تصاعدت وتيرة الأحداث في جمهورية أفريقيا الوسطى بصورة كبيرة خلال الأيام القليلة الماضية ، حيث شهدت البلاد مواجهات بين قوات ميليشيات الدفاع الذاتي المسيحية المعروفة باسم "مناهضو السواطير"،وهي تضم جنود وأفراد تابعين للرئيس المخلوع فرانسو بوزيزيه، وقوات تحالف "سيلكا" الداعمة للرئيس الحالي محمد ضحية المعروف باسم ميشال جوتوديا.
ولعل خطورة هذه الأوضاع أنها بدأت تأخذ بعدا طائفيا دينيا على اعتبار أن قوات الدفاع المتمردة حاليا هي مسيحية، في حين أن معظم أفراد تحالف "سيلكا" الذي قام الرئيس الحالي بحله في أيلول/ سبتمبر الماضي من المسلمين.
هذا التصاعد دفع مجلس الأمن إلى استصدار قرار قبل عدة أيام يتيح للقوات الفرنسية مضاعفة عددها، وتنسيق الجهود مع القوات الأفريقية الموجودة هناك منذ عام 2008، كما فرض المجلس حظر السلاح على الأطراف المتحاربة.
وبالفعل بدأت
فرنسا في مضاعفة عدد قواتها من 600 جندي الى 1200 جندي ، كما أعلنت باريس أن مدة العملية ستتراوح بين أربعة وستة أشهر، وأن الهدف منها استعادة الأمن في العاصمة بانجي والمدن المحيطة بها، تمهيدا لتوصيل المساعدات الإنسانية إلى مستحقيها من ناحية، وتهيئة الأجواء للإنتخابات المقررة العام القادم .
طبيعة الصراع
اختلفت الروايات بخصوص طبيعة الصراع، فهناك فريق يرى بأن الصراع طائفي بين الأغلبية المسيحية، والأقلية المسلمة التي لا تشكل سوى 15% من حجم السكان، لاسيما بعد نجاح حركة "سيلكا" في الانقلاب على بوزيزي في مارس 2013.
وهو ما ترتب عليه ظهور ميليشيات الدفاع المدني المسيحية من العناصر التابعة للرئيس المخلوع، ويدلل هؤلاء بتعرض الكثير من المواطنين المسلمين الى أعمال ذبح بالسواطير وغيرها من قبل الميليشيات المسلحة التي تزعم أن هذه التصرفات تأتي كرد فعل على ممارسات السيلكا، كما يدللون أيضا بوجود حالة من الحقد بين الأغلبية المسيحية الفقيرة التي تعمل في مجال الزراعة، والأقلية المسلمة الغنية التي تعمل في مجال الرعي والتجارة، خاصة تجارة الماشية.
هذا البعد الديني قد يكون هاما، لكنه ليس الأساس في الصراع، لا سيما وأن هذه الممارسات ليست ممنهجة، كما أن السلطة الحاكمة لم تكن تدعمها، فالبلاد حكمتها أنظمة مسيحية منذ الاستقلال عن فرنسا أوائل ستينات القرن الماضي، ولم يحكمها أغلبية مسلمة إلّا منذ آذار/ مارس الماضي، ويلاحظ أن ممارسات هذه الأنظمة المتعاقبة تشير إلى أن الصراع كان سياسيا واقتصاديا بالأساس، حيث تمتلك البلاد موارد طبيعية هائلة، فهى تعد مركزا تجارياً عالميا للألماس، وتمثل صادرات الألماس نحو 60% من الدخل القومي لهذا البلد، وتحتل بهذه النسبة موقع الريادة إفريقيا في هذه التجارة".
لذا فإن هذه الأنظمة المتعاقبة كانت حريصة على الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها من ناحية، والحفاظ على مصالحها الاقتصادية عبر نهب موارد البلاد من خلال صفقات مع الشركات الأجنبية من ناحية، ومع بعض رجال الأعمال من ناحية أخرى.
ففي عهد بوزيزي برزت طبقة جديدة من رجال الأعمال درج الناس على تسمية أصحابها بـ"الألماسيين" أو "الأثرياء الجدد"، وحدث تزاوج بين رجال السلطة ورجال الأعمال.
وكان الشعب هو الضحية
وقد مارست هذه الأنظمة المتعاقبة عمليات القمع ضد المسلمين والمسيحين على حد سواء، بل أن البلاد شهدت خمسة انقلابات كان أبطالها شخصيات مسيحية باستثناء الانقلاب الأخير.
ومما يدلل على أن الصراع سياسي واقتصادي -وليس ديني بالأساس -عدة أمور :أن فرنسا الدولة المستعمرة الأم هي التي دعمت وصول "السيلكا" إلى الحكم في آذار/ مارس الماضي، بعدما رفضت تقديم العون إلى حليفها السابق بوزيزي، بل وأصدرت تعليماتها إلى دول الجوار خاصة
تشاد بعدم التدخل لمساندته، علما بأن تشاد كانت احدي القوى الداعمة لوصوله للحكم عام 2003، كما أنها تدخلت عام 2010 لمنع الانقلاب ضده، وبالتالي قد يكون من غير المنطقي أن تقوم باريس بدعم حركات إسلامية أصولية تعادي المصالح الفرنسية.
بل إن موقفها الداعم لدوجوتا يرجع إلى اعتبارات سياسية واقتصادية ،لا سيما بعدما أقدم بوزيزي على منح عقود للتنقيب على النفط لشركات صينية وجنوب أفريقية على حساب الشركات الفرنسية.
لذا كان أول تصريح لدوجوتا بعد وصوله للحكم أن حكومته ستراجع عقود التعدين والنفط التي وقعت في عهد الحكومة السابقة.
توجهات علمانية للرئيس المسلم
التوجهات العلمانية للرئيس المسلم دوجوتا.. والذي أعلن بعد توليه الحكم أن "إفريقيا الوسطى دولة علمانية، يعيش المسيحيون والمسلمون في دولة علمانية، صحيح أنني مسلم لكن من واجبي خدمة وطني، وخدمة جميع مواطني إفريقيا الوسطى".
التداخل والتسامح بين أبناء الديانات في البلاد، بل والتداخل بين الأسر في هذا الشأن، حيث يمكن أن تضم الأسر بروتستانت وكاثوليك ومسلمين في آن واحد ".
إن سلوكيات جنود "السيلكا" لا تشير إلى التزامهم الديني، حيث أنهم كانوا يقومون بأعمال قتل وتعذيب، فضلا عن الاغتصاب واحتساء الخمور، والمطالب السياسية للسيلكا لم تكن تتضمن أي إشارة إلى البعد الديني.
حيث كان جل تركيرزهم الحصول على مكاسب اقتصادية وسياسية بعد حالة التهميش التي عانتها البلاد في ظل حكم بوزيزي، بل إن تمردهم عليه كان نتيجة لعدم التزامه بالاتفاقيات الموقعة في هذا الشأن، والتي كانت تنص على تشكيل حكومة وطنية تضم المعارضة، لحين اجراء الانتخابات في البلاد.
دوافع التدخل الفرنسي تعد إفريقيا الوسطى إحدى مناطق النفوذ الفرنسي، وكان لباريس حتى وقت قريب قاعدة عسكرية بها، لكنها قامت بغلقها ترشيدا للنفقات، والاكتفاء بوجود 250 جندي لتوفير الحماية للجالية الفرنسية هناك، وبالرغم من هذا الانسحاب، إلّا أن باريس هي صاحبة اليد الطولى في مجريات الوضع الداخلي في البلاد. ولا يقع أي انقلاب إلا بدعم منها، فهي التي ساعدت بوزيزي على الوصول للحكم –عبر تشاد- عام 2003، وهي التي أصدرت أوامرها لانجامينا، وكذلك ياوندي "الكاميرون" بعدم التدخل لمساندته في مواجة "السيلكا" في آذار/ مارس الماضي،معتبرة ما يحدث في البلاد شأن داخلي.
وقد تزامن ذلك مع تدخل فرنسا العسكري السريع في مالي من أجل دعم الحكومة في مواجهة تمرد الطوارق ذات الهوية الاسلامية بعدما باتوا يسيطرون على شمال البلاد. وهو نفس ما حدث في تدخلها في ساحل العاج للإطاحة بحليفها السابق جباجبو لصالح الحسن واترا.
اذن ما يحكم باريس هو مدى محافظة النظم على المصالح الفرنسية من ناحية ، ومدى استمرار التبعية السياسية لها من ناحية ثانية.
لذا فإن التدخل الفرنسي في أفريقيا الوسطى هذه المرة ليس بهدف الإطاحة بنظام الرئيس الحالي دوجوتا الذي قام هو ذاته بحل تحالف السيلكا الذي كان يضم ثلاثة مجموعات مسلحة في أيلول/ سبتمبر الماضي، وإنما التدخل هذه المرة لتحقيق عدة أهداف:
تحقيق الاستقرار والهدوء في البلاد، خاصة العاصمة، تمهيدا لوصول المساعدات الانساني، والدفع باتجاه تنفيذ اتفاق المرحلة الانتقالية بين الرئيس وقوى المعارضة، والتي يفترض أن تنتهي العام القادم باجراء الانتخابات في البلاد، لذا وجدنا باريس تؤكد على أن مهام قواتها لن تزيد عن ستة أشهر، تقوم بعدها باعادة زمام الأمور إلى القوات الأفريقية الموجودة هناك منذ عام 2008، لكن دورها كان محدودا في منع الصراع، لحماية مصالح الشركات الفرنسية العاملة هناك، حيث تعمل مجموعة "أريفا" الفرنسية في مجال الطاقة النووية من خلال استخراج اليورانيوم في منطقة باكوما،وهي أكبر المصالح التجارية لفرنسا في مستعمرتها السابقة".
مواجهة النفوذ الاقتصادي الصيني والجنوب أفريقي
الخوف من التداعيات الإقليمية للصراع على دول الجوار الخاضعة للهيمنة الفرنسية خاصة تشاد والكاميرون، ومن هنا يمكن فهم أسباب التأييد الدولي لهذا التدخل. فمجلس الأمن أصدر قرارا وفقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة يخوّل القوات الأفريقية والفرنسية الحق في استخدام القوة لاستعادة الأمن وتحقيق السلام، كما فرض حظر سلاح على الفرقاء المحليين، وفي المقابل أعلنت واشنطن عزمها تقديم مساعدات تقدر بأربعين مليون دولار في صورة معدات وتدريب ودعم لوجيستي للقوات الأفريقية المتمركزة هناك.
وفي النهاية هناك مجموعة من التساؤلات قد تحتاج لمزيد من البحث بشأنها، لعل أبرزها ما يلي:
هل سيكون الطريق مفروشا بالورود أمام القوات الفرنسية على غرار ما حدث في مالي، وكما حدث للقوات الدولية في جمهورية الكونجو الديمقراطية المجاورة، أم ستواجه هذه القوات صعوبات لاسيما في ظل انتشار الغابات بصورة كبيرة في البلاد مقارنة بمالي، مما قد يؤدي إلى بروز ظاهرة حرب العصابات.
هل بالفعل سيكون تدخل باريس حياديا، بحيث يتم الإبقاء على الرئيس الحالي لحين انتهاء المرحلة الانتقالية باجراء الانتخابات العام القادم، أم هل ستعمل على الاطاحة به ارضاء للمعارضة على غرار ما قامت به مع سلفههل ستميل باريس لصالح الجماعات المسيحية المعارضة على حساب "السيلكا" بسبب ظاهرة الإسلاموفوبيا ، أم أنها توصف الصراع بأنه سياسي واقتصادي بالأساس.