوت الفلسطينية على رءوس أصحابها، بينما تمتهن الشرطة المصرية مداهمة البيوت وانتهاك حرماتها؟

أما الحصار فلم يعد محل تشابه واشتباه بين الاحتلال الصهيوني والانقلاب في مصر.

لقد اشترك كل منهما في حصارنا في فلسطين ومصر. واجتماع العدوان والحصار ليس علينا بجديد. فمنذ أن وقع الانقلاب المشئوم تحولت غزة إلى معتقل قاتم وقاتل لأهلها، على يد السجان المصري، وأصبح المعبر بوابة سوداء مغلقة معظم الوقت، في محاولة لكتم أنفاس المقاومة وإخضاع شعبها، وتأليبهم على من ينافحون عنهم. وبالمثل سعت الدعاية الصهيونية والتعاون الانقلابي-الصهيوني لمحاصرة رافضي الانقلاب، وشرعنته وشراء التعاطي الدولي معه. إن الحصار لا يقوم إلا من جهتين على الأقل، وها هما الشعبان المصري والفلسطيني وغيرهما من شعوب الثورات والحرية يحاصرها الصهاينة والانقلابيون وقوى الثورة المضادة، وأنظمة العار في العالم العربي، فضلا عن قوى الهيمنة العالمية.

وكما يمنع المحتل عن أهلنا في غزة الماء والهواء، والغذاء والدواء، وضرورات الحياة العادية إلا بالتقطير ومحاولات الإذلال، يستهل المنقلب عهده المنقضي بإذن الله عن قريب، بالضغط على الشعب وقطاعاته الفقيرة والمهشمة، برفع الدعم عن ضرورياتهم، وضرب أسعار أساسياتهم، واضطرارهم للتضييق على أنفسهم وأولادهم. ومن يعترض يضرب بالنار، ويشدد عليه الحصار، ويستمر مسلسل الإفقار، يريد أن يقول لهم أنا الرزاق القهار... أنا أحيي وأميت. التجويع مراده التركيع، ولكن أسوأ منه صناعة التطبيع؛ توليف الناس على الذل والإهانة والقيود والإفقار والظلم بل على القتل وانتهاك الحرمات.

يستهدف الانقلاب والاحتلال أن يتعايش الشعب مع الظلم والعدوان والهوان كأمر واقع، ويرسلون من يزينون ذلك باسم الواقعية. لا تجد في مهاجمي قيمة المقاومة ومستهجني مبدأ الشرعية، إلا وجهين لعملة واحدة. هذا يقول: لا مقاومة من ضعيف، أو قليل السلاح، وذاك يهرتل: لا شرعية لرئيس مختطف أو لمن لا يستخدم السلاح. وما هما إلا فريق شرعنة ذي لسانين: شرعنة الاحتلال والانقلاب، باسم الواقعية والأمر الواقع؛ ألا إن هذا هو السم الفاقع بلا براقع، والنفاق الساقع بلا مراقع.

الاحتلال والانقلاب لا يكترثا بالإنسان، كلاهما ظاهرة وحشية لا تليق بالإنسانية، ولذا يعاديان إنسانية الإنسان، ورحمة الرحمن، والقسط والميزان.ولهذا نقول للمحتلين أرضنا والمنقلبين على إرادتنا وللجميع: نعم.. المقاومة الباسلة في فلسطين وفي كل أرض محتلة وخاصة غزة هي امتداد لإرادة الحرية والكرامة والعزة.. كما أن مقاومة الانقلاب العسكري هي حلقة في سلسلة مقاومة الثورة المضادة في كل بلادنا. والنصر لنا، النصر قادم، النصر قريب، بإذن الله، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع