أفكَار

حرب روسيا ـ أوكرانيا.. حتمية التقسيم للخروج من الأزمة أو خسارة الطرفين (2من2)

بأوكرانيا مستقلة يفقد مشروع الاتحاد الاوراسي معناه تماما بسبب أهميتها الجيوستراتيجية، باعتبارها الممر السهلي لروسيا باتجاه أوروبا الغربية.. جيتي
ثانياً ـ استقلال أوكرانيا عن مجالها الأوراسي تهديد حيوي لروسيا:

 تعدُّ أوكرانيا الدولة الثانية، بعد روسيا، من حيث الأهميّة الاستراتيجيّة في منظومة الاتحاد السوفياتي السابق. وهناك جذور حضارية وتاريخية واقتصادية وثقافية وعرقية ودينية عميقة بين البلدين المتجاورين. ولذلك تعتبر روسيا أن استقلال أوكرانيا عنها هو نسف لتلك الجذور وضرب للترابط التاريخي والاقتصادي العميق وتهديد مباشر للمصالح الاستراتيجية لروسيا في فضائها الاوراسي. ناهيك أن هذا الاستقلال لم يكن مجرد إعلان سيادة دولة أوكرانيا وحق في تقرير المصير لشعبها كما تم الإعلان عنه عام 1990 وانما هو ابتعاد عن روسيا واقتراب أو تقرب من خصومها المتربصين بها وبمصالحها وبتطلعاتها ضمن حلف الناتو.

 أ ـ معضلة الاستقلال:

إثر انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وكما هو معلوم اتجهت معظم الدول والقوميات المكونة للاتحاد إلى إعلان استقلالها، ولكن حدث استقلال أوكرانيا كان بالنسبة لروسيا معضلة كبرى. ولذلك لم يتم بسهولة وتخللته مصاعب عديدة. وقد أدرك ذلك القوميون الأوكرانيون أنفسهم عبر توخيهم للتدرج في الوصول الى أهدافهم. فكان شغلهم الاول منصباً على تحقيق الحكم "الذاتي" لأوكرانيا وليس الاستقلال، ولم تظهر مسألة الاستقلال على الأجندة السياسية إلا في القرن العشرين، وبعدها مرت عملية تحقيق الاستقلال الأوكراني بمحاولات عدة لم تنجح منها إلا المحاولة الخامسة في 1991 عندما أظهر الاستفتاء رغبة أكثر من 50٪ من السكان استقلال أوكرانيا عن روسيا. ومع ذلك لم يكن ميلاد الدولة الأوكرانية بالأمر السهل، فقد ظلت بعده عدة قضايا شائكة ضاعفت من تعقيد العلاقة بين الدولتين مثل: مصير السلاح النووي السوفييتي في أوكرانيا، وتقسيم أسطول البحر الأسود، وحل ديون الطاقة وغيرها، وأخيراً منطقة القرم التي نقلت لأوكرانيا ضمن اتفاق مخصوص وبقي ولاء غالبية سكانها لروسيا، وهو ما يفسر سهولة استحواذ روسيا عليها مرة أخرى في 2014.

ب ـ  المصالح الاستراتيجية لروسيا في أوكرانيا :

وهي بالأساس مصالح أمنية واقتصادية وجيوستراتيجية. أما المصالح الأمنية فتتمثل أولا في مخاطر انضمام أوكرانيا الى حلف الناتو المؤدية الى مزيد المحاصرة والتطويق للنفوذ الروسي في فضائه الاوراسي، وما يخفيه من استقواء هذا الحلف على حساب روسيا، وثانيا في نشر أسلحة هجومية في الجمهوريات السوفيتية السابقة بما في ذلك الأسلحة النووية الأميركية الموجودة في أوروبا، وما يشكله من تهديدات للوجود الروسي في المنطقة، وثالثا في ضمان السيادة الروسية على المياه الإقليمية، وسيطرتها على الخطّ البحري لمرور قواتها عبر مياه بحر آزوف المتفرّع من البحر الأسود وأهميتها في امدادات الطاقة ونقل الغاز الروسي الى السوق الاوروبية.

مما لا شك فيه أن مشروع استقلال أوكرانيا استقلالا كليا عن روسيا له انعكاسات مباشرة على مجمل مكونات الفضاء الاوراسي الذي يضم ثلث آسيا وربع أوروبا، وبأوكرانيا مستقلة يفقد مشروع الاتحاد الاوراسي معناه تماما بسبب أهميتها الجيوستراتيجية
وأما المصالح الاقتصادية فتتعلق أساسا بمشاريع الطاقة حيث تعتمدُ أوكرانيا، بشكل رئيسيّ، على الغاز الطبيعي الروسي في اقتصادها، وتشغيل العجلة الصناعيّة، وتنقل عبر أراضيها ثلث احتياجات أوروبا من الغاز الطبيعي الروسي. وأما المصالح الجيوستراتيجية فتكمن تحديدا في موقع اوكرانيا الجيوستراتيجي كمنطقة عازلة بين روسيا وأوروبا، وما يمثله هذا الموقع من أهمية وفق نظرية "قلب العالم"، فمن يسيطر عليه بإمكانه السيطرة على العالم برمته، ولذلك تسعى روسيا من جهتها التصدي لطموحات حلف الناتو في هذا الاتجاه.

ت ـ الانعكاسات على الفضاء الأوراسي:

مما لا شك فيه أن مشروع استقلال أوكرانيا استقلالا كليا عن روسيا له انعكاسات مباشرة على مجمل مكونات الفضاء الاوراسي الذي يضم ثلث آسيا وربع أوروبا، وبأوكرانيا مستقلة يفقد مشروع الاتحاد الاوراسي معناه تماما بسبب أهميتها الجيوستراتيجية، باعتبارها الممر السهلي لروسيا باتجاه أوروبا الغربية، كما أشار الى ذلك مستشار الأمن القومي الأميركي في إدارة الرئيس جيمي كارتر (1977- 1981)، بريجنسكي بقوله: «دون أوكرانيا لن تكون روسيا دولة عظمى» . وفي هذا الاتجاه سعت روسيا مبكرا الى خوض معركة مع جورجيا والسيطرة على كل من أوسيتيا و أبخازيا عام 2008، ثم الاستحواذ على جزيرة القرم داخل أوكرانيا عام 2014، وتعزيز نفوذها في منطقة القوقاز عبر نشر قوات حفظ سلام في إقليم ناجو رنو كارا باخ، وكذلك توجهها لدعم حكومات موالية لها في كازاخستان وبيلاروسيا وخلق حاضنة جيوسياسية لها لتعزيز عمقها الاستراتيجي وتكون عازلة للتمدد الغربي في الفضاء الاوراسي.

ثالثا ـ أوكرانيا المستقلة وروسيا القوية تهديد للبيت الأوروبي:

من زاوية أخرى تشكل أوكرانيا المستقلة بالمعنى التام من جهة، وحفاظ روسيا على قوتها ونفوذها في المنطقة، من جهة أخرى، تهديدا ليس فقط لحلف شمال الأطلسي وانما للاتحاد الاوروبي بالذات، الذي بدأت تنخره بعض التصدعات الداخلية من جراء تداعيات الحرب القائمة. ويمكن النظر الى هذه النقطة من جوانب ثلاثة:

 أ ـ الجانب الأول: كون أوكرانيا مستقلة ومحايدة وقوية في نفس الوقت وهو سيناريو لا تدعمه الاحداث وما خلفته الحرب الدائرة من دمار فظيع، لا ترغب فيه أوروبا نفسها لان أوكرانيا بهذه الصورة ستكون قوة منافسة وأكبر من أي قوة أوروبية داخل البيت الاوروبي بحكم حجمها الجغرافي وموقعها الاستراتيجي وما تتمتع به من ثروات وموارد.

ب ـ الجانب الثاني: ان بقاء روسيا كقوة عظمى في قلب الأرض (أو قلب العالم) بتعبير دوغين، سوف لن تنظر اليه أوروبا بكامل الارتياح وسيكون المنافس الاول لها أمام الولايات المتحدة والصين، ولن تتمكن من ضمان الحصول منه على موارد الطاقة والغاز بشروطها وهو ما يغري البعض من الدول الأعضاء فيها الى التعامل الثنائي معه مما يسبب في تهديد البيت الأوروبي من داخله. وهو ما بدا حاصلا ابان هذه الحرب مع كل من المانيا وفرنسا على سبيل الذكر.

ت ـ الجانب الثالث: عندما يجتمع على البيت الاوروبي الخطران في نفس الوقت: أوكرانيا مستقلة وروسيا قوية فمما لا شك فيه  أن ذلك سيكون وقعه أقوى وأثره أشد على مستقبل المشروع الاوروبي في ظل بروز اقطاب عدة من الوزن الثقيل على غرار الصين الشعبية والهند وغيرهما. ولئن كان هذا الاحتمال صعب الورود على الأقل في المستقبل المنظور الا أنه يظل قائما عندما تنتهي الحرب وتتجه الأنظار من جميع الأطراف نحو بناء الاقتدار الذاتي من جديد والبحث عن سبل النهوض في عالم لم يعد فيه التأثير سوى للأقوياء والكبار. سيكون لهذا الاحتمال الثالث تأثيرات قوية على مستقبل الامن الأوربي برمته وعلى دور الاتحاد الاوروبي كقوة «عظمى» فضلا عن مستقبل الدور الأمريكي في الامن الأوربي خصوصا في ظل تصاعد الدور الصيني بعد الزيارة الأخيرة للرئيس الصيني لروسيا والدعم الذي تحصلت عليه في ظرف يسعى فيه العالم الغربي الى التضييق على الرئيس بوتين واحالته على المحكمة الجنائية الدولية. 

رابعاً ـ حتمية التقسيم للخروج من الأزمة أو خسارة الطرفين:

بعد زهاء عام ونيف لا يمكن القول أن الحرب كشفت كل أسرارها. فالمعارك في الساحة لا تزال محتدمة ومتفاقمة والامدادات العسكرية لأوكرانيا من قبل الدول الغربية لم تتوقف وان كانت تتم بما يشبه الدفع بالتقسيط فيما يتعلق ببعض المعدات والأسلحة النوعية والحساسة التي قد تؤثر على مجرى الاحداث.  ويظل الطابع الرئيس للحرب أنها أولا وقبل كل شيء حرب ارادات، يعبر عنه إصرار طرفي الصراع على الاستمرار في خوض الحرب مهما كان الثمن ومهما كان حجم الخسائر الناجمة عنها. وأمام التوازن النسبي في موازين القوة العسكرية وبرغم التفوق الطفيف للجانب الروسي، تحول الصراع الى صراع وجودي للطرفين ضمن معادلة صفرية اما الربح أو الخسارة.

وفي هذا الإطار أصبح الحديث عن استشراف المستقبل وتحديد السيناريوهات التي تتجه اليها الاوضاع يحيل الى التخمينات والتكهنات النظرية أكثر من التقديرات التي تسندها المعطيات. وأمام هذا الغموض العام لا يسع التحليل الموضوعي الا عرض السيناريوهات الأكثر احتمالا والمآلات الممكنة التي ستنتهي اليها هذه الحرب المدمرة والتي لا تقل تداعياتها عما حدث في الحربين العالميتين في بداية القرن الماضي والترجيح بينها. ومن هذا المنظور، لا تخرج هذه الاحتمالات عن السيناريوهات الثلاثة التالية: الحل السياسي وفق التوازنات الراهنة، استمرار الحرب مع توسع نطاقها، تقسيم أوكرانيا الى قسمين بما يعد في نظر المراقبين خسارة الطرفين. سوف نتناول هذه السيناريوهات تباعا من خلال تحليل كل سيناريو من حيث المؤيدات التي تدعمه والعوائق التي تدحضه والنتائج التي يمكن أن تترتب عليه.

أ ـ السيناريو الأول: الحل السياسي في إطار التوازنات الراهنة على الأرض:

ومن مؤيداته الموقف المتردد وغير الصارم لدول حلف الناتو من مسألة امداد أوكرانيا بما يلزم من العتاد النوعي الذي يمكن أن يحسم المعركة وينهي أتون الحرب لصالحها، وهو ما يعكسه أسلوب التقسيط والمماطلة الذي تمارسه الدول الغربية في إطار تقييمها للمشهد وتحسّبها من التورط في تدويل الحرب والدفع بالطرف المقابل نحو استخدام الاسلحة المحظورة فضلا عن السلاح النووي المدمّر للجميع.

فما يحصل حتى الآن لا يعدو كونه استعراضاً للعضلات، وهو ما قد يفسره حجم التصريحات وتبادل الاتهامات بين الجانبين. كذلك، إن الطرفين لا يريدان حرباً واسعةً، إلا أنهما مستعدان لها، وهو ما يعبّر عن الصراع بين الدول الكبرى على النفوذ والموارد. هذا الموقف المحسوب بكل دقة من قبل الولايات المتحدة وأوروبا ينم عن تفضيلهم لحل سياسي تفاوضي ضمن المعادلة الراهنة والتي يمكن أن يكون عنوانها البارز "سياسة لا غالب ولا مغلوب" وبالتالي ترحيل الصراع الجيو استراتيجي مع روسيا بعد أن أنهكتها الحرب.

ومن مؤيداته أيضا المساعي الروسية الحثيثة عبر الوساطة الصينية الأخيرة وتعبيرها عن استعدادها لإنهاء الحرب وفق شروطها أي وفق التوازنات القائمة على الأرض. ناهيك ما تحمله هذه الوساطة من الحجم الثقيل من دلالات استراتيجية عميقة تعكس إرادة مشتركة بين روسيا والصين لرفض الهيمنة الغربية والأمريكية تحديدا وضرورة الانتقال بالعالم بعد هذه الحرب الى عالم متعدد الأقطاب. ومن مؤيداته كذلك محاولات روسيا المتكررة إجبار أوكرانيا على "السلام"، معتبرة أن سيطرتها على إقليم دونباس "الانفصالي"، قد يدفع بوتين للتخلي عن الممر البري على طول البحر الأسود، الذي يربط الاتحاد الروسي بشبه جزيرة القرم. وهنا تعتبر روسيا نفسها منتصرة اذا ما حصل هذا الحل السياسي الذي يثبّت ما تحقق على الأرض.

أما العوائق التي تدحض مثل هذا الحل فهي أيضا متوفرة بقوة منها التصريحات المتتالية للقادة الغربيين فضلا عن رئيس أوكرانيا عن اصرارهم على الحاق هزيمة قاسية بروسيا «المعتدية» وتلقينها درسا تاريخيا لا تستطيع بعده تكرار المحاولة وبالتالي إيقاف مشروعها التوسعي في الفضاء الاوراسي والتصدي للتمدد الأطلسي في المنطقة. ومنها أيضا قرار الملاحقة القضائية للرئيس بوتين شخصيا واحالة ملفه أمام المحكمة الجنائية الدولية وهو تصرف يدفع به الى المزيد من التحدي وإطالة آماد الحرب وبالتالي عدم القبول بالحل السياسي الا ضمن شروط روسيا.

وأما بخصوص النتائج المرتقبة لمسار الحل السياسي فهي لا تعدو الا ان تكون في جزء كبير منها في صالح الجانب الروسي من حيث تثبيت ما تحقق على الأرض من استحواذ على مناطق استراتيجية بالنسبة لروسيا مثل جزيرة القرم وإقليم دونباس الذي أعلن انفصاله عن أوكرانيا. ومن نتائج الحل السياسي أيضا الحفاظ على الامداد الروسي من النفط والغاز لأوروبا وعدم المساس بملف الطاقة الذي يشهد اضطرابات مربكة للأسواق ومنها أخيرا الاعتراف المتبادل من جميع الاطراف باستحالة انهاء الحرب بالقوة فضلا عن اللجوء لخيارات كارثية أخرى مثل الخيار النووي.

ب ـ السيناريو الثاني: استمرار الحرب مع توسع نطاقها:

ومن مؤيداته ما يحدث على أرض الواقع لحد الآن مع انقطاع المفاوضات المباشرة وغير المباشرة وغياب أفق واضح لحل سياسي باستثناء عرض الوساطة الصينية مؤخرا والتي جوبهت برفض أوكراني وغربي مؤقت واعتبارها تلبي الشروط والرغبات الروسية أكثر من الانصات الى المطالب الأوكرانية وفي مقدمتها وقف العدوان وانسحاب القوات الغازية من أراضيها. ومن مؤيداته أيضا استمرار السباق نحو المزيد من التسلح من قبل الطرفين والاعلانات المتكررة من الجانبي بقرب حصولها على عتاد نوعي جديد للتمكن من حسم الموقف بالقوة في ميدان المعارك، وهو ما يعتبر استعراضا لموازين القوة ورسالة واضحة في اتجاه مواصلة الحرب الى حين تحقيق الاهداف العسكرية المرسومة لكل طرف. ومن مؤيداته كذلك تكثيف الاصطفاف وكسب الأنصار والحلفاء وهو ما تجلى أكثر في الجانب الروسي الذي سجل جملة من الاختراقات السياسية الهامة بدءا بكسب الموقف الصيني واستمالة كلا من الهند وايران وحتى السعودية بعد ما حصل من تصالح جيوسياسي مع ايران بوساطة صينية.

أما العوائق والعقبات التي تواجه هذا السيناريو فتتعلق أساسا بادراك الطرفين لمأزق الخيار العسكري وصعوبة حسم الصراع بالسلاح بسبب توازن القوى نتيجة وقوف قوات الناتو الى جانب أوكرانيا من جهة، برغم الارباك الحاصل في وصول الاسلحة المتطورة وتأخره في بعض الاوقات، وبسبب ما كشفته المعارك الميدانية من استماتة الجيش الاوكراني وصموده أمام القوات الروسية وما يتمتع به مقاتلوه من شجاعة وإصرار على كسب المعركة من جهة أخرى.

وأما النتائج التي من المنتظر توقعها من خيار مواصلة الحرب فتتعلق بإمكانية توسع نطاقها لتشمل حلف الناتو وهو احتمال غير مرجح إلا إذا استمرت العملية العسكرية الروسية وبدأت الكفة تميل الى جانبها مع إصرار صناع القرار في موسكو على تحقيق كافة الأهداف. وتتعلق أيضا بحصول حالة من الانهاك الشامل لاطرف النزاع مع ما يرتبط به من تزايد كلفة الحرب بشريا وماديا التي بلغت لحد الان من الجانب الروسي 200 ألف قتيل و80 مليار دولار ومن الجانب الاوكراني ما لا يقل عن 100 ألف قتيل من العسكريين و30 ألف من المدنيين الى جانب 138 مليار دولار، وتتعلق أخيرا بتداعيات الحرب وما خلفته من خسائر على الاقتصاد العالمي (1.3 تريليون دولار حتى هذا العام)، وفقاً لدراسة نشرها المعهد الاقتصادي الألماني (IW)) ،خصوصا في قطاعات الامن الغذائي والطاقة.

ت ـ السيناريو الثالث: تقسيم أوكرانيا الى قسمين أو خسارة الطرفين (السيناريو الكوري):

يحيل "السيناريو الكوري" أو ما يطلق عليه ب "خط العرض 38" إلى الحل الذي تم التوصل له بعد الحرب الكورية (1950-1953) عند خط وقف إطلاق النار بين الجانبين، حيث تمتد على جانبيه منطقة منزوعة السلاح بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، ويقسم شبه الجزيرة الكورية إلى جزأين متساويين شمالاً وجنوباً . ويبدو هذا السيناريو هو الأرجح والأكثر واقعية من بين السيناريوهات الثلاثة المطروحة، ولذلك كثر الحديث عنه في الفترة الأخيرة أمام إصرار روسيا على تحقيق انتصار كامل على أوكرانيا ومن خلفها الدول الغربية وحلف الناتو وأمام ما تحقق من تقدم ملحوظ في الجهة الشرقية المحاذية للحدود الأوكرانية ـ الروسية.

وقد أشارت مجلة “ناشيونال ريفيو” الأمريكية، إن الولايات المتحدة وحلفاءها آجلا أو عاجلا سوف ينهون الحرب في أوكرانيا من خلال المفاوضات السلمية، ما يتسبب في تقسيم البلاد إلى قسمين. كما أن هذا السيناريو يدعم السردية الروسية التي ما فتئت تؤكد على عدم وجود كينونة لدولة أوكرانيا في التاريخ، وأنها كانت موزعة بين الإمبراطوريات السابقة، وأن المناطق من كييف إلى شواطئ البحر الأسود روسية، والمناطق الغربية بولندية، مع وجود مناطق اقتطعت من الإمبراطورية النمساوية المجرية.

ومن مؤيدات هذا السيناريو أن نظرية التقسيم في العالم ليست جديدة، فكثير من النزاعات الانفصالية والحروب في التاريخ قادت الى ذلك. والأمثلة على ذلك كثيرة: ما حدث لألمانيا إبان الحرب العالمية حيث تم تقسيمها الى شرقية وغربية، وكوريا أيضاً الى كوريتين شمالية وجنوبية، واليمن إلى يمنيين، والسودان إلى سودانيين، وبالتالي ليس من المستبعد أن تشهد كوريا نفس المصير.

ومن المؤيدات أيضا أن خيار التقسيم وان كان لا يروق للجانب الاوكراني الا أنه يتقاطع مع أغراض دول مجاورة أخرى مثل بولندا والمجر ورومانيا التي لها مطامع في الحصول على بعض المقاطعات المحاذية لأراضيها، فضلا عن ترحيب الجانب الروسي به بل واعتباره انتصارا واضحا يتماشى مع جزء مهم من أهدافه وربما يكون هدفا مستورا ومرسوما منذ البداية.

وقد طرحت جهات روسية هذا الخيار العام الماضي على غرار ما أشار اليه نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف، من وجود خريطة جديدة لأوكرانيا بعد التقسيم قد يقبل بها الغربيون تنتقل فيها 7 مقاطعات أوكرانية إلى بولندا، ومقاطعة إلى المجر، ومقاطعتان إلى رومانيا، و13 مقاطعة، بما فيها القرم، إلى روسيا، بينما تقتصر جغرافية أوكرانيا على مقاطعة كييف . وروّج نفس المعلومات رئيس الاستخبارات الخارجية الروسية، سيرغي ناريشكين زاعما أن السلطات البولندية "مقتنعة" بأن الولايات المتحدة وبريطانيا ستُضطران إلى دعم خطة تقسيم أوكرانيا. وكان المفكر الجيوسياسي الروسي، ألكسندر دوجين، قد توقع في عام 2009، تقسيم أوكرانيا إلى كيانين جيوسياسيين منفصلين؛ وهما: شرق أوكرانيا وغرب أوكرانيا .

ولا تبدو هناك عوائق أوعقبات كبيرة أمام مرور هذا السيناريو لأنه يخدم مصلحة مشتركة لدى الجميع خصوصا في ظل تقدم القوات الروسية في عمق أوكرانيا واقترابها من العاصمة كييف وعجزها في نفس الوقت عن إنهاء الحرب لصالحها. وبالمقابل لم تفلح الامدادات الغربية بالعتاد والذخيرة في تمكين الجيش الاوكراني من صدّ الهجومات الروسية، مما أوجد حالة من التوازن غير المرغوب لدى الطرفين.

الدول الغربية الداعمة لأوكرانيا ربحت إضعاف روسيا من جراء دخولها في هذه الحرب وإنهاكها عسكريا وبشريا واقتصاديا، وربحت من خلال تثبيت جزء من الدولة الاكرانية الموالي لها. بينما خسرت الحفاظ على دولة أوكرانيا قوية إلى جانبها وخاصرة في جسم الدولة الروسية المناهضة للتوسع الأطلسي في المنطقة.
وبخصوص النتائج المترتبة عن هذا السيناريو الذي يتجه الى أن يكون شبه حتمي ويفرضه الواقع فهي تتعلق بثلاثة أبعاد رئيسية:

ـ البعد الأول:

يتعلق بتبعات التقسيم: يقدر المراقبون لمجرى النزاع أن سيناريو التقسيم ضمن خطوط القتال الحالية كما يروج له الخبراء الروس من جهة وبعض المحللين الغربيين من جهة أخرى، سيجعل أوكرانيا تخسر جزءا مهما من أراضيها لا يقل عن 100 ألف كيلومتر مربع. وسوف يقسمها إلى دولتين: أوكرانيا الشرقية تحت سيطرة روسيا، وأوكرانيا الغربية قريبة من الاتحاد الاوروبي. الجزء الاول يقع في المناطق الجنوبية والجنوبية الشرقية ويضم شبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو في 2014 والجزء الشرقي من مقاطعة خيرسون الواقع شرق نهر دنيبر، وقرابة ثلثي مقاطعة زابوريجيا الذي يظل الان مركز المدينة ومحيطها بيد القوات الأوكرانية. وضمن هذا الجزء يقع أيضاً معظم أراضي مقاطعة لوغانسك، باستثناء عدد من القرى الصغيرة التي حررها الجيش الأوكراني في العام الماضي. كما يضم هذا الجزء قرابة 60 في المائة من مساحة مقاطعة دونيتسك بحدودها الإدارية في 2014، وأخيراً عدة مناطق حدودية بين روسيا وأوكرانيا في الشرق في مقاطعة خاركيف. وأما ما تبقى من الخريطة الحالية من مناطق أوكرانية بما في ذلك العاصمة كييف فسيظل تحت إدارة أوكرانيا الغربية.

ـ البعد الثاني يتعلق بمفهوم الكسب والخسارة المترتبة عن التقسيم:

بالمعنى الجيوسياسي، كل الأطراف المتدخلة في هذا النزاع رابحة وخاسرة في نفس الوقت. فروسيا بشنها لهذه الحرب حققت جزءا مهما من أهدافها الاستراتيجية وفي مقدمتها إيقاف المدّ الأطلسي وتفتيت أوكرانيا وإضعافها مع الاعتراف بضم شبه جزيرة القرم واقليمي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين. وهي خاسرة بمعنى فشلها في الوصول الى كافة الاهداف المرسومة مثل اسقاط الحكومة القائمة في كييف وتنصيب حكومة موالية لها وصدّ التمدد الغربي المستهدف لفضائها. بالإضافة الى خسارتها البشرية والمادية التي كلفتها أعداد هائلة من الأرواح والأموال.

والدول الغربية الداعمة لأوكرانيا ربحت إضعاف روسيا من جراء دخولها في هذه الحرب وإنهاكها عسكريا وبشريا واقتصاديا، وربحت من خلال تثبيت جزء من الدولة الاكرانية الموالي لها. بينما خسرت الحفاظ على دولة أوكرانيا قوية إلى جانبها وخاصرة في جسم الدولة الروسية المناهضة للتوسع الأطلسي في المنطقة. أما أوكرانيا فهي بطبيعة الحال رابحة من حيث حفاظها على وجودها ولو مقسمة متلافية عدم الاندثار والسيطرة التامة لروسيا عليها، ومن حيث صمودها أمام واحدة من أعتى القوات العسكرية في العالم، وخاسرة لجزء من كيانها من جراء التقسيم ناهيك عما خلفته الحرب من خسائر بشرية ومادية كبيرة وما تحتاج اليه جهود إعادة الاعمار من أموال.

ـ  البعد الثالث يتعلق بمستقبل الصراع على الفضاء الاوراسي بين روسيا والغرب بعد التقسيم: إن خيار التقسيم لا يعدّ حلا جذريا للصراع القائم بين روسيا والغرب لكون هذا الصراع يكتسي طبيعة استراتيجية. فهو من الناحية الجيوسياسية ليس سوى ترحيلا للأزمة وتفتيتا لمشكلاتها، أو هو بمثابة «استراحة مقاتل» يحتاجها للتهيؤ لخوض جولة جديدة في عالم تسيطر عليه الصراعات على مناطق النفوذ من كل درب. فروسيا الجديدة لن تقف مكتوفة الايدي أمام توسع حلف الناتو داخل فضائها الاوراسي، ناهيك عن وضع صواريخ على حدودها، وهي تتطلع الى بناء حلف دولي جديد ومضاد يحول دون هذا التوسع ولن تترك الجزء الغربي من أوكرانيا يقترب أكثر من غريمه وخصمه الاستراتيجي وسوف لن ينفك عن ممارسة كل ما يملك من ضغوطات وابتزازات لإبقاء أوكرانيا ضعيفة وتابعة بل ستسعى إلى توسيع نطاق اختصاصها ليشمل دول البلطيق ومولدوفا وجورجيا والبلقان. وبالمقابل فان دول حلف الناتو لن تتوقف بدورها عن التمدد وتقوية الكيانات المحاذية لروسيا والدائرة في فلكها، وتهديد الأمن القومي الروسي وخلق واقع جيو-سياسي تميل الكفة فيه لها.

خاتمة:

سعينا من خلال هذا العرض المكثف، الى تحليل موازين القوة في هذه الحرب بين طرفيها الرئيسيين والأطراف المديرة لها، انطلاقا من الجغرافيا السياسية لروسيا كدولة حيوية إقليميا ودوليا واعتبارا بتاريخ الخلفية الجيوسياسية كمُشكّل لسياق العلاقات الروسية الأوكرانية، وما يمثله تمدد حلف شمال الأطلسي داخل الفضاء الاوراسي من تهديد للأمن القومي الروسي. كل ذلك قادنا الى جملة من الخلاصات التي تساعد على فهم السيناريوهات  الممكنة والمطروحة في الساحة لإنهاء الحرب منها ومصلحة كل طرف من ذلك. فاستقلال أوكرانيا عن مجالها الأوراسي من وجهة نظر روسيا يشكل تهديدا حيويا لمصالحها الاستراتيجية الى جانب جملة الانعكاسات التي يخلفها على الفضاء الاوراسي عموما، وكذلك فإن بقاء أوكرانيا مستقلة وروسيا قوية يمثلان تهديدا مباشرا للبيت الأوروبي خاصة في ظل اتجاه يدفع الى عالم جديد متعدد الأقطاب.

وخلصنا في النهاية إلى ترشيح سيناريوهات ثلاثة لإنهاء الحرب، وهي: الحل السياسي وفق التوازنات الراهنة، واستمرار الحرب مع توسع نطاقها، وأخيرا تقسيم أوكرانيا الى قسمين أو خسارة الطرفين. ورجحنا السيناريو الأخير أي حتمية التقسيم لاعتبارات متعددة منها أن هذا الخيار هو النتيجة الأكثر واقعية في تاريخ النزاعات والحروب ولا سيما عندما لا يكون الحسم العسكري ممكنا، وقد تم اللجوء اليه في التاريخ الحديث في أماكن مختلفة مثل السيناريو الألماني والكوري وغيرهما. وبيّنا جملة من المؤيدات الجيوسياسية التي تدعمه والابعاد المرتبطة بتنفيذه فيما يتعلق بتبعات التقسيم ودوره في رسم خريطة جديدة للمنطقة، وما يتعلق بحجم الربح والخسارة لكل طرف المترتبة على ذلك وأخيرا ما يتعلق بمستقبل الصراع على الفضاء الاوراسي بين روسيا والغرب.

وحتى في حال التوصل إلى هذا الاتفاق حول التقسيم فانه يظل محفوفا بالعديد من المخاطر والصعوبات، فمن المرجح أن تظل أوكرانيا والأمن الأوروبي الأوسع مسألتين مترابطتين في المستقبل المنظور، لشعور كل طرف بالإحباط بسبب التنازلات التي قدماها في المفاوضات. ومن المرجح أن تتزايد الأخطار في الأشهر والسنوات المقبلة، إذ تقوم روسيا وأوكرانيا والدول الأوروبية ببناء قوات وقدرات بهدف ردع بعضها بعضاً. وفي حالة روسيا سيكون خيارها هو إعادة شن هجوم .

اقرأ أيضا: حرب روسيا ـ أوكرانيا.. حتمية التقسيم للخروج من الأزمة أو خسارة الطرفين (1من2)