لم تشهدْ السياسةُ على مدى التاريخ تصرفًا
يُورِدُ المهالك كذاك الذي وقع يوم أن طلب الرئيس المصريّ من نظيره الأثيوبيّ أن
يقسم بالله أمام الكاميرا أنّه لن يتسبب للمصريين بأيّ ضرر! فها هي
مصر اليوم
تتعرض لأكبر تهديد وجوديٍّ لها منذ أن دَحَى اللهُ الأرضَ ونَصَبَ الكنانة على
مفرق رأسها كشراع الطاووس، ففي الوقت الذي شرعَتْ فيه أثيوبيا في الملء الخامس لسد
النهضة دون أدنى اكتراث بالشأن المصريّ فوجئ الشعبان المنكوبان في وادي
النيل
بدولة جنوب السودان - صاحبة الحظوة لدى النظام المصريّ - تنضم إلى الدول الموقعة
على اتفاقية "عنتيبي"؛ ليكتمل بذلك النصاب القانوني ولينطلق قطار
المفاوضات على ماء النيل بعيدًا عن مصر والسودان وعن حقوقهما التاريخية في النهر
السعيد! فأمّا النظام المصريّ فمشغولٌ بملاحقة "هاكر" كان يلهو بالصور
في شارع فيصل! وبمداهمة امرأة عجوز طمعت في أرغفة من خبز تزهد فيه الكلاب الضالة،
وأمّا الشعب المصريّ فمذبوح من الوريد إلى الوريد غير أنّه ـ بالتعبير الدارج عنده
ـ سرقته السكين؛ فهل لهذه القاصمة من عاصم؟
تآمر دول حوض النيل
ليس لدى دول حوض النيل أزمةٌ تتمثل في نقص
المياه، ولا يمنعها من إيفاء مصر والسودان حقّهما مجرَّدُ الرغبة في إنشاء محطات
لتوليد الكهرباء؛ فلذلك حلول فنيّة عند أهل الاختصاص، ولو أنّ الدبلوماسية المصرية
حاضرة في المشهد لما وقعت
الأزمة على هذا النحو المزلزل، ولكنّ غياب مصر من الساحة
الأفريقية عمومًا ومن حوض النيل خصوصًا، مع التواجد النشط لإسرائيل ولدولةٍ عربيةٍ
تُعَدُّ الحليف الاستراتيجيّ للصهاينة؛ أدّى إلى خضوع هذه الدول للإغراءات، مع قدر
غير قليل من الطمع، الذي جعلها تتطلع إلى غاية منحرفة: ادفعْ لتشرب! ولم تكتف
إثيوبيا ببنائها لسد النهضة وتجاوزها لكل الخطوط الحمراء ودهسها لجميع الاتفاقيات
المبرمة بينها وبين مصر؛ حتى شرعت في حماية تصرفاتها تلك بسياج من الشرعية،
فانطلقت تدعو دول المنبع لتأسيس (مفوضية حوض النيل).
ليس لدى دول حوض النيل أزمةٌ تتمثل في نقص المياه، ولا يمنعها من إيفاء مصر والسودان حقّهما مجرَّدُ الرغبة في إنشاء محطات لتوليد الكهرباء؛ فلذلك حلول فنيّة عند أهل الاختصاص، ولو أنّ الدبلوماسية المصرية حاضرة في المشهد لما وقعت الأزمة على هذا النحو المزلزل
ولكي تظفر بهذه الغاية سعت بين هذه الدول
لتكوين ما سمي (اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل) التي أبرمت في مدينة
"عنتيبي"، إلا أنّ النصاب القانوني لم يكتمل بتوقيع الدول الخمس
(إثيوبيا ورواندا وتنزانيا وأوغندا وبورندي)، وظلت معلقة أربعة عشر عامًا حتى جاءت
جنوب السودان بضغط من الدولة العربية المشار إليها آنفًا، وتحت إغراء قرض ضخم؛
لتفاجئ الجميع وتوقع على الاتفاقية، وبذلك اكتمل النصاب القانوني لتولد المفوضية
بشكل رسميّ، وبقيام المفوضية تكون الحقوق التاريخية لمصر والبالغة 55.5 مليار متر
مكعب سنويّا في مهبّ الريح، ومثلها حقوق السودان والبالغة 18.5 مليار متر مكعب
سنويّا، وبذلك يحقّ لآبي أحمد الذي أقسم لرئيس مصر أنّه لن يضرّ بالمصريين أن
يستأصل خضراءهم بالقانون، وقد رحب بالخطوة الأخيرة وعدّها إنجازًا دبلوماسيًّا
هائلا لبلاده.
وكان الاحتلال أشدّ حرصًا!
وإن تعجب فعجب شأن السياسة في بلادنا! أيبلغ
الأمر بنا أن يكون الاحتلال الإنجليزيّ لمصر والسودان أشدّ يقظة وأكثر حرصًا؟ لقد
أبرمت بريطانيا في عام 1981 ـ باسم مصر والسودان ـ اتفاقًا مع "إيطاليا"
التي وقعت باسم إريتريا؛ يقضي بالمنع من إقامة أعمال أو سدود على نهر عطبرة يكون
من شأنها التأثير على مياه نهر النيل، ثم أبرمت بالنيابة عن مصر والسودان أيضًا
اتفاقا مع إثيوبيا عام 1902 تتعهد الأخيرة بمقتضاه بعدم القيام بمشاريع على النيل
الأزرق أو بحيرة تانا تؤدي إلى التأثير في مياه النيل إلا بعد موافقة الحكومة
البريطانية، ثم جاءت أهم الاتفاقيات عام 1929 عندما أبرمت الحكومة البريطانية -
نيابة عن عدد من دول حوض النيل - اتفاقية تتضمن إقرار هذه الدول بحصة مصر المكتسبة
من مياه النيل، بما يعني منع إنشاء هذه الدول لمشاريع تهدد أمن مصر المائي، أمّا
اتفاقية 1959 فجاءت مكملة بتحديد حصة مصر والسودان فيما يسمى اليوم بالحقوق
التاريخية.
بين الحقّ والواجب
ليس للناس حق ـ بعد الأرض التي يحيون عليها ـ
أولى بالصيانة من حقهم في الماء الذي ساقه الله إليهم؛ لذلك كثرت المعاهدات
الدولية التي أُبرمت لحسم الصراعات المائية؛ خشيةَ أن تشتعل الحروب التي لا تطفئها
كل أنهار العالم، وقد جاءت ملبيةً لنظرية "الوحدة الإقليمية المطلقة للأنهار
الدولية"، ونظرية "الملكية المشتركة"، وهي نظريات مستمدة من روح
القانون الطبيعيّ، الذي أودعه الله تعالى في كونه وفي فطرة خلقه، ولا أحسب أنّه -
فيما يتعلق بالأنهار والمياة - يبعد عن قوانين الشريعة ولو بمقدار رشفة ماء، فإنّ
الله عزّ وجلّ هو الذي خلق الأرض وأجرى فيها الأنهار، وسخرها وأنهارها لعيش
الإنسان، قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ . وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) فلا يملك أحد
صَرْفَ ما خلقه الله وسخره للإنسان عن طبيعته التي أوجده الله عليها لمجرد قيام
الحدود السياسية في حياة البشرية؛ فليس للأثيوبيين ولا لغيرهم حقّ فيما يفعلون،
وحقّ الشعب المصريّ في حماية أمنه المائيّ حق تحرسه الشريعة والفطرة والقوانين
الدولية والمعاهدات المتوالية المتواترة.
أين السبيل؟
يكاد إجماع فقهاء القانون الدوليّ ينعقد على
أنّ المعاهدات الدولية المتعلقة بالأنهار ـ والتي بلغ تعدادها حوالي 250 معاهدة ـ
أنشأت عرفا دوليا مطّردًا ومستقراً يصح الاستناد عليه في حسم النزاع بين الدول
المحتضنة للأنهار العابرة للحدود السياسية، ومن المعلوم أنّ الاتفاقيات الدولية
تُعَدُّ المصدر الأول للقانون الدوليّ، وعلى التوازي يكاد إجماع السياسيين
والمراقبين ورجال الفكر السياسيّ وأرباب الممارسة السياسية ينعقد على أنّ القانون
الدوليّ ومعه المعاهدات التي أرفدته بالقواعد القانونية ليس كافيًا في حسم النزاع
على المياه ولا في مواجهة تحدي الأمن المائي؛ إذْ لا بدّ من توافر عامل القوة الذي
يفيد في إلزام الخصم بهذه القواعد وتلك الأعراف، والسبب في ذلك هو "هشاشة
القوة الإلزامية لقواعد القانون الدولي"؛ النابعة من تهافت وصف
"الوضعية" الذي يجعل القانون صادراً عن إرادة مُجْبِرة، فكل أمّة
تُعْمِل قوتها على أرض الواقع لتصنع لنفسها وضعًا مريحا في العلاقات الدولية.