قائد الانقلاب العسكري في مصر، الرئيس الأوحد القادم، والحاكم بأمره، عبد الفتاح السيسي، الذي بات مشيرا بأمره لا شريك له، نظرا لإنجازاته الفذة في تقسيم الشعب المصري إلى "سيسيين" و"إرهابيين"، وصل حدا من جنون العظمة "برانويا" لا مثيل له، فالقائد الذي يجسد "الشخصية التسلطية" بامتياز، لم يكتف باختزال مصر في شخصه ممثلا لـ"الأمة المصرية" كما تظهر أجهزة دولته "التوليتارية" وفي مقدمتها الإعلامية التي تحتقر الشعب وتدمجه في شعار "مصر كلّها السيسي"، فالدولة السيسيّة الموعودة في مصر تجمع مزيجا مركبا من الفاشيّة والتسلطية، فالسيسي يأمر بالقتل ويرتكب المجازر ويمارس القمع باسم الشعب.
في التسريب الأخير الذي بثته قناة الجزيرة الإثنين الماضي، يتحدث السيسي عن مستقبل حكمه لمصر من منظور "سادي"، فهو يتفاخر بأنه سيكون مزيجا مركبا من التسلط على الشعب المصري: "الناس فاكرة إن أنا راجل سوفت (ناعم) السيسي ده عذاب ومعاناة".
السيسي الذي تبنى استراتيجية "الحرب على الإرهاب" وفرض "حالة الاستثناء" لتدبير الانقلاب على ثورة 25 يناير 2011 التي جاءت بالإسلاميين إلى الحكم وفق آليات ديمقراطية تمثل "إرادة الشعب" بانتخابات حرة نزيهة من البرلمان إلى الرئاسة مرورا بالدستور، كان يعي طبيعة "الثورة" الحقيقية التي تستهدف في وجدان الشعب المصري التخلص من أبنية الدولة الاستبدادية العميقة وآلتها القمعية العسكرية البوليسية الأمنية، وإكسسواراتها الإيديولوجية السياسية والقانونية والإعلامية.
ولذلك فقد تفتق عقل "الثورة المضادة" بقيادة السيسي الذي جمع الفرقاء الخاسرين محليا وإقليميا ودوليا عن صناعة "ثورة" ملونة تستند إلى دكتاتورية "شرعية الحشود" في 30 حزيران/ يونيو 2013، المسندة من قبل أجهزة الدولة القمعية والإيديولوجية العميقة تؤسس لعودة الدولة العسكرية الأمنية في 3 تموز/ يوليو بحجة إنقاذ الثورة والديمقراطية التي استولت عليها "الفاشية" الإسلامية.
في عهد السيسي؛ "العسكر" و"الإرهاب" و"الثورة" هي المفردات الاصطلاحية الأكثر تداولا في مصر، إلى جانب "الانقلاب" الذي بات مصطلحا إشكاليا في عرف "الثورة المضادة"، فالقاموس السياسي الجديد للانقلابيين.. لا يعترف بالتمييز الفارق بين تحرك شعبي واسع من خارج النظام بهدف تغيير نظام الحكم وهو الثورة، وبين تحرك قوى من داخل النظام نفسه ضد السلطة الحاكمة وغالبا ما تكون عسكرية وأمنية وبوسائل غير دستورية وهو الانقلاب، والمصطلح الأخير بات محظورا في مصر الجديدة من التداول والاستعمال، ويعاقب من يجرؤ على تناوله بالإقصاء والحرمان.
فعملية الخلط المفاهيمي والتلاعب المصطلحي لوصف "الحدث" تكشف عن رهانات المؤسسة العسكرية للسيطرة والهيمنة وفق استراتيجيات احتكار العنف والتسمية، فقد تلاعبت بكافة الأطراف المعارضة لحكم "الإخوان" وفي مقدمتها القوى الليبرالية ممثلة بجبهة الإنقاذ، والحركات اليسارية ممثلة بحركة 6 إبريل، والإسلامية ممثلة بمؤسسة الأزهر وحزب النور السلفي ومصر القوية المنشق عن الإخوان، وحركة تمرد شعبية مختلطة، ونادي قضاة مصر، والكنيسة القبطية.
خطة الانقلاب العسكري بقيادة السيسي كانت واضحة منذ البداية، وبتنسيق مع فلول الحزب الوطني المباركي، وبإسناد الإعلام الخاص والمال الخليجي بالتخلص من التيار الإسلامي وممثله الأبرز جماعة الإخوان المسلمين التي باتت "إرهابية" وذراعه السياسي حزب الحرية والعدالة، وحزب البناء والتنمية التابع للجماعة الإسلامية، والأحزاب السلفية كحزب الفضيلة والأصالة والدعوة السلفية، والأحزاب الإسلامية المدنية كحزب الوسط والحضارة، وقد كشفت تصريحات قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي عن حرف طبيعة الصراع في مصر من الحيز "السياسي" إلى الحيز "الهوياتي" للدخول في أفق الحيز "البيوسياسي"، فالرئيس المنتخب مرسي بحسب السيسي لم يكن يمثل مصر "الشعب" وإنما الإسلاميين "الإرهابيين" ويسعى لإقامة "خلافة إسلامية" لا تعترف بحدود الدولة القومية، بينما الجيش مؤسسة وطنية تعمل على حراسة الهوية القومية العلمانية للدولة.
وبهذا فإن السيسي الذي يتوجه بخطابه للغرب المسكون بهواجس "الإسلام فوبيا" يؤسس لسياسات "الهوية" بدلا من "الاعتراف"، وهي وصفة مضمونة لنشوب الحروب الأهلية وعودة الدولة العسكرية البوليسية، فالهويات ليست جوهرانية نمطية تتسم بالوحدانية وإنما تقوم على التعددية والحركية؛ فالتناقض المزعوم بين الانتماء للإسلام والقومية يندرج في إطار لعبة القوة لترسيخ من يمتلكها وهم العسكر، إلا أن جوهر الموضوع هو تلاعب المؤسسة العسكرية بكافة الأطراف السياسية الإسلامية المدجنة، والعلمانية الهجينة؛ فمصر تحولت منذ زمن بعيد إلى "مجتمع يحكمه العسكر" كما برهن المفكر المصري الراحل أنور عبد الملك، فقد حدث في مصر انقلاب عسكري في يوليو 1952، وكان أحد الأسباب التي ساقها الضباط الأحرار للانقلاب هو هزيمة الجيش المصري في فلسطين، ولذلك كان الصراع العربي
الإسرائيلي هو أحد الهواجس الرئيسية للانقلاب، الذي أطلقوا عليه فيما بعد ثورة يوليو، وبسبب الانشغال في عملية تعبئة وحشد المجتمع لحرب التحرير المنتظرة سيطر العسكر على كافة مفاصل الدولة، ومع تراجع فرص المواجهة مع إسرائيل عقب اتفاقية "كامب ديفيد"، انخفض حجم المؤسسة العسكرية إلى الثلث، إلا أن اختفاء أو تراجع فرص الحروب الخارجية تزامن مع تصاعد الاحتقان والمواجهات الداخلية، وقد تكرّست النزعة العسكرتارية للنظام عقب مواجهات نظام يوليو مع الخارج، الأمر الذي أسفر عن تضخم المؤسسة العسكرية، حتي تجاوز حجمها مليون عسكري، في منتصف السبعينيات.
لقد سارت عملية تنحية القوات المسلحة عن المشاركة العلنية أو المباشرة في السياسة في عهد مبارك جنباً إلى جنب مع تغلغل كبار الضباط في جهاز الدولة، وبالتالي في الاقتصاد السياسي للبلاد، وبعد أن انحسرت "جمهورية الضباط" بحسب يزيد الصايغ إلى حدّ ما في عهد السادات، وخلال العقد الأول من حكم مبارك، نجد أنها تتوغل حالياً في القطاعين المدني والاقتصادي على نحوٍ أوسع بكثير، وهي تفعل ذلك لا على مستوى "المرتفعات المُسَيطِرة" وحسب، بل أيضاً على جميع المستويات.
خلال عهد نظام مبارك تصاعدت المواجهات الداخلية فتضخمت المؤسسة الأمنية، ليتجاوز حجمها المليون ونصف، فحروب مصر في عهد مبارك جميعها داخلية، وفي كل من هذه الحروب لجأ مبارك إلى نفس المؤسسة الأمنية، ممثلة بعقلها المدبر جهاز مباحث أمن الدولة، و مخالبها الفتاكة ممثلة بقوات الأمن المركزي. وبهذا تحولت مصر من دولة عسكرية إلى دولة بوليسية، حيث تبدلت حروب نظامها الحاكم في العهد الناصري من حروب مع إسرائيل، إلى حروب في العهد المباركي مع الشعب المصري.
لم يتبدل الأمر مع حكم الفريق السيسي بل اتجه إلى مزيد من الدولة البوليسية؛ فبحسب جوزيف مسعد في ظل المهرجانات الشعبية للعشق الفاشي للجيش، فإن من يحكم مصر الآن هو ذات الجيش الذي عين قادته مبارك والذي خدم نظام مبارك، ويرأسها قاضٍ عينه مبارك، وتتسلط عليها قوات الشرطة نفسها التي استخدمها مبارك. الناس أحرار في تسمية ذلك انقلابا أو لا، ولكن ما عليه مصر الآن هو مباركية دون مبارك.
مصر إذن لن تكون "ناعمة" وستصبح مكانا مثاليا لـ"العذاب والمعاناة"، بحسب ما يبشر به السيسي، إذ لم يغادر الجيش المصري الحكم يوما حتى يعود إليه، إلا أن القبضة هذه المرة أكثر دموية وأشد بطشا، فقد باتت "عبادة السيسي" طقسا احتفاليا شعبيا يستدعيه متى شاء لتفويضه بقتل كائنات مصرية لا تنطبق عليها مواصفات الشعب والمواطنة، فالتضحية هي الأداة السياسية المعهودة للإرهاب السياسي للدولة تاريخيا وفق طقوس "العنف المقدس" لخوض حروب السلامة العامة، التي تستند إلى خلق عدو خارجي متخيّل وعدو داخلي لا مرئي، هذا النوع من الحروب تحت ذريعة "الأمة المحاصرة"، يتطلب بولسة العسكر وعسكرة البوليس، وفي هذا السياق، يكفّ التأمين البوليسي عن التركيز على القبض على معتدين أفراد، ويركز بدلاً من ذلك على المراقبة الجغرافية المتميزة بالشمول، واحتلال أحياء بكاملها والانقضاض على مجمل سكانها، ويصبح التأمين البوليسي تنويعاً على الحرب المضادة للعصيان.