قضايا وآراء

ماذا بعد أن تغير مشهد "الانتخابات الرئاسية" في تونس؟

"بحكم الواقع الجديد، يبدو أن الذهاب إلى الدورة الثانية أمر شبه مؤكد"- الأناضول
مهما كانت المآلات الانتخابية للحكم الصادر بإعادة الدكتور عبد اللطيف المكي إلى السباق الانتخابي -نقضا لقرار هيئة الانتخابات ولقرار القضاء الإداري في طَوره الابتدائي- فإنه قد بعثر بصورة جذرية حسابات السلطة وهوامشها الوظيفية، كما أنه قد أعاد هندسة المشهد السياسي بصورة أكدها الحكم الصادر الخميس بإعادة السيد منذر الزنايدي للمنافسة على رئاسة الجمهورية. وقد أثبتت المحكمة الإدارية أن منسوب الثقة الذي تتمتع به منذ أيام المخلوع لم يأت من فراغ، وأنها تظل الجهة المستأمنة بحق على أصوات الناخبين وعلى علوية القانون، كما أثبتت قرارات المحكمة أن قبضة السلطة على القضاء العدلي لا يمكن استصحابها في القضاء الإداري.

تأتي أهمية الأحكام النهائية في النزاعات الانتخابية من أنها لا تقبل الطعن بأي وجه من وجوه الطعن ولو بالتعقيب، كما أنها -عند التنازع- ذات علوية على أحكام القضاء العدلي، إضافة إلى أن أحكامها النهائية ملزمة للهيئة العليا للانتخابات. وإذا ما كانت السلطة التنفيذية -قبل الثورة وبعدها- قد امتنعت عن تنفيذ قرارات القضاء الإداري في النزاعات ذات الطابع السياسي، فإنه لم يسبق لأي هيئة انتخابية بعد الثورة أن فعلت ذلك. وهو ما يرجح إذعان الهيئة الحالية لقرار المحكمة الإدارية، ولكنّ ذلك لن يرفع الإشكال من جهة حيادية هيئة الانتخابات وعدم انحيازها للرئيس المنتهية ولايته، فالهيئة ذات الولاية العامة على الانتخابات، هي هيئة معينة وليست منتخبة كما كان الشأن زمن ما يسميه أنصار "تصحيح المسار" وحلفاؤهم بـ"العشرية السوداء".

أمام هذا "التصحير" للحياة السياسية بسبب الموقف المعادي من لدن "الديمقراطية المباشرة" للأحزاب ولكل الأجسام الوسيطة، يبدو أن قرار المحكمة في شأن السيد المكي (وباقي المترشحين) سيعيد خلط الأوراق في السباق الرئاسي، ولكنّ هذا الخلط لا يعني بالضرورة أن سفينة الانتخابات ستجري رياحها بما تشتهي المعارضة

تبعا للمسار الطبيعي للقضاء في مرحلتيه الاستئنافية والتعقيبية، من المحال "نظريا" أن يصدر حكم بات في قضية الدكتور عبد اللطيف المكي التي اتصل بها القضاء في طوره الابتدائي. وهو ما يعني أنه قد أصبح منافسا جديا للرئيس المنتهية ولايته وللمترشحين الآخرين (السيد زهير المغزاوي والسيد العياشي الزمّال). فالحكم النهائي من القضاء الإداري، يرفع السيف المسلط على المكي بصدور الحكم بسجنه مدة ثمانية أشهر مع حرمانه من الحق في الترشح مدى الحياة. وهو حكم يتقاسمه مع شخصيات أخرى، سواء تلك التي عبرت عن رغبتها في الترشح (الدكتور لطفي المرايحي) أو ترشحت فعليا (السيد نزار الشعري) وغيرهما، بالإضافة إلى وجود أغلب الأمناء العامين للأحزاب الكبيرة في السجن بسبب قضايا تتعلق بالتآمر على أمن الدولة وغيرها.

وأمام هذا "التصحير" للحياة السياسية بسبب الموقف المعادي من لدن "الديمقراطية المباشرة" للأحزاب ولكل الأجسام الوسيطة، يبدو أن قرار المحكمة في شأن السيد المكي (وباقي المترشحين) سيعيد خلط الأوراق في السباق الرئاسي، ولكنّ هذا الخلط لا يعني بالضرورة أن سفينة الانتخابات ستجري رياحها بما تشتهي المعارضة.

إثر صدور قرارات المحكمة الإدارية بصورة رسمية يوم الخميس (29 تشرين الأول/ أكتوبر)، تأكد قبول اعتراض السيد منذر الزنايدي أصلا وشكلا مما يعني عودته للسباق الرئاسي، أما السيد عماد الدايمي فقد تأكدت عودته للسباق الانتخابي الجمعة (٣٠ تشرين الأول/ أكتوبر) بعد تمديد المفاوضات في شأنه يوما كاملا للبت في مطلب الطعن في القرار الابتدائي. وفيما يتعلق باعتراض الأستاذة عبير موسي -وهي شخصية سياسية "تجمعية" وازنة فيما يسمى بـ"العائلة الدستورية"- فقد رُفض طعنُها أصلا لا شكلا. ورغم أن هذا الحكم يُخرج زعيمة "الحزب الدستوري الحر" نهائيا من السباق الرئاسي، فإنه سيجعل قاعدتها الانتخابية الصلبة رقما مهما في المعادلة السياسية المتحكمة في نتائج الانتخابات.

لقد أصبح السباق الانتخابي بعد هذه الأحكام القضائية مجالا لتنافس شخصيات وازنة وذوات خلفيات أيديولوجية مختلفة. ونحن نتحدث عمدا عن اختلاف المرجعيات الأيديولوجية لأننا نعتقد أن ذلك سيكون محددا أساسيا في خيارات الناخب كما كان الشأن خلال عشرية الانتقال الديمقراطي، وهو معطى لا يمكن الجزم بأنه سيصب في خزائن معارضي الرئيس بالضرورة.

التكهن بنتائج الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية أمر أقرب إلى التخمين، فبحكم عدم وجود عمليات سبر آراء موثوقة تحدد الحجم الانتخابي للمتنافسين، بحكم حركية المشهد السياسي وانقلابات المواضع والمواقف، فإنه لا يمكن الجزم بقيمة أي مترشح من جهة التأييد الشعبي سواء داخل النخب أو في صفوف "الأغلبية الصامتة"

بعد أن أعلن المترشح زهير المغزاوي انفصاله عن سردية 25 تموز/ يوليو 2021 دون إعلان عزمه العودة إلى دستور 2014، وبعد تحدثه عن وجوب بناء سردية 26 تموز/ يوليو مقابل سرديتي 24 تموز/ يوليو (ما يسميها بـ"العشرية السوداء") و25 تموز/ يوليو (سردية الحكم الفردي والفشل في الأداء)، فإن الرئيس المنتهية ولايته يدخل السباق الانتخابي مدافعا أوحد عن سردية تصحيح المسار وعن دستور 2022، وهو ما يعني مبدئيا حدوث انشقاق عميق في قاعدة "تصحيح المسار" كما عرفتها تونس قبل الانتخابات. فقد كانت تلك القاعدة الانتخابية مشكّلة من أنصار "الديمقراطية المباشرة" وحلفائهم في اليسار الوظيفي (خاصة حركة الشعب والوطد) وبعض ورثة التجمع ممن انتموا سابقا إلى نداء تونس وشقوقه، أما الآن فإن ترشح المغزاوي والزنايدي والزمال سيُضعف القاعدة الانتخابية للرئيس في خندق ما يسمى بـ"العائلة الديمقراطية"، ولكنّ تنافس الزنايدي والزمال على أصوات القاعدة الانتخابية ذاتها خلال الدور الأول، قد يضعف حظوظهم جميعا في المرور إلى الدور الثاني.

بعد عودة السيد الدايمي إلى السباق الانتخابي، من المتوقع أن تتوزع أصوات القاعدة الانتخابية الداعمة للمعارضة الجذرية بينه وبين الدكتور المكي، وهو ما قد يُضعف حظوظهما معا في المرور إلى الدور الثاني. ورغم أن الأمر الرئاسي الذي دعا المواطنين إلى الانتخابات يوم 6 تشرين الأول/ أكتوبر لم يتحدث عن دور ثان في الانتخابات، فإن الدور الثاني هو جزء من العملية الانتخابية دستوريا وقانونيا. فدستور 2022 يوكد أنه "في صورة عدم حصول أي من المترشحين على الأغلبية المطلقة في الدورة الأولى، تنظم دورة ثانية خلال الأسبوعين التاليين للإعلان عن النتائج النهائية للدورة الأولى". وبحكم الواقع الجديد، يبدو أن الذهاب إلى الدورة الثانية أمر شبه مؤكد، ولكنّ غير المؤكد هو وجود الرئيس بعد الدورة الأولى أو وجود أي مترشح آخر على وجه التعيين.

يبدو أن التكهن بنتائج الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية أمر أقرب إلى التخمين، فبحكم عدم وجود عمليات سبر آراء موثوقة تحدد الحجم الانتخابي للمتنافسين، بحكم حركية المشهد السياسي وانقلابات المواضع والمواقف، فإنه لا يمكن الجزم بقيمة أي مترشح من جهة التأييد الشعبي سواء داخل النخب أو في صفوف "الأغلبية الصامتة". ورغم أنه من المستبعد أن يتنازل أحد المترشحين في الدورة الأولى لمن يشترك معه في القاعدة الانتخابية نفسها، من المرجح أن تكون قاعدته الانتخابية رافدا مهما للمترشح الشبيه الذي سيمر إلى الدورة الثانية.

من جهة اليسار الماركسي الذي لا مرشح له في الانتخابات، من المرجح أن تصوّت مكونات الوطد (العائلة الوطنية الديمقراطية) للرئيس في الدورة الأولى والثانية في صورة نجاحه في المرور، كما نتوقع أن تصوت للسيد الزنايدي إذا مرّ للدور الثاني وكان منافسه قريبا من حركة النهضة أو غير معاد لها. أما باقي مكوّنات اليسار فمن المرجح -في صورة عدم امتناعها عن التصويت- أن تميل إلى السيد منذر الزنايدي بمنطق "الانتخاب المفيد"، بل ربما ستساند الرئيس قيس سعيد في الدور الثاني إذا كان منافسه محسوبا على حركة النهضة. فنحن لا نتوقع أن تساند العائلات اليسارية -بما فيها القوى المنتمية للمعارضة- السيد عبد اللطيف المكي أو السيد عماد الدايمي بعد عودته للسباق الانتخابي.

فيما يتعلق بجبهة الخلاص الوطني -بمكوناتها المختلفة، خاصة حركة النهضة- فإن المتوقع هو أن تغادر مربع التردد أو "تحرير المبادرة" دون ضبط أو توجيه. ولكن لا يمكن الجزم في مستوى تحديد هوية المرشح الأمثل للجبهة

أما فيما يتعلق بجبهة الخلاص الوطني -بمكوناتها المختلفة، خاصة حركة النهضة- فإن المتوقع هو أن تغادر مربع التردد أو "تحرير المبادرة" دون ضبط أو توجيه. ولكن لا يمكن الجزم في مستوى تحديد هوية المرشح الأمثل للجبهة، فربما تعلن الجبهة بوضوح مساندتها لمرشح أو أكثر من المحسوبين على المعارضة الجذرية (السيد الدايمي أو السيد المكي)، ولكنها قد تعلن أيضا مساندتها لأحد أنصار المصالحة وطي صفحة "تصحيح المسار" في المعسكر الدستوري (خاصة السيد منذر الزنايدي) وذلك من باب استئناف الخيار التوافقي (رغم آثاره الكارثية على مرحلة الانتقال الديمقراطي).

وإذا ما التزمت هيئة الانتخابات بأحكام القضاء الإداري ولم تنصب نفسها سلطة "ما فوق تعقيبية" (وهو أمر غير مؤكد بعد تصريحات رئيسها فاروق بوجعفر)، فلا شك عندنا في أن الخيار الانتخابي سيكون خاضعا بدرجة كبيرة للمحدد الهوياتي، خاصة لدى النخب المؤدلجة، كما سيكون لحسابات حركة النهضة وحلفائها -بالإضافة إلى ورثة المنظومة القديمة من الرافضين لتصحيح المسار- تأثير مؤكد في تحديد هوية المتنافسين في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية.

x.com/adel_arabi21