كتب

التجارب الدستورية لدول الخليج العربي.. قطر نموذجا .. قراءة في كتاب

أثبت تقييم المؤلف للتجربة الدستورية القطرية وجود اختلافات بين بلدان الخليج، وأنّ تجاربها الدستورية مرتبطة بسياقات كل بلد.
الكتاب: التجربة الدستورية في قطر
الكاتب: خالد بن غانم العلي
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

على الرغم من أن دول الخليج الستة (السعودية، الإمارات، الكويت، البحرين، قطر، وعمان) تتبع نماذج حكم مميزة، لكن هناك بعض السمات المشتركة التي تميز تجارب الحكم فيها.

فتاريخيّا، أغلب دول الخليج تحكمها أنظمة ملكية، حيث تستند شرعية الحكم إلى النظام القبلي والديني، ويُحتفظ بالسلطة التنفيذية في يد العائلة الحاكمة. وتختلف درجات التركيز على السلطات بين هذه الدول، حيث تعد المملكة العربية السعودية من أبرز الملكيات المطلقة في المنطقة، إذ يتمتع الملك بسلطات واسعة تشمل التشريع والتنفيذ، وتستند المملكة إلى الشريعة الإسلامية كمصدر أساسي للتشريع، أما الإمارات العربية المتحدة فتتبع نموذجا فدراليّا، حيث تتكون من سبع إمارات، لكل منها حاكمها. رئيس الدولة يكون عادة حاكم إمارة أبوظبي. ورغم وجود مجلس وطني، إلا أن السلطة التنفيذية تظل تحت سيطرة العائلة الحاكمة. وفي قطر التي تعرف نظام حكم ملكي يتمتع فيه الأمير بسلطات واسعة، ولكن هناك توجهات نحو تعزيز دور المجالس الاستشارية.

وقد تبنت بعض دول الخليج دساتير رسمية وأنظمة برلمانية أو استشارية، تعطي مجالس الشعب أو الأعيان صلاحيات محدودة، مثل التشريع أو الرقابة، لكن السلطة النهائية عادة ما تبقى في يد العائلة الحاكمة:

وتعد الكويت من أكثر دول الخليج تقدما من حيث الحكم البرلماني. يوجد فيها برلمان منتخب (مجلس الأمة) يتمتع بسلطات تشريعية ورقابية حقيقية. إلا أن الأمير يظل يتمتع بسلطات مهمة؛ مثل حل البرلمان وإقالة الوزراء، وللبحرين نظام ملكي دستوري مع برلمان بغرفتين، واحدة منتخبة وأخرى معينة. رغم ذلك، تبقى السلطة في يد العائلة الحاكمة إلى حدّ كبير.

أما سلطنة عمان، فيتمتع السلطان بسلطات تنفيذية وتشريعية، لكن تم إنشاء مجلس عُمان الذي يضم مجلس شورى منتخبا ومجلس دولة معينا، وهو يساهم في صياغة القوانين.

وقد شهدت تجارب الحكم في الخليج تغييرات كبيرة في العقود الأخيرة، نتيجة لتحديات داخلية وخارجية، واستطاعت هذه الأنظمة الحفاظ على استقرارها إلى حدّ كبير، مستفيدة من ثروات النفط والتكامل مع القوى الدولية.

ضمن محاولات فهم طبيعة أنظمة الحكم في دول الخليج، وفهم آليات تطورها وعلاقة ذلك بالتحديات الإقليمية والدولية، صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الباحث والمؤرخ القطري، خالد بن غانم العلي، التجربة الدستورية في قطر، الذي يتناول بالدرس والتحليل مسار دولة قطر نحو الدستور.

"عربي21"، تنشر العرض الذي قدمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، لكتاب: "التجربة الدستورية في قطر"، وهو بقدر ما يسلط الضوء على أهم المحطات الدستورية ومعالمها الرئيسية في قطر، فإنه يلقي الضوء على التجربتين الكويتية والبحرينية، بالنظر إلى سبق البلدين في المجال الدستوري.

قطر لم تتأخر فعليّا عن التجربتين الكويتية والبحرينية، بل جاءت تجربتها متدرجة وموائمة لمستوى الوعي الجمعي بين السلطة والمجتمع، حتّى إنّها كانت متقدمة في التطبيق العلمي للنصوص الدستورية؛ فكان لها السبق مثلا في منح المرأة حق الانتخاب والترشح عام 1998. ويستنتج المؤلف أهمية فهم العدة العقلية لكل جيل في قطر، لفهم كيفية حدوث التطورات السياسية والدستورية كما حدثت بالفعل.
تقفّى هذا الكتاب، الذي جاء في 156 صفحة من القطع الوسط، سيرورة التجربة الدستورية إستوغرافيًا، لاستعراض تاريخ راهن ما زالت ملامحه تتكشّف.

فبأدوات المؤرّخ، يتناول المؤلف المسألة الدستورية باستعمالِ منهجَين، الأول، الأزمنة الثلاثة عند المؤرخ الفرنسي فيرنان بروديل، وهي: الزمن الثابت المتمثّل في الجغرافيا، والزمن شبه الثابت المتعلّق بالبنى الثقافية والاجتماعية، والزمن المتغيّر المرتبط بالأحداث السياسية، والثاني، التاريخ الاجتماعي والثقافي، من خلال دراسة الحالة عند لوسيان فيفر، مستعينا بأدوات منهج البحث التاريخي التحليلي المقارن للإلمام بالسياقات المتعددة، ولا سيما الكويت والبحرين، وقياس التجربة القطرية عليهما، وتميّزها منهما. وقد دمج المؤلف بين ذاتيّته بوصفه فاعلا دستوريّا، وخبرته وملاحظته خلال سنين عمله (إذ حصل على عضوية مجلس الشورى القطري)، وصاغها ضمن منهج الملاحظة بالمشاركة، وصقَلَها بهذا الإنتاج الأكاديمي واهتمامه بالتاريخ والدراسات التاريخية.

يخوض الكتاب في المحطات الدستورية القطرية، بدءا من الحراك الدستوري خلال عشرينيات القرن العشرين في أنحاء المنطقة، مرورا بصدور الدساتير في الدول الثلاث. ويلاحظ المؤلف أنّ كثيرا من الكتابات عن بلدان الخليج العربية تتّسم بالتعميم، في حين أثبت تقييمه للتجربة الدستورية القطرية وجود اختلافات بين بلدان الخليج، وأنّ تجاربها الدستورية مرتبطة بسياقات كل بلد. ولذا، يكون من المهم جدّا دراسة خصوصية كل تجربة بالنظر في السياقات المختلفة لكل مجتمع، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا. وهكذا، بينما حدّد المؤلف إطاره المكاني في منطقة الخليج، ولا سيما الكويت والبحرين وقطر، فإن إطاره الزماني هو الزمن الطويل؛ إذ يعقد مقارنة بين حقبتَي الغوص على اللؤلؤ والنفط، ودور التجار ورجال الدين في كلتيهما، وأثر ذلك في الحراك الدستوري.

سيرورة الدساتير من النشأة إلى النهاية

يقف الفصل الأوّل، "القانون الدستوري"، عند أحد فروع القانون العام، وهو القانون الدستوري، ويعرّف فيه "الدستور" بأنّه مجموعة من المبادئ أو القواعد التي تقيّد سلطة الحكام والسياسيين والحكومات، وتهدف إلى تحديد صلاحية المؤسسات والقيادات السياسية. ويشدّد المؤلف على أنّ البحث في الدساتير، يُعد من الحقول التي تستند إلى العقائد والأفكار إلى حدّ بعيد، خلافا للبحث في سائر العلوم الإنسانية والاجتماعية، ويعتمد ذلك على مضمون القانون الدستوري من بلد إلى آخر. ويبحث في ميلاد الفكر الدستوري، فيسرد كيف قيّدت الدساتير السلطات الملكية، ويشرح ظهور الدساتير المكتوبة في العقود الأولى من القرن التاسع عشر الميلادي، الذي جاء بعد بزوغ الرغبة في تحديد أجهزة الدولة ووظائفها. ويفرّق بين الدساتير الديمقراطية والدساتير غير الديمقراطية، من حيث صلاحيات الرئيس أو الملك أو الأمير، وبين الملكية البرلمانية والملكية الدستورية، من حيث سلطات الملك وسلطات الحكومة.

ويعرج المؤلّف على أنواع الدساتير بحسب تقسيم فقهاء القانون الدستوري، فمنها الدساتير المدونة (المكتوبة)، والدساتير غير المدونة (العرفية)، والدساتير الجامدة، والدساتير المرنة. وتختلف نشأة الدساتير من دولة إلى أخرى؛ ما يصعّب إمكانية تحديد أسلوب واحد لوضع الدساتير، فمنها ما هو أسلوب غير ديمقراطي، مثل المنحة أو التعاقد أو الهبة، ومنها ما هو أسلوب ديمقراطي يجري عبر الجمعية التأسيسية والاستفتاء. ثم يتناول طريقة تعديل الدستور، التي ربّما تكون جامدة، وتشترط إجراءات خاصة ومشددة، أو مرنة تماما كما تُعدَّل القوانين الأخرى، ويتمّ ذلك عن طريق الجمعية التأسيسية، أو الاستفتاء، أو البرلمان. ويحدّد نهاية الدساتير بتغييره كلّيًا بحيث يحلّ محلّه دستور جديد بقواعد جديدة توائم الظروف المستجدّة، وذلك إمّا من خلال جمعية تأسيسية وإما ثورة. وبذا يقدّم المؤلّف في هذا الفصل عرضا نظريًا مفهوميًا مفصّلا.

الدستورانية القطرية من منظور مقارن: التجربتان الكويتية والبحرينية

أمّا الفصل الثاني، "الحراك الدستوري في قطر"، فيخصصه المؤلف للإجابة عن الأسئلة الآتية: هل شهدت قطر حراكا دستوريًا؟ وهل تزامن حراكها مع الحراك الدستوري في البحرين والكويت؟ ولماذا بدأ فيهما الحراك الدستوري في عشرينيات القرن العشرين؟ وهكذا، يقارن تجربة قطر بتجربتَي الكويت والبحرين، وقد اختار هذين البلدين؛ نظرا إلى التفاعل التاريخي بينهما وبين قطر منذ الأيام الأولى لتشكّلها، والتقارب الظاهري في النواحي السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.

وفي هذا السياق، يحدد المؤلف بدء الحراك الدستوري في الخليج العربي في عشرينيات القرن العشرين قي الكويت والبحرين، بينما لم تشهد قطر حراكا مماثلا. ويوظّف منهجية فيفر لتناول التجربة الدستورية القطرية، لتجاوز ندرة المصادر المكتوبة، وذلك بتناول الأوضاع في الكويت والبحرين للبناء عليها. ويفيد من قاعدة أصول الفقه التي تقيس الغائب على الشاهد لقياس التجربتين مقارنة بقطر. ويؤكد غياب الحراك الدستوري القطري، حيث بدأت التجربة البحرينية تقريبا بالتزامن مع الكويت في عشرينيات القرن العشرين، إلّا أنّ ثمارها أتت متأخرة؛ إذ لم يصدر دستورها إلّا عام 2002، أي سبقت قطر بعامين فقط. أمّا الكويت، فقد صدر دستورها عام 1962.

وهكذا، يستعرض المؤلف نماذج من بعض التجارب الدستورية الخليجية، لا كلّها؛ بسبب تنوّع أنظمة الحكم في الدول الخليجية الأخرى. وإنّ اختلاف الظروف التي عاشتها المشيخات المختلفة والسياقات التاريخية للسيرورة الدستورية، أثّرت في التجربة والوعي السياسيَين، منتجة مسارات ودساتير وأنظمة سياسية راهنة. ويبحث المؤلف في ذلك دور الجغرافيا في الاتصال وانتقال الأفكار، ودور البنى الاجتماعية والثقافية، والتجار ورجال الدين، والتعليم والأنشطة الثقافية. ففي حين ذهبت الأدبيات إلى أن تأخر إصدار الدستور في قطر، يعود إلى التعليم النظامي الذي بدأ متأخرا هو الآخر، يجادل المؤلف بأنّ أسبابا أخرى شكّلت عوامل إضافية، مثل دور رجال الدين والتجار، وتأثير الوجود البريطاني في المنطقة، وثورة 1952 في مصر وانتشار الفكر الناصري والقومي والعروبي.

وعزا المؤلّف جوانب التطوّر في قطر ككل، لا سيما دستوريًا، إلى الإيكولوجيا والوضع الجغرافي الخاص بها، حيث أثّر في مسارها التاريخي، وجعلها مختلفة عن سائر البلدان المجاورة على غرار بقية المجالات الجغرافية المشابهة، وكان له دور في انغلاق المجتمع وانفتاحه على مؤسسات الدولة الحديثة، وكذلك في سياسة الحكّام تجاه القوى الخارجية، وفي علاقة الحكّام بالمحكومين.

ومن العوامل الأخرى التي ذكرها تصدير البترول في عهد حاكم قطر الشيخ علي بن عبد الله (1949-1961)، الذي كان محوريًا في التحول الذي حدث في البنية الاجتماعية، التي عرفت ثباتا قبل ذلك، وأدى إلى تأثر التشكّل الاجتماعي بفعل الطفرة الاقتصادية.

مسيرة قطر الدستورية: ثلاثة دساتير

في الفصل الثالث، "تطور الفكر الدستوري في قطر"، تناول المؤلف التحولات الدستورية التي عرفتها قطر، بداية من إصدار "النظام الأساسي المؤقت"، مرورا بـ "النظام الأساسي المؤقت المعدّل"، ثم ما أفضت إليه هذه التحولات من إصدار الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، أمير قطر (1995-2013)، قرارا أميريًا في عام 1999 ينص على إنشاء لجنة لإعداد الدستور، تمخّض عن إعدادها مشروعا للدستور القطري انتهت منه في تموز/ يوليو 2002، وقد عُرض على الاستفتاء الشعبي في نيسان/ أبريل 2003، وحصل على الموافقة العظمى، ثم جرى إصدار الدستور الدائم في حزيران/ يونيو 2004. وقد دخل الدستور حيّز التنفيذ بعد نشره في "الجريدة الرسمية" في 8 حزيران/ يونيو 2005.

عزا المؤلّف جوانب التطوّر في قطر ككل، لا سيما دستوريًا، إلى الإيكولوجيا والوضع الجغرافي الخاص بها، حيث أثّر في مسارها التاريخي، وجعلها مختلفة عن سائر البلدان المجاورة على غرار بقية المجالات الجغرافية المشابهة، وكان له دور في انغلاق المجتمع وانفتاحه على مؤسسات الدولة الحديثة، وكذلك في سياسة الحكّام تجاه القوى الخارجية، وفي علاقة الحكّام بالمحكومين.
يتطرق المؤلف في هذا الفصل إلى الملامح العامة للنظام السياسي في دولة قطر، ثم ينتقل إلى تطور التجربة الدستورية فيها، عبر تحليل ما ورد في الوثائق الدستورية الثلاث، والمقارنة بين محتوياتها، من دون الانغماس في التفاصيل المتعلّقة بموادها وتفسيراتها. وهو يرى أنّ الدستور الدائم لعام 2004 أقرّ مبادئ سيادة القانون، والفصل بين السلطات، والانتخاب، والشعب بوصفه مصدرَ السلطات، والأسس الرئيسة للدولة الحديثة في قطر، وانتخاب أوّل سلطة تشريعية (مجلس الشورى) في تشرين الأول/ أكتوبر 2021.

يخلص المؤلف إلى أنّ قطر لم تتأخر فعليًا عن التجربتين الكويتية والبحرينية، بل جاءت تجربتها متدرجة وموائمة لمستوى الوعي الجمعي بين السلطة والمجتمع، حتّى إنّها كانت متقدمة في التطبيق العلمي للنصوص الدستورية؛ فكان لها السبق مثلا في منح المرأة حق الانتخاب والترشح عام 1998. ويستنتج المؤلف أهمية فهم العدة العقلية لكل جيل في قطر، لفهم كيفية حدوث التطورات السياسية والدستورية كما حدثت بالفعل.

وختم المؤلف كتابه بتوصيات عن واقع التجربة الدستورية القطرية لتجويدها، التي يراها تُرتهن برفع مستوى الوعي لدى كل شرائح المجتمع بالممارسات الديمقراطية، ودور السلطات المختلفة، والاقتناع بأنّ التجربة القطرية لها خصوصيتها.

ويرى كذلك وجوب أن تحرص السلطتان التنفيذية والتشريعية على التواصل والتفاعل المستمرَين والإيجابيَين، وأن يعي كل عضو في مجلس الشورى بتساوي جميع الأعضاء، وأن يتبنى هذا المجلس مبدأ الشفافية، وينفتح على قضايا المجتمع. أوصى أخيرا بالعمل على تعزيز الهوية الوطنية الجامعة، وتعزيز مبدأ المواطنة، ونشر الوعي بالحقوق والواجبات.