هل هي عودة أم استعادة؟ أنس أم استئناس
النهضة أم الدولة؟ هل عادت طائعة مختارة أم أرغمت على الدخول في الصف؟ هذا السؤال الذي يقود التحليل الآن لقراءة موقف حزب النهضة الإسلامي في
تونس.
يزدهي انصار الحزب بالنظر إلى مواقفهم على أنها زبدة انتصار التأقلم السياسي مع النظام السائد ويرفعون من قيمة التوافق حول الدولة و يقدمون حالات الخراب المصرية والسورية والليبية كصور نقيض للذكاء السياسي. بما يعني أن التمسك بالخريطة المبدئية المؤسسة لم يعد مجديا أو لم يكن صالحا للاستمرار. ويتلقف انصار الدولة العميقة التمشي التائب على أنه توبة نصوح للابن البورقيبي الضال الذي تعقل وعاد إلى حضن المشروع الوطني كما لو أن هناك مشروع وطني واحد لا يمكن الخروج عليه. فإما أن تكون فيه أو تتعرض للإقصاء والمحق. كم كان في موقف النهضة الحالي من قبول بالمشروع الوطني وكم كان فيه من الإخضاع القسري؟
ينتظر في هذه اللحظة المفصلية أن يقدم الحزب بعد تجربة في ممارسة السلطة نقدا ذاتيا لمجمل الأخطاء و الأفعال المنجزة ويقدم رؤية لمشروعه الجديد وقد قبل مبدأ المشاركة من غير موقع الفاعل الرئيسي. وينتظر أن يطرح السؤال داخله هل عليه أن يعود لمشروع الثورة أم عليه أن ينخرط في الدولة. إنها لحظة التموقع التاريخي الذي سيكشف عمق الأطروحة المؤسسة بخلفية دينية اسلامية. ليتم الحكم عليه في الجوهر لا في العرض.
تناقض الدولة والثورة وضرورة الانحياز
يمكن للحزب أن يمجد عقلانيته منذ لحظة التأسيس في 6 جوان 1981 عندما أعلن عن وجوده كمشروع حزب مدني يقبل لعبة الديمقراطية والرضا بنتائج الصندوق. ويمكن له أن يبالغ في تمسكه بسلمية العمل السياسي منذ تلك اللحظة. لكن تلك العقلانية والسلمية (المشكوك فيها) لم تشفع له يوما في نظر الدولة القائمة ولم تسمح له بتنفس الهواء الوطني ووحدها الثورة فتحت للحزب باب الوجود والمشاركة الفاعلة وقد عملت المظلومية التاريخية على تمكينه من الوجود والفعل لكنه كلما تقدم اكتشف انه مرفوض وانه مقصي فبدأ عملية التنازل عودا إلى الدخول الفعلي في الدولة القائمة. وبدأ يفقد رصيد المظلوم ليواجه رصيد الظالم ويتحمل كلفته الانتخابية في أفق تغيير بالصندوق.
ويمكن القول أن هذه العودة تتجاوز مجرد القبول والرضا بالمختلف إلى سعي حثيث لتذويب المختلف وإدماجه طبقا لشروط المركز الدامج لا الهامش المتميز بخطاب وممارسة مسنودة إلى شرعية غير شرعية الدولة. يمكن أيضا المقارنة في هذه اللحظة بمصير اليسار الذي سبقه وأعلن مشروعية مختلفة فعادت به الدولة إلى حضنها مذوبة كل احتمال الاختلاف فاندمج من موقع الفاعل الثانوي ضمن سياق لا يقبل باختلافه. فاحتفظ فقط بصفة اليسار دون موقعه وفعله وأطروحته الفكرية والسياسية و الاجتماعية.
المشهد الآن لا يحتوي يسارا اجتماعيا لذلك يمكن القول أن الدولة قد ذوبته في ليبراليتها تاركة له هامش الثقافة غير الفعالة في واقع ليبرالي تابع. وهو فيما يبدو المصير الذي ينتظر حزب النهضة اذا واصل العمل على الاندماج في الموجود دون تغييره جذريا. إنه التناقض المنتظر بين الدولة والثورة أو بين المؤسس و التغيير. والحزب يعيش الآن لحظة مصيرية أما أن يتمسك بأطروحة التغيير الجذري على خلفيته الاسلامية أو أن يندمج متخليا عن كل ميزة ليصير مجرد رقم سياسي في سياق لا يحكمه. ويتجاوز الأمر اللحظة التونسية ليطرح سؤالا عميقا حول مشروع الإسلام السياسي برمته ؟
الاقتصاد التابع مفرمة طموحات التغيير الجذري
ربما غاب ولا يزال عن انصار كل تغيير (يسارا ويمينا) تقدير الإكراهات التي تعرضت لها الدولة الوطنية (ما بعد الكولونيالية) لتخضع وتندمج في سياق اقتصاد تابع وملحق بسوق أوسع و أشد فتكا بالسيادة الوطنية من الاستعمار المباشر وربما لم يتم التقدير الفعال للانحراف من مشروع اشتراكية الستينات الى ليبرالية السبعينيات والدخول في سياق اقتصاد المناولة باعتباره الممكن الوحيد. ورغم ادبيات كثيرة في الغرض إلا أن هذا النموذج المستلحق ظل يعيش من ضعفه و يجدد قدراته ضم نفس السياق وكانت الثورة رغبة عارمة في كسره رغم غياب تنظيرات مؤسسة لكن ما يبدو الآن في الأفق هو أن النظام(دون تفصيل المؤسسات الفاعلة فيه) يجدد قدراته على الالتفاف على مطلب تغيير اجتماعي جذري ويبدع في أشكال تسويق نفسه كخادم دائم في الهامش.لكن فهم الاكراهات ليس مبررا للاستلام الدائم لها.
من هذا الزاوية لا يمكن لحزب النهضة (أو لغيره مهما كانت وطنيته) أن يفلت من هذا الطوق. ولن يكون للخلفية الإسلامية للحزب مثلما ما لم يكن للخلفية اليسارية أو العروبية أي وزن في مواجهة هذا السياق لذلك فإن مناورات التوافق الوطني تعمل كمغناطيس استعادة لكل طموح استقلال فعال من النموذج التابع. و تجليات ذلك لا تبدو في إعادة انتاج خطاب إسلامي غير مجد بل في محاولات البحث عن سند من رأس المال التابع للاستقواء به على إكراهات واقع اقتصادي منهار. أي أن الحزب ينتهي إلى العمل مع الفاعلين الاقتصاديين الماسكين بعملية الاستلحاق معتقدا انه يجذبهم إلى مشروع ثورة ولكنه في المحصلة يسلم لهم قياده ليعيدوه إلى الحظيرة . فينتصرون وينهزم وتبدأ الدعوات من داخله المهزوم ومن خارجه المستنزف لاختلافه إلى التشكيك في احتمال وجود مشروع اجتماعي داخل فكر الأحزاب الإسلامية التي تقع في مصيدة المراجعة من موقع ضعيف. ولقد تم تفريغ اليسار من كل مشروع اجتماعي قام عليه فكره و أخزي ذات يوم بتفكيك الحد الأدنى من الدولة الاجتماعية كثمن للتمتع بالبقاء داخل مشروع الدولة التي لم تعد وطنية بل عصابة لصوص. حتى أنه لما قامت الثورة انحاز ضدها وأفرغها بواسطة النقابة من كل مطالبها الاجتماعية. لقد صار يسارا مكلفا بمهمة اخضاع المجتمع لليبرالية واللحظة الآن هي وضع الحزب الاسلامي في نفس القاطرة المانحة للرضا والقبول.
أفق تجديد الأطروحة الإسلامية السياسية
المراجعات السائدة في فكر الإسلام السياسي في تونس (منذ جماعة 15 -21) إلى نقد تجربة السودان (الترابي) إلى القراءة المنبهرة بتجربة الإسلام التركي(الاردوغانية) لم تتجه في تقديري إلى ابراز العمق الاجتماعي للأطروحة الدينية المؤسسة. إذ يتم التركيز على نموذج دولة المدينة الذي يعلي من شأن التعايش المدني بين المختلفين. ويتم التوفيق بين فكرة الشورى والديمقراطية لتجاوز مقولات الحاكمية لكن يظل التفكير غائبا أو ثانويا في النظر إلى أن الإسلام مبحث عدالة اجتماعية فعال وأن النص منتصر للفقراء و يقدم العدل على غيره ويجعله أساس قيام العمران أي الدولة. يمكن تأصيل التوافق السياسي والجنوح للسلم بحفظ الانفس والأموال لكن في هذا التأصيل نفسه مقتل للعدل فحفظ الأموال (تحريم التأميم) ينتهي بالحفاظ على النظام صاحب الأموال وحفظ أنفس الفقراء في فقرهم الدائم والهيكلي. وقد ينتهي الأمر بالترويج للإحسان (عبر الجمعيات المدنية ورفض الدعم الاجتماعي) بديلا لقوة فعل الدولة الاجتماعية كما انتهى إليها مشروع الدولة الغربية بعد الحرب العالمية الثانية(الكينزية في صيغها المحدثة خاصة في الستينات المجيدة).
إن المراجعات الفكرية الجارية هنا هي جوهر العودة إلى النظام الليبرالي برغبة الاندماج فيه أي أن المرور(الدخول) يتم بالتخلي عن الاجتماعي المطلوب ثوريا وتاريخيا وسيكون من خسارة الحبر والورق الحديث عن تطوير مشروع إسلام سياسي لا يأخذ هذا الجانب بعين الاعتبار. يدفع الحزب الاسلامي الآن إلى هذه المراجعة فاقدا لقدراته على الحكم بالتدريج ومنعزلا بسرعة الضوء عن قواعده المفقرة نفسها.
ويمكن للعلوم الاجتماعية في مرحلة لاحقة وهي تتناول تطور الحركات الإسلامية أن تستعيد مقولات نهاية التاريخ و تستسلم للقول بنهايته الحتمية في الليبرالية. لقد تم تفريغ اليسار من كل مقولاته و يجري الآن تفريغ الخطاب الإسلامي (في الحالة التونسية) من عمقه الاجتماعي نظير التعقل والعودة ضمن أطفال بورقيبة الكونيين أطفال الليبرالية التي تعيش دون الحرية السياسية(حيث ستظل الحرية غولا يهدد كل استكانة وهي القلعة القادمة أمام مدافع الإدماج العقلاني التابع في السوق المعلوم ).
هل مسار الثورة مسؤولية الاسلاميين وحدهم؟
يمكن لحزب النهضة وأنصاره أن يتذرعوا بالحصار القاتل الذي فرض تجربتهم من الداخل قبل الخارج ويمكنهم تعديد وقائع الغدر بهم من شركائهم قبل خصومهم وأعدائهم. فلم تكن الأرض أمامهم ممهدة بالمرة ولكن هذا يظل حجة لهم وعليهم في ذات الوقت.
حجة لهم لأن كثيرا من الأطراف التي تزعم العمل الوطني وقفت ضد الثورة و نظرت إلى الأمر على أنه غنيمة يجب الغرف منها ولا يمكن السماح للإسلاميين وحدهم بتناول الحلوى. لقد كان صراعهم مع الإسلاميين على الإفتكاك من بين أيديهم وليس بدفعهم إلى بلورة المشروع الوطني الشامل للجميع كما سمحت بذلك ثورة غير مؤطرة حزبيا.
وهو حجة عليهم لأن الناخب الذي مال إليهم كان راغبا في تغيير جذري وكان مستعدا في سياق ثورة أن يتحمل جزء من المسؤولية لكنهم آثروا السلام مع أعداء الثورة وفاوضوا في لحظة الحسم فوقعوا في شر التكتيك القصير النفس.و انتهوا إلى الوقوع في فخ النظام الذي عاد يراودهم على وجودهم نفسه وليس على تحقيق أهداف الثورة. وهنا وبقطع النظر عن كل مراجعة فكرية سيتم التخلي عن الثقة في المظلومية القديمة وعن الكفر بطهارة سياسية معلنة وغير واقعية.
يمكن لأنصار الحزب أن يدينوا من موقع الضحية الغدر والتخذيل الذي سلط عليهم من الجميع بما فيهم الحلفاء الثوريين ويمكنهم أن يتحججوا بالضغط الخارجي وهو حقيقة لا مراء فيها ولا ينكرها إلا جاحد.وهو ضغط متربص بكل الوطنيين مهما كان لونهم. لكن ذلك لا يبرر الذهاب إلى التحالف مع رأس المال الفاسد العمود الفقري للنظام الليبرالي التابع ومحاولة مهادنته أو الاستفادة منه.
كانت المحاسبة ممكنة وكان الحسم بالعودة إلى الشارع ممكنا وكانت مصارحة الناس بما يجري خلف الأبواب وفضح المتآمرين على الدولة ممكنا أما الآن فلم يبق للحزب الاسلامي إلا أسهل الخيارات العيش كحزب صغير على طريقة محفوظ نحناح الجزائري.
الخيار الآخر الذي يستدعي بناء الثقة مع الشارع من جديد هو البدء بنقد ذاتي بصوت عال يترجم بالاقتراب من القوى الثورية مهما كان حجمها لا لتوليفها داخل الحزب المهادن(كرصيد انتخابي مقابل غنائم ما بعد انتخابية) بل لبناء جبهة ثورية تستأنف المشروع الثوري على قاعدة الاستقلال السياسي وبناء الدولة الاجتماعية وتأصيلا يمكن الاستئناس ببراغماتية معاوية في اليومي لكن دون نسيان طوبى علي في الاستراتيجي وتحمل كلفتها الطويلة الأمد وتلك هي المراجعة الحقيقة للأطروحة الاسلامية السياسية.