في ظل ضبابية الرؤية
عند قيادات
الإخوان وحالة التخبط الواضحة بطرح الأفكار والتراجع عنها، أو محاولة إعادة
تفسيرها فيزيدها ارتباكا أو إعلان الشيء ونقيضه في نفس البيان أو ذات الحلقة، ورغم
حالة الإحباط من الممارسات القديمة الجديدة، إلا أن حافز الواجب -واجب النصيحة- يغالبها
فيغلبها أحيانا وتغلبه في الأعم الأغلب. وفي هذا المقال لن أتعرض لجملة الأزمات التي
تواجه الحركات الإسلامية وخاصة جماعة الإخوان، وإنما أتخذ من حوار الأخ العزيز د. حلمي
الجزار على قناة BBC نموذجا كاشفا لهذه الأزمة، أنتهي فيه
إلى نصيحة محب وبيني وبين د. حلمي مِن عُرى الأخوة ما لم ينفصم ومِن روابطها ما لم
ينقطع، وأُحسِن الظن في إخلاصه ورحابة صدره ورجاحة عقله.
الصراع على السلطة
أكد الدكتور ما طرحه
قبل ذلك من عدم "الصراع على السلطة"، ولكن دون ترك العمل السياسي فهو من
ثوابت الدين والجماعة، وتسأله المذيعة فماذا تبقى من العمل السياسي إذا تركتم الصراع
على السلطة؟
وهنا أقف مع هذه العبارة
ودلالة اللفظ على المعنى:
صَرَعَ: فعل ثلاثي
متعد، صَرَعَ يصرع.
صَرَعَ فلان فلانا،
أي طرحه أرضا بعنف.
الصراع: خصومة شديدة
ونزاع ومشادّة.
صَارَعَ العدو: غالبه
في المصارعة.
مصارعة الثيران: رياضة
يواجه فيها المصارع ثورا هائجا في ميدان مكشوف.
استعمال هذه العبارة يوحي بأن المنافسة على السلطة هي خصومة ونزاع واصطراع أشبه بمصارعة الثيران، واعتبار المتنافسين أعداء يحاول كل منهم القضاء على الآخر أو طرحه أرضا
فاستعمال هذه العبارة
يوحي بأن المنافسة على السلطة هي خصومة ونزاع واصطراع أشبه بمصارعة الثيران، واعتبار
المتنافسين أعداء يحاول كل منهم القضاء على الآخر أو طرحه أرضا.
فهذا ما تعنيه كلمة
الصراع، فما معنى السلطة؟ أهي السلطة التنفيذية أم التشريعية أم القضائية وهي سلطات
الدولة الثلاث؟
فالعبارة مرسلة مبهمة
وتلقي بظلال سيئة واتهام مبطن لكل من ينافس على إحدى السلطات، بل استطرد بأنها تؤدي إلى الاستقطاب والتفكك المجتمعي!!
ثم قال فضيلته ونحن
-الإخوان- لم نصارع على السلطة إلا بعد ثورة يناير، فماذا تقصد بالسلطة؟ أهي السلطة
التنفيذية أم التشريعية والتي قد تقود إليها؟
وقد قال الإمام المؤسس
للجماعة الشيخ حسن البنا عليه رحمة الله في رسالة الانتخابات: "هل أمام أصحاب
الدعوات وحَمَلة الرسالات في هذا العصر من سبيل إلى تحقيق أهدافهم إلا هذه السبيل الدستورية
السلطة التشريعية أولا فالسلطة التنفيذية بعد ذلك".
وقد خاض الإخوان الانتخابات
فرادى سنة ١٩٧٦ وسنة ١٩٧٩، وعلى قوائم الوفد ١٩٨٤، وقوائم حزبي العمل والأحرار سنة
١٩٨٧ تحت شعار "الإسلام هو الحل"، وانتخابات مجلس الشورى ١٩٨٩، ومجلس الشعب
١٩٩٥، ومجلس الشعب سنة ٢٠٠٠، وفاز فيها ١٧ نائبا، وانتخابات ٢٠٠٥ وفاز فيها ٧٨ نائبا،
وانتخابات الشورى ٢٠٠٧، والمحليات ٢٠٠٨، والشعب ٢٠١٠، وصولا إلى انتخابات مجلس الشعب
٢٠١١ فالشورى ٢٠١٢.
فهل هذا كان من قبيل
الصراع على السلطة التشريعية التي تؤدي إلى الاستقطاب والتفكك المجتمعي وسيتم اعتزاله؟
أم هو من قبيل العمل السياسي الذي سيستمر دون الصراع على السلطة التنفيذية؟ أم أن كل
ذلك رهن مناسبة اللحظة التاريخية؟ وهو ما قاله الأستاذ البنا في رسالة المؤتمر الخامس:
"الإخوان المسلمون أعقل وأحزم من أن يتقدموا للحكم ونفوس الأمة على هذا الحال..
وهو ما لم تراعه قيادات الإخوان في التقدم للحكم -انتخابات الرئاسة- عقب ثورة يناير
على غير مراد عموم الإخوان، إذ تم استطلاع رأيهم ورأي شورى المحافظات والشورى العام
مرتين فيتم الرفض، ثم يتم إقراره في الشورى العام بفارق صوتين بعد الاتصالات المحمومة
ومحاولات الإقناع، أما قواعد الإخوان المتجردة بحدسها وإخلاصها وعدم تطلع أحد منها
للرئاسة؛ فكانت تعلم مخاطر هذه اللحظة التاريخية، إذ تولد بعد أو مع كل ثورة ثورتان؛
ثورة مضادة وثورة تطلعات، فلم تلتفت إليها القيادات بل أوردتها موارد التهلكة لحاجة
في نفوس البعض قضوها.
من العجيب أن يظل بعضهم ممن نجا من الحبس يصارع على مقاعد في قيادة الجماعة أو ما تبقى منها، وهنا سؤال يطرح نفسه: كيف يصدق الآخر هذه القيادات أو تلك في عدم الصراع على السلطة حال سنوح الفرصة؛ وقد كانت أعلنت عدم خوض انتخابات الرئاسة ثم خاضتها؟
ومن العجيب أن يظل
بعضهم ممن نجا من الحبس يصارع على مقاعد في قيادة الجماعة أو ما تبقى منها، وهنا سؤال
يطرح نفسه: كيف يصدق الآخر هذه القيادات أو تلك في عدم الصراع على السلطة حال سنوح
الفرصة؛ وقد كانت أعلنت عدم خوض انتخابات الرئاسة ثم خاضتها؟ وها هم أولاء يصارعون
على مقاعد في الجماعة رجاء تركهم لها، وهو رجاء ولوج الجمل في سم الخياط.
ثم يعود للاستدلال
بعدم ترك السياسة، أما لماذا؟ فيقول لأن ترك العمل بالسياسة هو مخالفة للدستور الذي
أعطى كل فرد أو جماعة سياسية أو منظمة الحق في أن تمارس السياسة! والحقيقة أن هذا خلط
بين الحق والواجب، فقد أعطاك الدستور الحق وبوسعك التنازل عنه، أما إذا كان عدم العمل
بالسياسة مخالفة للدستور فمن باب أولى عدم المنافسة -أو الصراع كما تسميه- على السلطة
هو أشد مخالفة، فقد كفلها الدستور وشدد عليها.
ثم يأتي الخلط الأشد
في نظري القاصر؛ أن هذا الطرح من أجل طمأنة القوى الوطنية لأن الإخوان يفوزون في الانتخابات
فنترك لهم المجال. وهنا تثور أسئلة منطقية:
هل ترك الانتخابات
هو ترك الصراع على السلطة؟
وكيف ستترك الانتخابات
وأنت تقول لن نترك العمل السياسي؟
ثم لقد أُبعدتم عن
الانتخابات وكل مظاهر العمل السياسي وغير السياسي 12 عاما حتى الآن بين المعتقلات والمنافي،
وأُخليت الساحة تماما، فماذا فعلت هذا القوى الوطنية وماذا أحرزت؟
ثم يعود الدكتور ليقول
بعدم ترك العمل بالسياسة لأن الإسلام دين شامل ينتظم كل نواحي الحياة. وأنا أوافقه
فهذا حق لا مراء فيه، ولكن يكمل بتعريف الجماعة بأنها "دعوة سلفية وطريقة سنية
وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية و..".
وهنا خلط بين شمول
الإسلام وشمول الجماعة، فهل يلزم كون الإسلام دينا شاملا أن تكون الجماعة شاملة؟ ولا
اعتراض على ذلك، ولكن لماذا أنشأت الجماعة حزب الحرية والعدالة وهو ما لم يأت على ذكره
قط؟ وهل سيعود الحزب لممارسة العمل السياسي وتتفرغ الجماعة لأمور الدعوة والتربية وتتحول
تدريجيا إلى جماعة ضغط، أم يعود الحزب وتظل الجماعة مهيمنة عليه كما كانت؟ أم يعود
الأمر كما كان قبل الحزب باعتبار الجماعة تمارس السياسة ضمن شمول الإسلام وأنه لم يكن
هناك داع لإنشاء الحزب؟
لماذا أنشأت الجماعة حزب الحرية والعدالة وهو ما لم يأت على ذكره قط؟ وهل سيعود الحزب لممارسة العمل السياسي وتتفرغ الجماعة لأمور الدعوة والتربية وتتحول تدريجيا إلى جماعة ضغط، أم يعود الحزب وتظل الجماعة مهيمنة عليه كما كانت؟ أم يعود الأمر كما كان قبل الحزب باعتبار الجماعة تمارس السياسة ضمن شمول الإسلام وأنه لم يكن هناك داع لإنشاء الحزب؟
وهناك أسئلة أخرى
ذات صلة، إذ قدم بين يدي ما أسماه تسوية سياسية؛ عدم الصراع على السلطة، والحقيقة أن
هذا الطرح يلزم لاحترامه وعدم السخرية منه العزوف عن هذا الصراع مع القدرة عليه وتقديم
ضمانات لأجل ذلك، أما الطرح مع عدم القدرة فيثير سخرية الطرف الآخر.
ثم نأتي لمستوى تمثيل
النظام في هذا الحوار -إن كان يمثله حقا- فهو دون أي مستوى يجوز لقاؤه، فضلا عن السفر
إليه، ثم الحرص على أنه من طلب وفي ذات الوقت ذكر وجود وسيطين من المقربين للرئيس مرسي عليه رحمة الله، وهو ما يضعف رواية من الطالب ومن المطلوب، ولو ذكر أنهما ليبراليان
مما يسمى القوى الوطنية -وهي الحقيقة - لكان أقوى، ولكن ليست هذه المشكلة، فأين المشكلة
إذن؟
يستطرد قائلا إنه
كان هناك وعد بالإفراج عن بعض النساء والمرضى وكبار السن فما الذي حدث؟ قال الدكتور: "جاء طوفان الأقصى فعطّل كل شيء"، ربما لانشغال الأطراف. وهذه العبارة عن
طوفان الأقصى نزلت عليّ كالصاعقة، فطوفان الأقصى لا يعطل خيرا ولا يوقف مسارا، بل هو
يحفز ويشجع إذا توفرت النية أصلا، وهل سمعنا بأي شيء آخر عند النظام قد عطله طوفان
الأقصى؟! والمنطق يقول العكس تماما لكنه تعلق بالوهم وتبرير لفشل اللقاء الفاشل أصلا.
ما وددت أن أعرج على
ما جاء بشأن الانقسام في الجماعة وأنه لا يوجد من وجهة نظره غير تفسير خاطئ للائحة
وعلى استعداد للذهاب للمحامين لتفسيرها. وهنا أسأل: أتسري لائحة الظروف العادية على
الظروف الاستثنائية؟ أتسري على ما بعد الفشل الذريع والهزيمة المنكرة والدماء والأشلاء
والمنافي والمعتقلات؟ وقد أضحى معلوما من الواقع بالضرورة أنها كصنم العجوة يُعبد وقت
الضرورة ويؤكل عند الحاجة، ويفسرها كل طرف وفق مراده وحسب هواه.
القضية أكبر من كل
لوائح الدنيا، اللائحة لم تمنع القوم في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ الأمة أن يرتفعوا
فوق دوافع الهوى وشهوات النفوس، بل دأب فريق منهم أن يأكلوا لحوم إخوانهم بألسنةٍ حدادٍ
أشحّة على الخير، لا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة. ولن أطيل في هذه القصة المؤلمة ولكن
أقول ناصحا لله:
١- أستحلفكم بالله أن تكفّوا عن هذه الأطروحات
المضطربة والمتناقضة والتنازلات بلا سبب وبلا عائد يُرجى.
٢- أرجوكم تفرغوا لبناء ما تهدّم وترميم ما تصدّع،
واصنعوا أوراق ضغط جديدة تنفعكم إذا تفاوضتم.
٣- أناشدكم أن تعمدوا إلى عمل تنسيقية بين أطراف
الجماعة تعمل على القواسم المشتركة والأهداف الاستراتيجية بديلا عن إعادة توحيد الصف
إن تعذر، وأياديكم كما تقولون ممدودة وكلاكما يهرول مجيبا دعوة أي ممن تسمون القوى
الوطنية علمانية أو ليبرالية أو يسارية أو بغير هوية، أَوَ ليس بينكم ما يسمح بالتنسيق؟
٤- أُقَبِل أياديكم إن تعذر عمل هذه التنسيقية،
فلا أقل من ميثاق شرف نسميه ميثاق كف الأذى، وهو من بدهيات هذا الدين الذي تزعمون حمل
رايته والجهاد في سبيله. وليعمل كل على شاكلته، "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم
سُبلنا"، ولم يقل سبيلنا، فالسبيل مفرد والسُبُل جمع، فالسبل إلى الله كثيرة والمناهج
متنوعة ولله طرائق بعدد الخلائق، وليكن الاختلاف اختلاف تنوع وتكامل وليس اختلاف تناحر
وتدابر.
٥- أما القابعون في أماكنهم -أسباب الأزمات- اتركوها
لله، فإن كنتم عباقرة فقد قدمتم ما عندكم ونفد رصيدكم، وإن كنتم مخلصين فما حرصكم؟
فلن تبكي عليكم السماء ولن تحزن عليكم الأرض وسيرحم الله بذهابكم ما تبقى ومن تبقى (واتقوا
يوما تُرجعون فيه إلى الله).