لم يتحمل المالكي مخيمات الاعتصام السلمي والتي دخلت عامها الثاني، فقام مبكرا بمحاولة جرّها إلى المواجهة المسلحة على طريقة بشار والقذافي، ومن المناسب أن نذّكر هنا بأهم هذه المحاولات:
1 - في الأيام الأولى تم استهداف المتظاهرين في مدينة الفلوجة، وراح ضحية هذا العدوان عدد من الشهداء والجرحى.
2 - عدوان آخر على ساحة الأحرار في مدينة الموصل وكانت النتيجة عدد من الضحايا بين شهيد وجريح.
3 - في ديالى كانت جريمة بشعة بحق مصلي الجمعة في مسجد سارية وقد راح ضحيتها العشرات من الشهداء والجرحى.
4 - أما الجريمة الأبشع فقد كانت (مجزرة الحويجة) في كركوك حيث تم اقتحام ساحة الاعتصام بمن فيها فسقط أغلب المعتصمين بين شهيد وجريح وأحرقت مخيماتهم.
5 - تزامن كل هذا مع جرائم متفرقة ومتنوعة، منها عمليات الاغتيال المنظم لقادة الحراك كما حصل للشيخ قاسم المشهداني، أو اعتقالهم كما حصل للشيخ محمد الحمدون الناطق الرسمي باسم الحراك والشيخ منير العبيدي الناطق باسم حراك بغداد والشيخ قاسم الجوراني من ديالى والأخ خالد المفرجي من كركوك وغيرهم، وصدور مذكرات اعتقال كيدية بحق الرموز الشبابية الفاعلة آنذاك كالشيخ سعيد اللافي والشيخ قصي الزين والشيخ محمد خميس أبو ريشة، ثم محاولة الاعتداء على منزل أمير قبائل الدليم الشيخ على الحاتم.
في مقابل هذه الاستفزازات والاعتداءات، كان قادة الحراك يؤكدون النهج السلمي، وقد تعرضوا للحرج الشديد من بعض الشباب المتحمسين، وقد نقلت الفضائيات على الهواء المشادة التي حصلت بين خطباء المنصة في الرمادي وبين بعض الشباب الذين يهتفون (حربية، حربية) فيرد عليهم الخطباء(سلمية، سلمية) وقد انحاز الجمهور للسلمية وطرد هؤلاء الشباب من الساحة.
تسلسل الأحداث هذا ضروري لكل من يريد أن يقوّم الموقف بمنهجية وموضوعية.
أعلن المالكي من كربلاء أنه سينهي الاعتصامات بالقوة، وأفتى السنّةَ بعدم صحة صلاة الجمعة الموحدة في ساحاتهم، وأن الشعائر الدينية تمارس في المساجد فقط!! ونسي أنه يتحدث في كربلاء والشيعة يملؤون الساحات ويقطعون الطرقات بمناسبة أربعينية الحسين!
بعد هذا أوعز المالكي لقطعاته بالتحرك لملاحقة تنظيم (داعش) في صحراء الأنبار والتي تبعد عن ساحة الاعتصام أكثر من 300كم، وأهل الأنبار يراقبون ويرصدون كل شيء، حتى إذا استكملت قواته جاهزيتها تغير الهدف من (داعش) إلى مركز المحافظة (الرمادي) وتحديدا إلى قبيلة البوعلوان أهل النائب أحمد العلواني، ثم إلى قبيلة البو فراج المتعهدة باستضافة ساحة الاعتصام وحمايتها، وكانت المواجهة الأولى التي غيّرت مجرى الأحداث.
تذكروا هذه الأحداث جيدا لأن هناك آلة إعلامية تعمل على قلب هذه الحقائق ولتلصق بصمة الإرهاب على أهل الأنبار وعشائرهم، أو أن هناك تنظيمات تكفيرية مسلحة قد اختطفت قرار الأنبار، ولا شك أن هذا الإعلام هو جزء من أدوات المعركة التي تشنها حكومة المالكي لتشويه الثورة الأنبارية ومحاصرتها شعبيا وعربيا وعالميا.
إن أهل الأنبار لم يحملوا السلاح من أجل غاية سياسية، ولا ليفرضوا رؤيتهم على الحكومة، ولا للانتقام من طائفة أو حزب أو تيار، إنهم يدافعون عن أنفسهم وأهليهم ومساجدهم فقط، بوجه جيش متشكل من لون واحد ليس لهم فيه نصيب ويأتمر بإمرة طائفية قد صادرت رسالته ومهنيته، فلم يعد جيشا يدافع عن الأوطان مثل جيوش العالم بل أصبح أداة بيد رئيس الوزراء يصفي به منافسيه ويؤدب به مخالفيه.
ربما كان هناك من غرر بالمالكي للإيقاع به في ورطة الأنبار قبيل الانتخابات، خاصة بعد ظهور المنافسات الحادة داخل البيت الشيعي، وربما كانت عقده النفسية والتي لخّصها هو بنفسه حينما وصف صراعه مع أهل السنة بأنه يشبه الصراع الذي دار بين معسكر الحسين ومعسكر يزيد! هل يوجد في العالم رئيس حكومة يقسّم شعبه تحت لافتتين لا يمكن أن يلتقيا أبدا؟ وهو يعلم أنه كاذب، فلا أعرف في كل سنّة العراق شخصا واحدا اسمه يزيد لا قديما ولا حديثا، مع أنه اسم عربي شائع، بينما تجد اسم علي وحسن وحسين منتشر عند السنّة، فلماذا يسمي أهل السنة أولادهم بأسماء أعدائهم ولا يسمونهم بأسماء أوليائهم مع أن الحكم والقوة والكثرة لهم؟ هنا نتأكد أن ادعاءات المالكي ليست فكرة قابلة للنقاش وإنما هي مرض وداء يحتاج إلى علاج.
الأنبار محافظة كبيرة تقدر مساحتها بثلث مساحة العراق، ولها حدود واسعة مع السعودية والأردن وسوريا، وكل سكانها من أهل السنّة، ويغلب عليها الطابع العشائري المحافظ مع توجه ديني عام وواضح، كما أن الطبيعة الصحراوية قد منحتهم فرصة للتدريب على الخشونة والصبر وتحمل الصعاب، ولا زالت قيم النخوة والمروءة والثأر والإيثار تحتل في نفوسهم وأصول تربيتهم المساحة الأوسع والدافع الأقوى للكثير من سلوكياتهم وتصرفاتهم.
اصطدم المارينز بهؤلاء الرجال، وتجرعوا على أيديهم كؤوسا من المرار والذل، ويذكر العالم كيف خاض الأمريكيون معركتين كبيرتين مع أهالي الفلوجة وهي مجرد مدينة من مدن محافظة الأنبار، ولم يتمكنوا من حسم المعركة إلا باستخدام الأسلحة المحرمة دوليا كالفسفور الأبيض وقنابل النابالم!
والناس هنا يتساءلون ما الذي تغير عند أهل الأنبار حتى صبروا كل هذا الصبر على ظلم الحكومة وتجاوزاتها المستمرة؟
حقيقة أن أهل الأنبار ومثلهم كل المحافظات السنية يتحركون في الغالب وفق منظومتهم القيمة وليس وفق برامج أو مشاريع سياسية ومصلحية، وحينما كان القبول بالاحتلال الأجنبي عارا فاضحا لا يمكن السكوت عليه كانت المقاومة المبكرة، أما مجيء حكومة طائفية ظالمة لكنها عراقية ومدعومة من مكون عراقي بمرجعياته الدينية والعشائرية والسياسية، فإن منظومة القيم تضطرب هنا، بين رفض الذل ورفض الانقسام أو التقسيم، ولذلك تجد السنّة يتحملون الكثير من الحيف والظلم ولا يصرحون بهوية ظالمهم، خوفا من التهمة الطائفية والتقسيمية! وكان الساسة والمثقفون السنة يقولون كلاما هم غير مقتنعين به ، فمثلا: يقولون لك: المالكي يضرب السنة وساحات الاعتصام لأغراض انتخابية، وهذا يعني أن حاضنته الشعبية ترضى بهذا ولذلك يصعد رصيده عندهم، ثم يقال لك: ليس عندنا مشكلة طائفية وإنما مشكلتنا مع المالكي والأحزاب السياسية المتنافسة!
ظل هذا الخطاب المرتبك معوقا لأي حل ممكن، لكن بمرور الوقت، وانتشار ثقافة الحفاظ على الهوية التي تبناها الحراك بقوة، مع تعنت المالكي المستمر وقتله لرموزهم واعتقال نسائهم دون نكير من مرجع ولا شيخ قبيلة، أوصل الأمور إلى حالة من الغليان والقناعة أن لغة الاستجداء وانتظار صحوة الضمير الإنساني أو الوطني لم تعد تغني شيئا، ولم تكن الأمور تحتاج إلى أكثر من شرارة واحدة.
هنا جاء دور المالكي بإشعال هذه الشرارة، وليس المهم معرفة دوافعه الذاتية أو معرفة الجهات التي تقف وراءه، الآن استعر اللهيب وتبين للمالكي أن استعراض قواته في المناسبات وساحات الاحتفال يختلف تماما عن أدائها في ساحات القتال والنزال، ولا يستطيع أحد أن يتكهن بمآلات الأمور، لكن سنّة العراق لم يعد لديهم ما يخسرونه، أما المالكي فإنه سيخسر كل شيء.
(العرب القطرية 7 كانون الثاني/يناير 2014)