مدونات

سنة مرت من عمري .. سنة ماكانتش زي أي سنة !

ياسر عمار
سنة ممكن أنساها كلها في يوم من الأيام ولا يتبقى لي من ذِكراها إلا صوت الرصاص فوق الرؤوس .. والدماء تحت الأقدام .. ووجوه شهداء عرفناهم ومروا في حياتنا كبرق خاطف ثم ذهبوا .. دون حتى أن نودعهم .

صوت السرينة يدوي وطلقات النار تملأ المكان .. جرافات عملاقة ومدرعات مصفوفة !
حصار .. قمع .. طيارات .. مفيش أكل .. مفيش شرب .. رصاص .. قناص .. قنابل .. قتلى .. جرحى .. مرابطين .. صابرين .. محتسبين .. مجاهدين  !!

يدي تداعب غمداً خيالياً لسلاح إفتراضي لو كان معنا لأذقناهم الويلات .. إلا أن وعداً قطعناه يدوي في رأسي ليعلو صوته علي كل صوت (سلميتنا أقوى من الرصاص) .. فأحمل حجراً أقذفه على مدرعة أو دبابة منضماً لصف متقدم من الصفوف الأولى .. صفاً من الأشاوس .. صفاً من خير من وطء الثرى .. مكبراً الله أكبر فيرتدع العسكر والكلابُ أكثر بكل أسلحتهم وعتادهم .. ثم يخرجون أطراف مدافعهم من مخابئهم مطلقين زخات من رصاص متراجعين بعض الخطوات .. فيدور في الأفق شهداء وملائكة تتلاقهم .. طبتم وطاب ممشاكم .

يوم 14 أغسطس .. يوم لله .. يوم عمري ما هنساه ..

لا تغيب عني أبداً فيه إبتسامة الشاب إللي كان واقف جنبي في شارع طيبة مول وبيرش خل ع التيشيرت بتاعي والفوطة إللي كنت حاطتها على وشي .. فإذا برصاصة قنص غادره تأتيه فتدخل من عينيه إلى جمجمته فينفجر ليتبعثر مخه ع الأرض قدام عيني .. نزلت ع الأرض شيلت مخه ومسكته بإيديا الإتنين وأنا مش مصدق إللي أنا شايفه .

بدأت المذبحة الساعة 6:30 صباحاً تقريباً .. يوم الأربعاء 14 أغسطس 2013:

بدأت بصوت سرينة شبه صوت عربية الإسعاف كده بس أفظع بتخليك عصبي جداً وعندك صداع هيفرتك دماغك .. عرفت بعد كده إن صوت السرينة ده بيتم إستخدامه في الحروب في مناطق فض النزاع عشان يخرج العدو عن شعوره بسبب قوة الصوت وحدة نغمته .. السرينة شغالة مع طلقات الرصاص والخرطوش بعشوائية مفرطة كإنها سيمفونية الموت يعزفها جنود الشيطان .. طلقات آلي ورشاش سمعتها من عند أطراف الميدان .. من الطرفين بتوع شارع النصر ومن الطرفين بتوع شارع الطيران .

كنت نايم !! والله العظيم كنت نايم وفاكر إني بحلم فجأة لقيت كل إللي حواليا بيصحوني (عمار .. عمار .. إصحى إبتدوا الضرب) وأنا ولا هنا .. كنت تعبان جداً ومرهق من إمبارح .. وعمال أعافر النوم والأحلام أن تذهب عني .

فضلوا ورايا (عمار .. إصحى .. بسرعة مفيش وقت) ..
ما كنتش عارف مين بيصحيني ولا الصوت جاي منين .. ولا عارف إيه إللي بيحصل !!

صحيت لقيت نفسي لوحدي في الخيمة .. وكان جنبي واحد صاحبي بيصلي ركعتين قبل ما يمشي ونودع الخيمة .
ساعتها حسيت بوحدة غريبة وكنت مرعوب جداً ومش عارف أعمل إيه أو فيه إيه أو أروح فين !!

استنيتوا لحد ما خلص وسألته (هو فيه إيه ؟!!)
قالي (إتوضى وصلي ركعتين واطلع بره هستناك بسرعة مفيش وقت)
(طب فيه إيه .. طمني ؟؟!)
(إبتدوا الضرب .. من ناحية طيبة مول وشارع الطيران)
(يعني هيفضوا الإعتصام ؟!)
(مش عارف .. بس توكل ع الله وقول الشهادة وأخلص نيتك محدش عارف !!)

مش فاهم أي حاجه وحاسس إني فعلاً بحلم .. من هول الموقف !
روحت على جركن مايه كان جنب الخيمة إتوضيت وصليت ركعتين وبعدها حطيت هدومي في الشنطة وطلعت بره الخيمة .

طلعت لقيت كل إللي كانوا معايا في الخيمة من صحابي واقفين بره .. إسماعيل وبراء وعبدالرحمن وعبدالله وعمر وطاهر وأحمد علاء وكلهم .. ماكناش قادرين نصلب طولنا عشان نايمين ساعة واحدة بس تقريباً .

كنت واقف في شارع الطيران الناحية إللي في وش المنصة سامع صوت الرشاش كل دقيقة .. وبدأنا نشوف الشهداء والمصابين بالطلق الحي قدامنا متشالين ع الأكتاف وعلى موتوسيكلات متجهة إلى وسط الميدان .. كان واضح إن ده حصار للإبادة مش فض إعتصام .

سيل رشاش وقنابل غاز من كل أطراف الميدان .. المدرعات والدبابات بتتقدم بسرعة رهيبة وصوت الرصاص بيقرب والقنابل بدأت تتحدف في الخيم بتاعتنا وإللي حوالينا .. النار مولعة في الخيم إللي قدام في آخر الشارع .. وكان صوت الرصاص قوي جداً وما كنتش عارف مصدره حتى الآن .

إحنا أقصى ما تخيلناه إنه هيفض من 3 شوارع ويسيبلنا شارع نهرب منه .. لكن الحقيقة إنك في خلال ربع ساعة من إستيقاظك عرفت إنك بتتهاجم م المداخل كلها والسيسي إبتدى عملية إبادة شاملة .

بعدين دعينا "اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بعظمتك أن نُغتال من تحتنا" وبعد ما خلصنا الدعاء بثواني .. بدأت القنابل تتساقط علينا كالأمطار في عز الشتا !

ماكنش معايا غير شنتطتي إللي فيها هدومي وحاجتي .. قومت طلعت الفوطة وحاطيتها على وشي عشان أحتمي م الدخان .. فجأة لقيت الشهيد/ عبدالله عادل جايبلي كمامة وقالي حطها على وشك .. مع إن بصراحة ولا كان ليها أي لازمة من قوة الدخان والقنابل المسيلة .

والله كنت حاطط الفوطة على وشي وفاكر إنها ممكن تحميني م الرصاص !!

بعدها حاولت مراراً وتكراراً الإتصال بأهلي دون جدوى (كانت الإتصالات كلها مقطوعة)
روحت بعت رسالة لأمي ووالدي قولتلهم (بحبكم يا أغلى حاجة في حياتي وسامحوني على أي حاجه زعلتكم مني في يوم م الأيام) .. وقولت لو الشبكة جت في أي وقت أكيد الرسالة هتوصلهم .

بدأت أحاول أجيب خل م الناس إللي حواليا وأغرق بيه الفوطة بتاعتي .. لأن المفروض إن مفعول الغاز بيروح مع تأثير الخل (بس ما عرفتش لقيت بيبسي بس) .

فضلت ثابت مكاني لغاية ما أخدت أول قنبلة غاز جنبي بالظبط أفقدتني قوتي وأعصابي .. صدري إتقفل ومابقيتش عارف أتنفس .. وعيني بتحرقني أوي وبتنزل دموع بتحرقني أكتر .. ومش قادر أفتحها من كتر ما بتحرقني .. وعمال بكح جامد ومش عارف آخد نفس خالص .. وطبعاً وشي كان بيحرقني بس ما كانتش مشكلة كبيرة بالنسبة لبقية الحاجات .. ساعتها بدأت أتراجع وأنا باتطوح لوسط الميدان وأنا مش عارف مين إللي حواليا ولا هما يعرفوني .. قعدت أدور على حد يحطلي خل في الفوطة لما يشوف منظري .. وطبعاً ما كنتش أنا بس إللي في الحالة دي .

بدأت آخد نفسي وأعرف أفتح عيني وبدأت أتقدم تاني لمكان الخيمة .. الدبابات و المدرعات كانت قربت أوي وخلاص الغاز بقى في كل حتة والرصاص بيتضرب بشكل مستمر .. والآلي ما بيوقفش .

إبتدينا نكسر طوب ونرميه ع المدرعات إللي عمالة تقرب .. كل ده والناس عمالة تقع حواليك والطيارات بتحوم حوالين المكان للتصوير .. عرفنا بعد كده بشوية إن الطيارات دي كانت للقنص وكانت ثابتة في مكانها عمال تقنص الناس واحد ورا التاني .. المهم المدرعة إتحرقت مش عارف إزاي أكيد بمولوتوف .. وابتدينا نتقدم خطوات بسيطة في الحارة دي .. (بالمناسبة شفت ظباط جيش بالميري بيضربونا مع الداخلية طوال فترة الفض( .

ظل الحال كما هو عليه في الشارع  .. قنابل غاز .. ناس بتقع بتنقلها المستشفى .. طوب بتكسره وبتحدفه .. على قدر الإمكان بحاول أكون مع صحابي لكن وقتها صعب تلتزم بزميل .. كانت السرينة إللي شغالة مزعجة جداً جداً جداً.. طبعاً بجانب صوت الطيارات .. حواليك أصوات رصاص من كل الأنواع .. (جرينوف - آلي - طبنجات - خراطيش - قنص م العماير والطيارات) .. كأنك  وسط ميدان حرب بالظبط .. بس الفرق إنك معاك ستات وبنات وأطفال.. والله البنت فيهم بميت راجل .. ثبات لا يمكن وصفه .


ساعتها وقعت قنبلة قريبة مني بس مش جنبي ..
مش عارف إيه إللي خلاني جريت عليها عشان أمسكها وأحطها في جردل ماية أو شوال رمل .. مكنتش أعرف ساعتها إن القنابل دي مش أي حد بيمسكها وإن ليها طرق معينة عشان تتخلص منها .. وإن فيه أبطال بيجروا ناحية قنابل الغاز أول ماتتحدف ويمسكوها ويحطوها في جرادل الماية .. في نفس الوقت إللي كنا بنجري منها .. لولاهم كان زماننا موتنا من الخنقة في زمن ساعتين .. طبعاً القنابل بتبقى مولعة ومحدش كان بيمسكها بإيده مباشرة .. دة غير إن القنابل بتطلع غاز بكثافة كبيرة أوي .. وممكن تموت م الإختناق وانت جنبها .

المهم جريت عليها ومسكتها بإيدي من غير ما ألبس في إيدي أي حاجه .. حسيت بألم شديد جداً جداً كأن إيديا بتسيح أو بتتحرق وبعدها أُغمى عليا .. صحيت لقيت نفسي في خيمة قرب المستشفى الميداني مع ناس مصابين وفي مرهم أو مادة طبية معينة على إيدي ودراعي .. الحمدلله ربنا سترها والدكاترة لحقوني وإيديا بعد ما إنتفخت شوية رجعت تاني لجزء من طبيعتها .
طلعت م الخيمة وبصيت ع المستشفى ..
الإصابات حواليا بالكوم .. يقعدوا المصاب ع السلم ماشي .. يحطوه ع الأرض ماشي .. يقعدوه ع الرصيف ماشي .. المتصابين بقوا مترميين في كل حتة والناس عمالة تدوس ع الإصابات من كتر التدافع والشيل والحط  .. آهات وآلام لا يتحلمها بشر .. شفت مناظر بشعة .. شفت واحد واخد رصاصة في دماغه وكان ممكن يتعالج بس مفيش مكان فقعد يطلّع ف الروح جنبي .. شفت واحدة ماسكة ابنها الرضيع ميت مش عارفة تعمله إيه  .. شفت واحد نص جمجمته اتنسفت .. شفت صوابع مقطوعة وأرجل مبتورة وعيون طالعة برا الراس .. المنظر كان صعب صعب صعب لدرجة إني مقدرتش أستحمل ومشيت .
خرجت برا المستشفى ومن كتر الغاز لقيت نفسي في نص الميدان تقريباً ..
بدأت ساعتها أتمالك نفسي شوية م الرعب وهول الموقف .. وبدأت أقرب شوية م الصفوف الأولى .. لقيت الميدان كله كان عبارة عن كومة فحم مفيش حاجة باقية من آثار الخيم كلها .. ولقيت - (أبطال) - شباب ورجالة وستات وأطفال واقفين قدام دبابات ومدرعات وطيارات ورصاص حي وآلي وخراطيش وقناصة .

واقفين قدامهم بطوب .. حاجة مالهاش أي تأثير .. طوب بيتحدف على دبابة أو على مدرعة .. بتخبط وتقع ع الأرض تاني (ده لو جت فيها أصلاً) .. بيحدفها وبيموت بالرصاص الحي وبياخد رصاصة أو خرطوشة في عينه .. موقف ما ينفعش تصدقه إلا لو شوفته بعينك .. ولو شوفته بعينك هتحس قد إيه في ناس إيمانها قوي .. و قد إيه انت ضعيف قدامهم !

قد إيه حسيت بعد كده إن دمنا رخيص .. لما واحد قاعد في البيت ماشافش حاجة ومايعرفش حاجة وماعندوش أي نوع من أنواع المنطق يقول لي (في عنف م الطرفين وكنت باشوفكم بتحدفوا طوب وشوفت واحد معاه خرطوشة وإتنين ماسكين مقاريط) .. نفسي يجرب يشوف أخوه بيموت أعزل جنبه أو عينه بتروح .. ويفرجني هيتكلم عن أنهي سلمية .

فاتت ساعتين ودلوقتي بقينا الساعة 9 صباحاً ..
من كتر الرصاص والغاز والناس إللي كانت بتقع حواليا مقدرتش أستحمل .. رجعت تاني وسط الميدان وبدأت أقف مع الجمع إللي كان واقف ساعتها .. وبقيت مزنوق في وسط الميدان قدام المنصة .
المنصة كانت بتهتف (قاتل المجرمين إله الحق .. قاتل المجرمين إله الحق .. حم لا ينصرون .. اللهم أنزل عليهم بأسك وعقابك) !

بدأت أسمع إن فيه عشرات سقطوا وإن العدد تخطى الـ200 شهيد أو أكتر !!
 
ساعتها الناس كانوا فاتحين ممرات في نص الميدان عشان الشهداء والمصابين يتنقلوا منها يروحوا المستشفى .. وبدأت أشوف ناس قدامي سايحين في دمهم بدون توقف .. الترجمة الطبيعية للرصاص الغير متوقف .. الهتافات تتوالى من ع المنصة تحمسنا لنثبت .. (إن كنتم صامدون فكبروا .. الله أكبر الله أكبر ولله الحمد .. الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله) .. كنت بردد وأكبر وأهلل وكنت حاسس بخوف شديد جداً جداً .. كنت لوحدي .. وحيد وسط ناس كلٌ له شأنه مع الله .

كنت حاسس إن خلاص هموت .. وكنت خايف أموت وهو مش راضي عني .. كنت خايف أموت وأهلي ميعرفوش أنا فين ولا مع مين .. ساعتها قابلت براء حمدي حسن وسط الناس في الميدان .. ووقفت معاه .

كنا عمالين نشوف ناس رايحة وناس جاية ومصابين ودماء وكان ساعتها براء بيبكي بشدة .. شوفت طفل تايه حافي وبيعيط .. مش عارف والده أو والدته فين .. شوفت بنات قاعدين ع الأرض لوحدهم بيبكوا وبيقرأوا القرآن وبيدعوا إن ربنا ينجيهم .

كنت أنا وبراء بس إللي واقفين ونعرف بعض .. وبعدها بدأنا نقابل كام واحد من صحابنا وبعدين نرجع نتفرق تاني بسبب قنابل الغاز .. فضلت واقف مع براء شوية والناس حوالينا بتقع بسبب الخرطوش .. ساعتها إتصابت بخرطوش في دماغي م الطيارات إللي كانت فوقينا .. وقعت ع الأرض وبراء نزل شالني وبص على دماغي وقالي (مفيش حاجه جت سليمة) .. بس أنا فضلت حاسس بألم شديد .. بس مكانش فيه دم بينزف .. (بعد كده لما رجعت إسكندرية وإستحميت إكتشفت إني كنت مصاب بأكتر من 5 بلية خرطوش .. ودماغي كلها فضلت تنزف دم) .

بدأنا نسمع إن عدد الشهداء تخطى الألف  والدماء عمالة بتزيد قدامنا .. كتل دماء .. برك دماء .. دمااااااء !!
وبدأنا نحاول نساعد الناس إللي بتقع ونوصلهم للموتسيكلات إللي هتوديهم المستشفى .. وأصبحت هدومك غرقانة دم مش عارف بتاع مين ولا مين !! !

الدبابات والمدرعات كانت بدأت تتقدم من كل النواحي وخصوصاً ناحية المستشفى الميداني .. في نفس الوقت إللي كان الشهداء والمصابين ماليين المستشفى .. وبدأن نسمع إن المستشفى بتضرب بالرصاص والجرينوف .. النداء ده كان بيتكرر كتير أوي في المنصة (إلى الشباب راغبي الشهادة .. اتجهوا لحماية المستشفي الميداني .. إلى الشباب راغبي الشهادة .. اتجهوا لحماية المستشفي الميداني) .. ماكانش عندي القدرة النفسية إني أتحرك خالص من وسط الميدان لغاية تقريباً قبل الظهر بحاجه بسيطة .

بدأت ألاقي الأب إللي بيودع بنته  والأم إللي بتزق إبنها وبتقوله جددد نيتك يا بني .. ولاقينا ناس معاها أقلام فلوماستر بتكتب أساميها وأرقام تليفونات أهلها على دراعها عشان لو حصلهم حاجه .. إستلفت قلم منهم وكتبت لبراء اسمه ورقم تليفون أهله على دراعه .. بعدين براء كتب لي اسمي وتليفون والدي على دراعي برضه .

طول فترة وقوفي وسط الميدان كنت في قمة الرعب والتضرع .. كنت عمال أدعي ربنا وأقوله (سامحني وأغفرلي .. تُب عليا يارب .. لا تمتني إلا وأنت راضِ عني) .
(اللهم أغفر وأرحم .. وأعفُ وتكرم .. وتجاوز عما تعلم .. إنك أن الله العزيز الأكرم)
(اللهم نجني من القوم الظالمين .. اللهم إكفنيهم بما شئت وكيف شئت إنك على كل شيءٍ قدير)

فضلت هناك قريب م المنصة لغاية صلاة الظهر تقريباً لغاية ما حسيت إني هقع من طولي .. نايم ساعة واحدة بس وإرهاق نفسي وجسدي غير طبيعي من الساعة 6:30 صباحاً ومش قادر آخد نفسي وصدري لا يطيق ريحة الغاز والخل .. ساعتها المنصة قالت إننا هنأخر صلاة الظهر للعصر وهنصليهم جمع تأخير .. ساعتها بدأت قنابل الغاز تترمى بصورة هيستيرية علينا .. ورجعت تاني إتفرقت وبقيت لوحدي .

رحت إحتميت في عربية نقل كانت جنب المنصة بالظبط .. روحت نزلت تحتها وإترميت ع الأرض .. كان ساعتها جنبي أطفال وشباب بيحاولوا يحتموا م الرصاص والخرطوش إللي بدأ يصيب الكل .. ماكانش بيفزعني غير صوت الخراطيش والرصاص لما بتخبط في العربية .. أو صوت فزع الناس من قنبلة غاز إتحدفت .

فضلت هناك فترة لحد الساعة 1 تقريباً .. بعدها حبيت أغير مكاني لأني بدأت أحس إنهم خلاص بيقربوا .. (مش محتاج أقول إن الخلفية دايماً هي عبارة عن غاز ودخان وحرايق وخل في مناخيرك ورصاص مستمر وآلي ما بيوقفش .. وناس متشالة قدامك إللي بطنه مفتوحة وإللي راسه نصها مش موجود وإللي عينيه تلاقيها متصفية وبتسقط دم وإللي رجليه مقطومة وإللي ودانه وحتة من وشه متشالة .. وصوت السرينة مع الطيارات كان عاملي أزمة نفسية وعصبية) .

بدأت أدور في الميدان على مكان أستخبى فيه .. لقيت كومة من الخشب جنب رصيف كده من ناحية شارع الطيران روحت نايم ع الأرض ومستخبي وراها .. ساعتها كنت قريب أوي من خطوط النار .. لأني كنت بشوف ناس كتير حواليا بتقع .. شيلت بإيدي أكتر من 8 أمخاخ لناس جمجتهم إنفجرت .

وساعات كنت بقف وألاقي إللي قدامي أو إللي ورايا وقع برصاصة .. وكأن الرصاصة تخطتني لتصل ليهم !!
بعدها حسيت إن المكان إللي أنا فيه مش آمان ..فرجعت تاني ناحية المنصة .

ساعتها لقيت فتحة في جدار المنصة أقدر منها أدخل للمنصة ذات نفسها .. دخلت المنصة وكنت تحتها بالظبط .. كان معايا ناس كتير كانوا تحت وحوالين المنصة .

(الكلام ده قبل م المنصة تتحرق)

دلوقتي الساعة 2 تقريباً .. بدأت القنابل والخرطوش تتضرب بهيستيريا ع المنصة .. من قوة الغاز خرجت من تحت المنصة وروحت ناحية الراجل بتاع الصوتيات جنب المنصة من ورا .
بدأت أسمع إن عدد الشهداء تخطى الـ1500 شهيد حتى الآن !! ..صُعقت لما عرفت إنهم قتلوا منا كل الأرواح دي !!!

فضلت مستخبي ورا السماعات حوالي ساعة أو أقل .. كانت الكهربة مقطوعة بس في چينيريتور بيولدوا بيه كهربة عشان السماعات (بس تقريباً البنزين إللي فيه كان قرب يخلص) .. المهم إستإذنت م الراجل إللي كان ماسك الصوتيات وأخدت منه مشترك وشحنت موبيلاتي وشربت ماية .. مكنتش شربت ولا أكلت أي حاجه م الصبح .


كان بقالي لوحدي كتير ومعرفش صحابي استشهدوا ولا لسا عايشين .. ودي كانت أكتر حاجه بتقلقني وقتها .. إني لوحدي ومحدش يعرف حاجه عني .. وأنا مستخبي ورا السماعات كانت الطيارات الهليكوبتر بتقرب ناحية المنصة وكنت بشوف القناص فيها وهو بيضرب .. ساعتها إتصابت بخرطوش في رجلي بس الحمد لله كانت إصابة خفيفة مدخلتش .

كانت أكتر حاجه قلقاني طول فترة الفض إن الكلام ده ما يكونش بيتذاع وبيتصور والناس كلها بتشوفه وهتشوفه .. كنت خايف نموت ومحدش يعرف هما عملوا فينا إيه !!! .. كنت خايف يمحوا جرايمهم !!!

بعد فترة وأنا قاعد في المكان ده .. مش فاكر إيه إللي حصل .. ما حسيتش بقنابل بتتحدف بس حسيت إن عيني بتحرقني أوي وبتنزل في دموع بغزارة وابتديت أكح جامد ومع كل كحة مافيش نفس بآخده بعديها عشان صدري كله مقفول بالغاز .. كنت حاسس إني بكح من بوقي ومناخيري وعيني .. كنت حاسس إن جسمي كله بيحرقني .. كأني إترميت في حاجه مغلية .. كنت حاسس بتشنج في كل جسمي .. تلقائياً كنت باتطوح في اتجاه إستراحة المنصة من ورا .. لأي حتة فيها هوا وعايز أي حد معاه بيبسي يرشه على عيني .. بس ماكونتش عارف أتكلم أصلاً .. مناظر الناس حوالياً كانت بتنسيني الحالة إللي أنا فيها .. قلت عايز أرجع تاني مطرح ما كنت .. بس صدري كان مقفول أوي وكنت دايخ جداً .. ماعرفش إيه إللي كان حاصل لي .. رحت داخل إستراحة المنصة وواقع ع الأرض .

فجأة لقيت واحد معاه بيبسي جريت عليه عشان أخليه يرش على عيني .. وياريته ما رش .. من قوة الغاز ومن كتر البيبسي والخل .. عيني فعلاً كانت خلاص بتتحرق .. أقسم بالله أنا كنت حاسس إن عيني بتدوب جوا دماغي زي الملح .. كنت حاسس إني بفقد بصري تدريجياً .

بدأت أفوق وأتمالك أعصابي واحدة واحدة .. وبدأت أدور على حد معاه خل .. لقيت شاب صغير كان معاه إزازة فيها حبة صغيرين .. راح مقسمها ما بيني وما بينه وروحت مغرق الفوطة من تاني بعد ما نشفت .

بدأت أبص حواليا وأشوف أنا فين .. أنا كنت في إستراحة المنصة .. مش كل الناس تعرف إيه هي إستراحة المنصة .. هي مكان عبارة عن طرقة كبيرة وواسعة شوية ومتحوطة بسور حديد خفيف .. وكان بيقعد فيها الناس قبل ما يطلعوا ع المنصة .. وأوقات كان بيتم تخزين العصاير والماية فيها .

الساعة دلوقتي 3 تقريباً والوضع أصبح:
"إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا" ..

طيارات هليكوبتر بتاعة الجيش بتعدي من فوقينا كل دقيقة وبتضرب بالرشاش .. وسامع صوت القناصة ومعرفش أماكنهم فين .. بس غالباً في عمارة من العمارات إللي حوالينا وإللي كانت قدام المنصة .. ده غير قناصة الطيارات .. ساعتها كان في أي حتة في الميدان ممكن تاخد رصاصة في أي حتة في جسمك .

كنت حاسس "بأَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ" .. كنت كل ما بسمع صوت رصاصة القنص بعرف إن فيه حد وقع .

المهم لقيت شوية حصير في الأول روحت نايم عليهم وممدد رجليا عشان القناصة ما يرصدونيش .. ساعتها كانت أصوات الرصاص بتزيد وصوتها بيعلى .. وكان فيه أصوات تانية زي ما تكون إنفجارات أو قنابل صوت مش عارف .

كنت حاسس إني هموت في ظل دقايق .. فقلت ألحق أخلص كل أموري العالقة مع ربنا .. مكنتش حاسس إني ممكن أنجو من كل ده .. بدأت أختلي بنفسي مع ربنا .. وأسترجع كل ذنوبي وأتوب عليها واحد واحد .. كانت أصعب حاجه في حياتي وأنا بقوله (يا ربي ما تموتنيش إلا وانت راضٍ عني .. يارب إغفرلي وسامحني .. ليه يارب جبتني هنا .. عشان أموت وانت زعلان مني .. يارب طمن أهلي عليا .. يارب إرحمني وثبتني .. يارب آمني) .

بدأ يتملكني خوف شديد م الموت رغم إني كنت خلاص مش فارقة معايا بعد كل إللي شوفته .. بس فعلاً خوفت أموت وهو مش مسامحني .. خوفت أموت وإلهي مش راضي عني .. حسيت بضعف العبد تجاه مولاه .. حسيت إني ولا حاجه .. حسيت إني ممكن في لحظة أموت ومحدش يعرف عني حاجه .. حسيت إني مليش غيره هو إللي خلقني وهو إللي أعلم بيا .

وقعدت أناجيه وأحترق من البكاء .. (يارب أغثني .. يارب أغثني .. لا تأخذني على حين غفلة مني .. لا تعذبني بما أنت أعلم به مني .. يا رحيم إرحمني) !!!

ساعتها من لا شيء فعلاً .. ظهر صاحبي الشهيد/ عبد الله عادل جاي من ناحية عمارة المنايفة وداخل ع الإستراحة .. روحت مسلم عليه وحضنته وقعدت أتكلم معاه .. وأطمن عليه ويطمن عليا .. وبدأت أسأله (انت شوفت حد من صحابنا ؟؟) .. قالي (لأ) .. (طب انت أخبارك إيه كويس) ؟؟ .. قالي (أنا تمام الحمد لله) .

قعدنا مع بعض شوية وبعدها على طول المنصة إتحرقت نتيجة القنابل الحارقة إللي كانوا بيرموها م الطيارات .. وكل إللي كانوا ع المنصة جوم الإستراحة .. لقيت الشيخ/ صفوت حجازي والدكتور/ جمال عبد الهادي والدكتور/ جمال عبد الستار والدكتور/ عبد الرحمن البر والدكتور/ صلاح سلطان وناس غيرهم كتير م إللي كانوا ع المنصة .

أفتكر إن أحد الشباب قال للشيخ/ صفوت إنه لازم يحتمي بتربيزة كده كانت موجودة في الإستراحة عشان الرصاص والخرطوش وكده .. قام الشيخ/ صفوت وقف وراح ناحية المنصة .. وفضل الشباب ينادوا عليه (يا شيخ/ صفوت .. الطيارة شايفاك يا شيخ/ صفوت .. والقناص شيفك إرجع) .. وكأنه مش سامعنا خالص .. فراح أحد الشباب واجتذبه وأقعده فبكى الشيخ/ صفوت كثيراً .. وفعلاً لما قربت شوية م المنصة والله العظيم شوفت طيارة قريبة جداً م المنصة وفيها أحد القناصة بيبحث عن هدف يقنصه م إللي كانوا ع المنصة .

روحت ع الشيخ/ صفوت وسألته (تفتكر هيوقفوا ؟؟) .. قالي (مش بعد كل العدد ده م الشهداء) !!

تقريباً الساعة كانت عدت 3 بكتير والعصر أذن وبدأت الأخبار تجيلنا إن أعداد الشهداء تخطت الـ2500 شهيد .. أقمنا الصلاة وصلى بينا الدكتور/ عبد الرحمن البر إماماً صلاة الظهر والعصر جمع تأخير .. وصلينا كلنا وراه وكان جنبي الشيخ/ صفوت حجازي وعبد الله صاحبي .

بعد ما صلينا .. الشباب طلب م الشيخ/ صفوت إنه يريح شوية وهما هيحموه .. كنت ساعتها أنا والشهيد/ عبد الله عادل جنب بعض وطلبت منه إنه يريح على حجري نظراً لضيق المكان .. بعدها جه الشيخ/ صفوت ومدد جنبي وما هي إلا 5 دقايق حتى دخلت أحد قنابل الحارقة للإستراحة مصاحبة بالعديد من الطلاقات الحية وطلقات الخرطوش أصابت أحد الأطفال إللي كانوا معانا وعلى ما أتذكر كان م المنوفية .. ساعتها صحى عبد الله عادل صاحبي .. وقال لي (إللي يموت فينا الأول يسلم للتاني على سيدنا حمزة) وقام الشيخ/ صفوت وفضل يهتف (الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر) !!!

وبعدها بشوية جالنا واحد بيجري من ناحية عمارة المنايفة وقالنا إن العمارة أُقتحمت وكل إللي فيها إتصفوا وإن القوات دخلت لوسط الميدان .

إحنا سمعنا الكلام ده من هنا وطلعنا كلنا نجري ناحية مسجد رابعة .. ومن هنا افترقنا على أعتاب ساحة المسجد أنا والشيخ/ صفوت والشهيد/ عبد الله عادل صاحبي .

من كتر الزحمة والناس وصوت الرصاص وشكل الدخان والغاز الناس كانت كلها مرعوبة لأننا خلاص شايفين القوات بتتقدم علينا .. كنت ساعتها في الساحة إللي قدام المسجد وكان فيه حوالي لا يقل عن 200 مصاب أو أكتر في الساحة دي .. حاولت أتخطاهم وروحت ناحية باب المسجد لقيته مقفول من كتر الناس إللي جواه .

قابلت ساعتها .. صاحبي/ عبد الرحمن البسيوني على باب المسجد وبدأت الناس تصرخ عشان إللي جوا يفتحوا الباب .. وفعلاً فتحوا الباب والناس بقت فوق بعضها وكله بيخبط في كله عشان يحتمي بالمسجد .

دخلت المسجد وعبد الرحمن ما رداش يدخل وإفترقنا ع الباب ..
المسجد كان أكوام من البشر .. وفيه مصابين وقتلى في كل حتة .. كان في حتة في نص المسجد فيها أكتر من 20 شهيد منهم 5 ع الأقل مخهم متفجر .

فضلت أتسحب لحد ما وصلت قرب المحراب بتاع المسجد .. وبدأت القوات في عملية إقتحام المسجد .. والقنابل والغاز بيترمى من برا والدخان بتاعه بيقرب ويدخل م الشبابيك .. بعدها رجعت تاني ناحية الباب عشان أشوف إيه إللي بيحصل بره .

شوفت حاجات مخي حتى الآن مش قادر يستوعبها !!!
شوفت جنود بآلي بيدورا الضرب في كل ما هو حي أو ينبض بالروح .. كأنهم عايزين يمحوا كل آثار الجريمة .. كل الشهود إللي متبقيين جوا الميدان .. عشرات من الناس كانوا بيقعوا قدامي .. إما ناس ناحية الساحة أو في وسط الميدان أو قريب م المنصة أو ناحية عمارة المنايفة .. كله بيقع .. وإللي بيجري بتصيبه رصاص القناصة .

الموقف ده هزني جداً !!!
مكنتش مصدق إللي أنا شايفه أصلاً .. إيه ده هو فيه غاز جوا الميدان ؟! .. إيه ده هو الخيم بتتحرق بجد ؟! .. إيه ده هي خيمتنا إتسوت بالأرض فعلاً ؟! .. إيه ده هو المدرعات واقفة قدام المنصة ؟! .. إيه ده هوا فيه أكتر من 3000 شهيد ؟!! .. والله ما عرفت أستوعب الموقف غير بعد تاني يوم لما روحت إسكندرية .

رجعت تاني لنص المسجد وسندت ع العمود .. بصيت في موبايلي لقيت فيه شبكة .. كنت لسه مكلمتش أهلي م الصبح .. بس شوية مسجات كانت بتوصلهم لما الشبكة بتيجي وبطمنهم ع الوضع .

على طول إتصلت بوالدي ودار الحوار ما بيننا:

والدي: انت فين يا عمار طمني عليك يابني .. أمك بتموت جنبي !! عمار رد عليا !!

أنا: بابا أنا دلوقتي في مسجد رابعة العدوية وهما واقفين بره خلاص
والدي: ما تخافش يا عمار أنا معاك يا بني ما تخافش !

أنا: بيرمونا بقنابل الغاز من شبابيك المسجد يا بابا وفي ستات وأطفال هنا كتير والناس كلها مرعوبة وبتعيط ومش عارفين نعمل إيه ؟!
والدي: (كان بيبكي ويقولي) ما تخافش يا عمار أنا هجيبك ما تقلقش .. إثبت يابني !

أنا: بابا إسمعني كويس أنا شايفهم وخلاص هما هيدخلوا ويقتحموا .. بابا غالباً هيتقبض عليا أو هـ استشهد
(وهنا إنهار والدي م البكاء وكنت سامع بكاء أمي وإخواتي في التليفون) ..

والدي: ما تقولش كده يا عمار .. أنا جايلك يابني ما تخافش !

(ساعتها كنت بتقطع من جوايا وكنت ببكي بحرقة لم أعهدها من قبل وكنت برفع التليفون من عليا عشان مايسمعنيش وأنا بعيط) ..

أنا: بابا إسمعني كويس أبوس رجلك وركز معايا مفيش وقت .. أنا آخر واحد من صحابي شفته هو عبدالرحمن البسيوني بس معيش رقم تليفونه بس هتلاقيه عندي ع الفيس .. دور عليه هو ده آخر واحد كان معايا
والدي: (منهار م البكاء) طب مفيش حد تعرفوا جنبك يا عمار أو حد يكون معاه رقم تليفون نوصلك بيه ؟!

أنا: مفيش حد هنا يعرف التاني وكله بيتشاهد خلاص .. إسمعني كويس عشان موبايلي هيفصل ومش هتعرف توصلي .
والدي: عمار أنا هشوفك تاني يا حبيبي ما تخافش يابني !! (كان بيبكي بحرقة شديدة)

أنا: بابا خلي بالك على ماما كويس أوي وعلى كل إخواتي وإياك تحرمهم من حاجة .. بابا سلملي على ماما ومحمد وزكريا ومؤمن وسارة .. بابا إبسطهم ع الآخر واعملهم كل إللي نفسهم فيه .. وافرحولنا إحنا هنا بنجاهد !
والدي: (هنا قاطعني والدي بزعيق وحرقة وبكاء) ما تقولش كده يا عمار انت هترجعلنا وهتكون كويس كمان .. عمار اثبت !

أنا: بابا إسمعني كويس لو بتحبني مفيش وقت .. بابا أي حاجة عندي بيعها وحط فلوسها في أي حاجة خيرية .. بيع عربيتي وإدي فلوسها لإخواتي خليهم يفرحوا ويتبسطوا .
والدي: ما تقلقش يابني بس ما تقولش كده أنا بموت !! (كان منهار جداً)

أنا: بابا دي وصيتي لو جرالي حاجة .. خلي بالك على أمي واخواتي وأوعوا تخونونا أو تضيعونا أو تضيعوا حقنا .. إحنا بنموت علشانكم عشان تعيشوا بحرية وكرامة .. بابا إفرح وما تخفش عليا .. إبنك راجل وواجهم لحد آخر نفس .
والدي: عمار هعمل كل حاجة بس طمني يابني !

أنا: خلاص يا بابا هما هيخشوا المسجد هيخشوه .. وأنا دلوقتي معيش حد وكل واحد في حاله مستني قدره !
والدي: ما تخليهومش يقبضوا عليك يا عمار .. إياك يقبضوا عليك واثبت وواجههم ما تخافش يابني !

أنا: بابا اسمعني مفيش وقت خلاص عايزك تبلغ الناس إن المسجد فيه أكتر من 20 جثة وعشرات المصابين وفيه ناس كتيرة هنا وفي أطفال وستات كبيرة كمان .. وإحنا عددنا ألفين تقريباً .. بابا وصل صوتي لو جرالي حاجة .
والدي: حاضر يا عمار ما تقلقش يابني !

أنا: بابا خلاص موبايلي هيفصل .. زي ما قولتلك يا بابا ما تنساش وصيتي وإياك تسيب حقي ! سلام يا بابا .. أنا بحبك أوي (ساعتها إنهرت من البكاء وهو سامعني)
والدي: ما تخافش يا عمار ما تخافش يابني أنا معاك وكلنا معاكم وإن شاء الله ربنا هينصركم

أنا: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله
والدي: عمار يابني يا حبيبي .. اثبت يا عمار

وبعدها قفلت عليه لأني كنت عارف كويس إنه مش هيقفل .. ولأني كنت منهار جداً من بكائه وحسيت بشوق لأهلي جداً .. وبعدها بكيت وقعدت أكبر وأصرخ بأعلى صوتي (الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر) ورغم إن الناس كلها منهكة جداً وفي حالة رعب وصرع وهول لكن الناس بدأت تهتف ورايا ستات وأطفال وناس عواجيز وشباب .. كله كان بيهتف ورايا .. حسيت ساعتها بقوة الكلمة دي !!
(الله أكبر) أول مرة أحس بوقعها في قلبي بالطريقة دي .. حسيت إنها بتقويني وبتهزني من جو

 حسيت إن ربنا أكبر منهم .. إن ربنا هينصرنا .. وما بطلتش تكبير لحد ما صوتي راح خالص تقريباً .. بعدها لقيت ست كبيرة جداً حطت إيدها على كتفي وقالتلي قول (اللهم أغيثنا) وبعدها فضلت أنادي بأعلى صوت (اللهم أغيثنا) .. والله كنت حاسس إن المسجد بيتجلجل من كتر الهتاف وقوة الناس إللي بتهتف .. (اللهم أغيثنا .. اللهم أهلك الظالمين .. اللهم انصرنا) .. فضلنا نهتف لحد ما جت قنبلة غاز ودخلت م الشباك إللي على شمال المسجد ناحية القبلة .. ساعتها الناس بطلت هتاف وكله حاول يحتمي بإللي جنبه .. وبالخل إللي ع التيشيرت أو الطرحة .. لحد ما أثر القنبلة يروح .

ساعتها حسيت بأوحش إحساس ف حياتي .. إحساس مهما كتبت مش هاعرف أوصفه أبداً .. إحساس الحصار .. إنك تكون متحاصر ملكش ملجأ غير الله .. مش عارف مصيرك .. مش عارف هتموت ولا هتعيش .. مش عارف إيه الخطوة الجاية .. مستني دورك في القتل .. الناس عمالة تتقتل حواليك ومن التدافع انت مش عارف تتحرك أصلاً .

إحساس الصمت إللي يسبق صعود الروح .. الناس كلها كانت في إنتظار آجلها بمعنى الكلمة .. كله بيستعد لرصاصة الخلاص .. كله في صمت يترقب مصيره .. لا تسمع إلا صراخ الأطفال .

الأب بيودع إبنه وبيحضنه .. والزوج بيودع مراته .. والأم بتودع بنتها .. وكله بيقول الشهادتين وبيستعد .. لا ملجأ من الله إلا إليه !!

بعدها بدأت أقرب شوية من باب المسجد من ناحية المركز الإعلامي (إللي إتحول لمستشفى ميداني) لحد ما خرجت منه وروحت مستشفى رابعة .. وجرى لي ما جرى !

تقريباً كانت الساعة بقت 6 وهما إقتحموا الميدان كله وخلاص داخلين ع المسجد ومستشفى رابعة والمستشفى الميداني .

جه تفكير غريب في بالي ..
قولت أنا لو فضلت في المسجد هو كده كده هيقتحم وهيقتل كل إللي في المسجد .. لأني كنت بالفعل بشوفه بيقتل إللي حوالين المسجد .. ساعتها فكرت إني لو دخلت المستشفى يستحيل هو يقتل المصابين أو الدكاترة لأن ده شيء إنساني وخط أحمر يستحيل يتخطاه .

دخلت مستشفى رابعة وطلعت الدور الـ3 العمليات .. وإستخبيت هناك ..
من الدور الأرضي لحد ما طلعت فوق كنت بشوف عشرات القتلى والمصابين .. كنت بدوس برجلي على دماء تسيل على سلالم المستشفى .. حسيت إني جوا مشرحة مش مستشفى .. دم في كل حتة .. كأنك بتغرق جوا برك من الدم .

فجأة سمعت صوت إنفجار ضخم جداً جداً جداً .. عرفت بعد كده إنها قنبلة يدوية إترمت وسط الناس إللي تحت !!
المنطقة أصلاً مكتظة بالمعتصمين .. فقتلت ما لا يقل عن 20 شخص .. واحد صاحبي شاف القنبلة وهيا بتفرقع وشاف الجثث والأشلاء وهيا بتطير في الهوا .

لما القنبلة إنفجرت الداخلية كانت إستولت على كل الميدان وإبتدت تخش ع المسجد والمستشفى بالبلدوزر والدبابات .
 
ساعتها بدأت أسمع صوت بيقول إللي جوا المسجد يخرجوا ويسيبوا كل الجثث وإللي مش هيخرج هنقتله .. مفيش 3 دقايق لقيت القوات إقتحمت المستشفى وبدأوا يثبتوا كل واحد مش مصاب أو لسه فيه الروح .

بصيت م الشباك بنظرة خاطفة لقيت كل إللي في المسجد بيخرجوا تحت تهديد السلاح .. فضلوا حابسينا شوية جوا المستشفى وبعدين جه واحد ملثم وقال .. (هنخرجكم بس محدش هياخد معاه جثة أو مصاب .. لو ليك حد قريب خده .. غير كده ملكش دعوة بغيرك) .

كان فيه دكتور بيعالج واحد مصاب تم قنصه في رجله الشمال مما أدى إلى كسر وقطع في الشريان الداخلي ولازم تتقطع رجله لأنه كان بينزف .

رايح الدكتور قال للظابط أو الملثم ده (أنا معايا واحد رجله مكسورة ما أقدرش أسيبه) .. فالظابط راح رادد عليه بتريقة وقاله (سمعني بتقول إيه تاني ؟؟) .. فالدكتور راح قايله (بقول لحضرتك معايا مصاب رجليه مكسورة وعنده قطع في الشريان وما أقدرش أسيبه .. لو سيبته هيموت) .. راح الملثم طلع الآلي وقال للدكتور (أنا دلوقتي هكسرلك قلبه) وقتل المصاب بـ3 رصاصات في القلب .

الدكتور صُعق وإتشل م المنظر وقعد يهتف بهيستيريا (حسبي الله ونعم الوكيل .. حسبي الله ونعم الوكيل) .. راح الملثم قايله (لو ما اتحركتش دلوقتي هنيمك جنبه) .

أنا بشوف كل ده .. وجاتلي حالة عصبية لدرجة إني حسيت إني مت فعلاً وإن كل ده مش حقيقة .. حسيت بإحساس إقسم بالله ما يتوصف في كلام .

إحساس أشبه بالموت إللي انت مش طايله .. تقريباً كنت متخيل إني دخلت النار أو حاجه شبه كده !!!
صُعقت وما كنتش حاسس بأي حتة في جسمي .. كنت أشبه بالسكران فعلاً ..

بدأ الجنود يقربوا مننا ويزقونا بسن السلاح عشان ننزل .. وكل شوية يتعلق بينا المصابين ع السلالم وفي الأدوار .. (بالله عليكم إنجدونا .. لو سيبتونا هنموت .. خدونا معاكم) .. أنا كنت بسمع الكلام ده من هنا وما كنتش عارف أعمل إيه .. لدرجة إني كنت خايف أبصلهم علشان ما أعشمهمش أو حتى أتقتل لأني إتأخرت في النزول .

حسيت إن أنا زبالة أوي وإني المفروض أنا إللي أكون مكانهم وأواجه مصيري .. حسيت بأقصى قمة الإستضعاف إللي ممكن تتوصف .

كل سلمة كنت بنزلها .. كل حد بيقولي إنقذني .. كل كلب بيزقني بسن سلاحه .. كنت حاسس بإحساس مش قادر أوصفه في كلامي .. حاسس إن الموت أهون .. حاسس بأقصى إحساس ظلم حسيته في حياتي .

بعدها نزلت وخرجت برا المستشفى وأنا شايف الجثث مترمية في كل حتة في الشارع .. المنظر بره المستشفى أشبه بيوم القيامة .. هو عبارة عن نار في كل حتة و دخان في الباقي .. حرقوا كل حاجة .. ماعرفش صحابي استشهدوا ولا عايشين .. حرقوا المستشفى الميداني .. حرقوا الجثث بالمصابين  .. حرقوا المسجد !!!

ساعتها خفت ع الأحياء إللي سيبتهم ونزلت من مستشفى رابعة .. بس تدافع الناس خلاني أكمل وخرجت تايه حافي مش عارف أنا فين ولا رايح لفين .. من غير هدف ولا وجهة بتحركني .. زي ما أكون بمشي وأنا نايم مش شايف قدامي ولا حاسس بإللي حواليا .. كل إللي كنت حاسه وقتها إن إتكسرت جامد وكأن فيه سكينة في قلبي بمعنى الكلمة .

كنت بمشي وببص كل شوية ورايا كأن فيه حاجه غلط .. كإن فيه مدد هينزل .. كأن مش معقولة دي النهاية !!!

عديت شريط الترام أو المترو مش فاكر وبعدت مسيرة 5 دقايق عن رابعة وببص ورايا لقيت المستشفى إللي لسه سايبها عبارة عن كتلة من النار !!!
حرقوها بكل إللي فيها .. حرقوها اليهود بكل روح لسه عايشة فيها .. حرقوا المصابين .. حرقوا الشهداء .. حرقوا قلوبنا !!!
ساعتها أنا وقعت من طولي وقعدت أعيط لدرجة إن إللي حواليا إفتكروا إني مصاب وبتألم .. 
منظر المستشفى وهي بتتحرق مش ده إللي أنا كنت شايفه .. أنا كنت شايف وسامع صراخ وإستغاثات إللي جواها .. (إنجدونا .. إلحقونا .. إنقذونا .. آآآآآآآآآآآآآآآآه) .. حسيت بذنب كبير إني يا ريتني كنت أخدت حد معايا .. ياريتني كنت أنقذتهم .. أو حتى طمنتهم !!!

حسيت إني ربنا نجاني عشان أنا مستاهلش أكون زيهم !

بدأت الناس تقومني وتقولي (يلا مفيش وقت إحنا لسه مخرجناش .. هيقتلونا)

ودي آخر ساعة في ميدان رابعة .. كانت الساعة 6 أو 6:30 مش فاكر

مكنتش أكلت من أكتر من 24 ساعة .. ومنمتش غير ساعة بعد الفجر
ومن الساعة 6:30 صباحاً وإحنا فى أهوال من قتل وغاز ونقل جرحى وتحضير مساعدات
غير حرارة الشمس طول اليوم .. كنت وصلت لدرجة م الإجهاد لا توصف


الميدان كله أصبح من كل جانب عبارة عن دخان كثيف أسود .. وحرايق ضخمة
وأشتد القنص في الآخر وإحنا بنخرج والقتل كان بصورة جنونية .. الشهداء عمالة تقع من حواليا لدرجة إن فيه واحد دخلت الرصاصة في مخه فجرته حطيت إيدي جوا جمجمته وطلعت الرصاصة ولسه معايا بدمها حتى الآن !!!

المشكلة إننا مكناش عارفين مصدر الضرب .. بس بيتهيألي إنه كان من على أسطح العمارات إللي حوالينا منطقة رابعة .. الكل عمال بيردد الشهادتين إستعداداً لدوره في القتل .. وناس كانت بتبكي على ما وصل إليه الإعتصام وعلى وطننا وع الظلم الواقع علينا .. البعض عمال يدعي فى خشوع وكأن شئ لم يكن من حولنا .. وفيه ناس تانية بتتكلم في التليفون مع أمه أو أبوه عشان يسامحه .. ويفرح بأنه سيكون شهيد .. وناس تانية كانت عمالة تفكرنا بإن الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت .

أشتد القنص أكتر والشهداء عمالين بيقعوا .. ومفيش في إيدك حاجه غير إنك تشيلهم على جنب عشان محدش يدوس عليهم .. لأن المستشفى إتحرقت خلاص .

فتكمل مشي ..

بدأوا يرموا كميات كثيفة من قنابل الغاز .. وكانت كميات الخل والبيبسي إللي مع الناس خلصت .. فإللي يهرب م الغاز على أطراف الشارع يتم قنصه .. وإللي يفضل في النص زي حالاتي يكاد يموت م الإختناق .

كان هدفهم إننا نخرج م المنطقة خالص وبأقصى سرعة  ..

وبدأت الناس تعمل مستشفى ميداني صغير في الشوارع لإسعاف ما يمكن إسعافه م إللي بيقعوا !!

وبدأت الناس تنصحنا نخرج م الشوارع الجانبية عشان نتجنب كماين الجيش والشرطة والخروج  .. دخلنا في شارع وفوجئنا بإن كل البيوت عليها قناصة .. وضربوا علينا بكثافة رصاص حي .. لدرجة أحياناً بتخبط في الأسفلت إللي قدامك .. وأحيانا في الحيطة إللي انت محتمي بيها .. ونفس المشكلة مكناش عارفين مصدر الرصاص .

فضلنا نمشي وننام ع الأرض وبعدين نمشي ونحتمي لحد ما خرجنا م المنطقة خالص .

قعدت أبكي مع نفسي وعيني تدمع على حالي بإني خرجت من سوق الشهادة .. إن ربنا اختار كل هولاء واختار من حولي ولم أكن في مكانة الإختيار شهيد .

قعدت أبكي على حال ميدان الصمود وهو أصبح كتله من الدخان والنار وخروجنا بهذة الطريقة المهينة .. وعلى بلدي إللي قتلت أشرف ما فيها وبقينا نحن أحياء مع أسوء البشر في وطننا .

هذه فقط آخر ساعة من ساعات أرض الإستشهاد !

بعدها لقيت نفسي قدام مسجد فاطمة وكان العشاء أذن تقريباً .. دخلت الحمام وغيرت هدومي ولبست كوتشي كنت حاطه في الشنطة .. دخلت صليت وبدأت أشحن موبايلي عشان أكلم أهلي .

ساعتها قابلت عمرو أمين صاحبي .. وقالي إن (الناس كلها متجمعة عند مسجد الإيمان) .. قلتلوا (طيب طمني على صحابنا ؟؟) .. قالي إن (معظمهم بخير .. بس عبد الله عادل إستشهد) .. ساعتها وقعت من طولي !!!

عبد الله !!! إزاي !!!
قولتله (يستحيل أكيد مش هو .. أكيد حد تاني .. ده كان معايا لحد الآخر) !!
قالي إن (أهله هما إللي بيقولوا) .. قلتله (صدقني عبد الله عايش أنا شوفته) !!

بعدها قالي (طيب تعالا نروح مسجد الإيمان ونشوف الوضع هناك) .

وفضلنا ماشيين على رجلينا من مسجد فاطمة لحد مسجد الإيمان في مكرم عبيد وبنحاول نهرب من كماين الجيش والشرطة .

طلعنا على مسجد الإيمان .. و هناك اطمنت ع الشباب كلهم .. كان كل شوية بيوصل شهداء للمسجد من الميدان .. المسجد كان ماليان جثث .. ودول كانوا ولا حاجة م إللي اتحرقوا في الميدان .. و في المستشفى الميداني .. وفي مسجد رابعة .. إللي حرقوه بالجثث إللي كانت فيه .

بدأت أسأل الناس على عبد الله عادل .. كله أكدلي إنه أُستشهد .. ساعتها أخدت جنب جوا المسجد وفضلت أبكي مع نفسي على فراقه .. حسيت قد إيه إنه كان صادق معايا وهو بيقولي إنه حاسس إنه هيستشهد .

ربنا يرحمك يا عبد الله !

كل ده ولسه أهلي ميعرفوش إني الحمد لله بخير وخرجت من رابعة .. لقيت الناس بيقولي كلم أهلك بسرعة دول قالبين عليك الدنيا .. كلمتهم وإطمنت عليهم وطمنتهم عليا والحمد لله كانوا ثابتين جداً وكانوا مستعدين لأي حاجه .. ربنا يتقبل منهم ويجعله ف ميزان حسناتهم .

كانت الجثث عماله تتوافد ع المسجد طول الليل بدون توقف .. ففي ناس قررت إنها تبات في المسجد .. وفي ناس قررت تبات حوالين المسجد أو بعيد عنه (نظراً لضيق مساحة المسجد بسبب الجثث) ويرجعوله تاني يوم الصبح .

ساعتها كان والد واحد صاحبي دبرلنا مكان عشان نبات فيه بعيد عن مكرم عبيد خالص وطبعاً نظراً لحظر التجوال والكماين إللي كانت موجوده في كل حته في الوقت ده دخنا دوخة السنين لحد ما وصلنا للمكان إللي م المفترض هنبات فيه .

بس حصلت ظروف والمكان ده مكانش متاح للبيات لأن الوقت ساعتها كان إتأخر خلاص .

وإحنا دلوقتي كنا فين ؟؟ إحنا في الشارع متحاوطين بآلاف من المخبرين وقوات جيش الإحتلال المسري وقوات الشرطة وكلاب الداخلية .

قررنا نرجع تاني لمكرم عبيد ونبات في الشارع وإللي يحصل يحصل !
وطول م إحنا ماشين الناس كلها كانت باصلنا م البلكونات (عشان كانت هدومنا متغرقة دم) والناس كلها كانت بتتنشأ على واحد إرهابي يمسكوه ويسلموه للجيش .

وإحنا بنحاول نجري ونستخبى وندارى ونمشي براحة في أوقات لأن المحلات كلها إللي فاتح منها مطلعين البلطجية بتوعهم بره وبيدوروا علينا .

أوقات كنا بنزحف ع الأرض ونتسحب عشان بس نوصل لأرض مسجد الإيمان !

ساعتها من لاشيء فعلاً ظهر لنا شابين راكبين عربية وقالولنا إركبوا إحنا من سكان المنطقة وهنوصلكم مطرح ما إنتوا عايزين .

وسط لحظات من الرعب والقلق والخوف والحيرة .. عزمنا أمرنا وركبنا معاهم !
قعدت أنا قدام جنب السواق وبقيتنا قعدوا ورا .

وعلى الرغم إن الدم كان مغرق هدومنا وعلى الرغم من إنهم عارفين كويس إننا كنا في رابعة ومش عارفين نخرج م المنطقة وإحنا ذات نفسنا كنا بنحور عليهم خوفاً من إنهم يسلمونا .
إلا إنهم ما اتكلموش معانا خالص في الموضوع ده !!!
وكان كل هدفهم يوصلونا لمطرح م إحنا عايزين .. كانوا عارفين أماكن الكماين كلها وكانوا بيهربونا م الكماين دي ويدخلوا بينا في شوارع مختصرة عشان يوصلونا لمكرم عبيد .

وفي أثناء كلامهم معانا قالوا لنا عايزين تروحوا مكرم عبيد عند مسجد الإيمان مطرح م الناس قاعدة ولا بعيد عنهم .. وإحنا كنا عاملين فيها مفتحيين وبنقولهم بعيد شوية على أساس نحطات وكده .

المهم الشابين دول أنقذونا فعلاً ووصلونا لحد باب مسجد الإيمان وعدوا بينا من كلاب الدولة وأوساخ الداخلية وقوات جيش الإحتلال .

الشابين دول أنا بدعيلهم من كل قلبي كل ما أفتكر الموقف ده وأتمنى إني أقابلهم في الدنيا قبل الآخرة .. وأتمنى إن ربنا يرزقهم بكل خطوة خطوها لينا تكفير آلاف الذنوب ورفع آلاف الدرجات وإن ربنا يأمنهم يوم القيامة .. ويثبتهم في الدنيا وعند السؤال ويوم يقوم الناس لرب عظيم .

أنا حبيت أحكي الحتة دي عشان هدف واحد بس !

الظلم مش محتاج أعداد توقفه قد ما محتاج إنسان مخلص مؤمن موقن بالله وبنصره يقول كلمة حق في وجه سلطان جائر .. لا يخاف في الله لومة لائم .. قوي بالله مش بحد تاني .

وقوفك ضد الظلم دليل على آدميتك مش على قوتك !
مش محتاج تكون سياسي عشان تبقى إنسان !!!

ولكم في الشاب إللي هيقف قصاد المسيح الدجال عبرة !!!
" فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس أو من خير الناس" صحيح البخاري

بعدها رجعت تاني ع المسجد ولقيت المكان أصبح مقبرة جماعية .. ساعتها ما استحملتش المنظر وروحت بيت في أوتيل جنب المسجد .

ورجعت تاني يوم الصبح عشان أصور كل الجثث والمصابين وأحاول أوثق إللي حصل !

دي نهاية اليوم .. ودي بداية حياتي ..


من بعد رابعة وأنا حياتي إتغيرت بشكل ملحوظ جداً .. وكل إللي حواليا عارفين كده .. إنت عارف يعني إيه تشوف طفل قدامك بيجري وياخد الرصاصة في دماغه ويموت .. المشهد كله 3 ثواني !!

مرت سنة .. على يوم فارق بالنسبة ليا .. مش هنساه ما حييت !
إتقتل في اليوم ده كتير من أحبابنا وصحابنا حوالينا قنصاً من العمارات المجاورة ومن الطايرات الحربية وطايرات الشرطة المصرية .. والله عمري ما هنسى صور الشباب إللي طلعنا نجري ننقلهم ع المستشفى الميداني ودمائهم الطاهرة قد ملأت ملابسنا !!
قُتل هناك إخواني وأصدقائي و أحبابي !!
تعاهدنا عهداً ليلة الفض إننا نفضل كلنا ع العهد .. يمضي من يمضي وينتظر من أراد الله له أن ينتظر .
أنشدنا ليلتها (سوف نبقى هنا كي يزول الألم) .. وأنشدنا (تهون الحياة و كل يهون و لكن إسلامنا لا يهون .. نضحي له بالعزيز الكريم و من أجله نستحب المنون) .. !
يومها إرتقى أخويا و صديقي (عبد الله عادل) شهيداً .. حاسس بيه حي حتى الآن !!
والله مستني لحظة لقياه كل يوم !! .. وما يواسيني إلا كلماته الأخيرة ليا (عمار إللي يموت فينا الأول يسلم للتاني على سيدنا حمزة) .. حين يشتد الألم أتمتم (أنتم السابقون ونحن اللاحقون) .. !
مش هنسى منظر الست الكبيرة إللي كانت شايلة سبت كبير مليان عصاير ووكانزات ومايه ساقعة وتمر .. وعمالة توزعها ع الشباب المقاوم ع الثغور .
مش هنسى وأنا محتمي م الرصاص بالرصيف والخشب .. وإذا بأحد الشباب ماشي في الميدان غير مبالي بالرصاص ولا الخرطوش .. فيتم قنصه من رأسه .. فتنفجر جمجمته .. ليسقط مخه ع الأرض كما الشهداء .. حينها نسرع لإلتقاطه وسط ضرب النار والقنابل .. لتخرج روحه بين إيدينا !!!
شوفت رجال بيجري وهو بيصرخ م الآلم بينما النصف الأسفل من دراعه طاير بعد ما أُصيب في مفصله برصاصة ثم سقط أرضاً .
ما لاحظتش أي محاولة واحدة من جانب المعتصمين للهروب م المعركة .. ثبات ويقين في الله ملوش مثيل !!

كانت كل شقق رابعة فاضية من سكانها وكأنهم كانوا عارفين إنه هتحصل مجزرة .. وكان هناك آلاف ممن يتعرضون للإبادة ويشعرون بظلم المجتمع ويموتون م العطش والجوع والغضب .
و الله ما كتبت ربع ولا عُشر إللي شوفته وحسيته .. المشاهد كتيرة والألم كبير والجرح عميق !!
ما أكتب هذه الكلمات إلا كنوع من الفضفضة معاكم .. لا أريد بها فتح نقاش سياسي .. و لا أريد أن أستجلب إستعطافاً !! .. و لا أنتظر في الحقيقة منكم أي تعليقات متهكمة أو مستفزة !!
فقط أريد منكم إن فتح الله عليكم برؤية الحق أن تثبتوا عليه أياً كانت الكلفة !!
ألا إن سلعة الله غالية .. ألا إن سلعة الله ?‏الجنة?? !

هذه اللحظات من عمري لن أنساها .. وسأظل أحكيها حتى آخر رمق في روحي .. وسأحكيها لأولادي وأحفادي إذا قدر الله لي العيش بكرامة وحرية .. فلقد عشت لحظات الجهاد والرباط .. حسيت بأهلي وإخواتي في سوريا ربنا ينصرهم ويقويهم على بشار وأعوانه .. حسيت بأهلي وإخواني في غزة وفلسطين .. حسيت يعني إيه مُحتل .. يعني يهود .. يعني قتل وسحل ودماء وحصار ونار ودمار .. حسيت بشوق كبير جداً لأهلي وإخواتي وإني قد إيه كنت مقصر في حقهم فزاد بكائي وحرقتي على فراقهم .. حسيت بحزن رهيب بداخلي ناحية صحابي إللي باعوني ونزلوا فوضوا بقتلي وقتل إخواتي وصحابي .. حسيت بقرب الموت قوي وقد إيه الحياة متاع الغرور !! .. وقد إيه هي ما تساويش عند ربنا جناح دبانة حتى !! .. حسيت بظلم رهيب على قلبي - إحساس المظلوم صعب جداً - حسيت إني لوحدي لدرجة إني تخيلت ساعتها عبارة السلام لما كانت بتغرق في البحر وكانوا لوحدهم ليس لهم إلا الله .. حسيت إن لا منجي منها إلا الله .. فقعدت أتصالح مع ربنا في كل حاجة غلط عملتها في حياتي .. وقعدت أقولوا يارب ماليش غيرك انت بس يارب !! انت بس يارب إللي قادر تنجيني !! انت بس يارب إللي قادر تثبتني ع الحق لحظة إستشهادي !!!

اللحظات إللي عشتها دي أثرت كتير فيا .. وغيرتني كتير من جوايا .. عرفت بجد معنى الجهاد والحب في الله .. وحب الموت وكراهية الدنيا .. وإن ربنا قادر على كل ظالم .. بس لازم نُري الله من أنفسنا خيراً - حتى يغيروا ما بأنفسهم - ربنا هينصرنا قريب أنا واثق من كده .. مش مهم عندي أشوف النتيجة .. لكن المهم أكون في طليعة المرابطين وأقول كلمة الحق حتى آخر قطرة من دمي !!
عشان لما أقابل سيدنا حمزة أكون فعلاً أستحقها .. ولو ربنا ما أرادش ليا الشهادة .. أكيد لأن في تقصير مني .. بس أنا مش هسكت ومش هتخاذل عن نصرة إخواتي وصحابي إللي ماتوا ولا عن نصرة أي مظلوم شيلت جثته بإيدي ودمه لسه على هدومي !
صحيح عدت سنة ع المذبحة
لكني والله فاكرها لحظة بلحظة .. في أحلامي وفي أفكاري وحتى في فراغي وانشغالي !

الدماء والمخ والجثث والجرحى .. الأطفال والشباب والنساء والشيوخ .. هول وفزع صراخ وعويل .. دعاء واستغاثة إيثار وتضحية .. قوة وشجاعة عزيمة وصبر .. ثبات ويقين إيمان وحب !

ملحمة سيسطرها التاريخ بحروف من الدم .. فيها ضحكة شباب سرقوا الخلود من أيدي قاتلهم !!!

فنحن لن نستسلم .. ننتصر أو نموت !!!

اللهم إني أسألك خير مافي هذا العام وخير مابعده وأعوذ بك من شره وشر مابعده ..
وأن تعفو عني ماقد مضى عفواً يليق بمن هو عفوّ يحب العفو .. اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك

سأظل أحيا بذكراها لسنوات  .. ألا لعنة الله على الظالمين


لله ثم التاريخ
عمار ياسر